وقف الأرض هرباً من الشفعة

 

وقف الأرض هرباً من الشفعة

أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

الوقف قربة من أعظم القرب إلى الله تعالى، فالله لا يقبل إلا الطيب من الأعمال الطيبة الصالحة قال تعالى {إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر من الآية 10 ] لذلك لا يصح الوقف هرباً من شفعة، لأن في ذلك كيد وحيلة وإنتقام وتشفي بالشافع، وذلك يورث الضغائن بين المسلمين ، وقد اشار إلى هذه المسألة الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 25-12-2012م في الطعن رقم (47542)، الذي ورد ضمن أسبابه: ((وحيث أن الطاعن قد أدعى أنه حينما أكتشف أن الأرض التي اشتراها من بيت.... محل الشفعة هي مقبرة لذلك فقد قام بوقفها مقبرة عامة للمسلمين وحرر بها وقفية وتم ادراجها ضمن أملاك الأوقاف العامة، وبذلك فإن الأرض محل الشفعة قد خرجت من ملكه إلى ملك الله تعالى، والدائرة : تجد أن هذا الأمر  يكذبه محضر المعاينة الذي أوضح أن هناك المقبرة القديمة في القسم الأعلى وليست المقبرة في الارض المشفوعة، ولذلك فإن الطعن في غير محله مما يتعين رفضه)) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الأتية :

الوجه الأول: معنى الشفعة:

الشفعة: هي وسيلة تملك جبرية، إذ ان الشفيع يتملك العين جبراً عن مالكها البائع لها ومشتريها، وفي هذا المعنى نصت المادة (1255) مدني على أن (الشفعة هي حق تملك عين ولو جبراً ملكت لآخر بعقد صحيح بعوض مال معلوم على أية صفة كانت مثلية او قيمية منقولة او غير منقولة بما قام عليها العوض او المؤن).

الوجه الثاني: معنى الوقف:

الوقف: حبس المال من التداول في ملكيته ، فتكون ملكية رقبة المال الموقوف لله سبحانه وتعالى على سبيل التابيد خالدة تالدة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فلا يجوز بيع مال الوقف او شراؤه، ويتم صرف عائدات المال الموقوف في الاغراض التي حددها الواقف، ويتفق الوقف العام والوقف الخاص في ان مالك الرقبة فيهما هو الله تبارك وتعالى .

الوجه  الثالث : المقصود بالوقف هربا من الشفعة وموقف قانون الوقف منه :

 المقصود بالوقف هربا من الشفعة : ان شخصا يشتري مالا مخالطا لأموال آخرين فيطلبوا من المشتري الشفعة فيما شراه فيهرب من التسليم بالشفعة لصاحبها فيقوم بوقف الأرض المشفوعة حتي يحرم الشافع من حقه الشرعي في الشفعة.

 ويصرح قانون الوقف الشرعي بعدم صحة الوقف هربا من الشفعة، إذ  نصت المادة( 16 ) من قانون الوقف على أنه(  لايصح الوقف فرارا من دين أو شفعة ولابحيلة كالتحايل على أحكام الارث)، فالواقف الفار من الشفعة لايبتغي بفعله مرضاة الله تعالى أو التقرب إليه، وإنما يهدف من فعله الانتقام والنكاية بالشافع وحرمانه من حقه الشرعي في الشفعة التي شرعها الله في القرآن الكريم دفعا لمضار الخلطة في أصل المال أو الطريق إليه أو مساقيه التي يشرب منها المال ، لأن الخلطة في الأموال سبب للخلاف والنزاع بين الشركاء الخلطاء فقد قال تعالى( وان كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ماهم)، فالوقف فرارا من الشفعة يؤدي إلى حرمان الشافع من حقه الشرعي في الشفعة، ومن ثم دخول شريك للشافع يكون سببا في إثارة النزاع والتخاصم بين المسلمين بدلا من التواد والتراحم الذي ينبغي أن يسود بين المسلمين، علاوة على أن الوقف فرارا من الشفعة  يعد من قبيل الحيلة من المشفوع منه على الشفيع، فالمشفوع منه لايريد الوقف لله تعالى حقيقة وإنما يتوسل بالوقف لتعطيل حق شرعي وهو حق الشفعة.

الوجه الرابع : معنى القربة في الوقف وتنافيها مع الوقف بغرض الهروب من الشفعة :

القربة: هي ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى من اعمال البر والطاعات ، فالقربة كل ما يتقرب به العبد إلى الله كالطاعات ونحوها، واصل القربة من القرب وهو الدنو، وتطلق القربة على الاقتراب، ولذلك سمى العمل الصالح قربة، لأن العبد يقصد بعمله الاقتراب من الله تعالى. (لسان العرب، مادة قرب)، وعلى هذا الأساس فإن معنى القربة في الوقف ان يكون قصد الواقف من وقفه هو التقرب من الله تعالى( أحكام الوقف، الشيخ محمد ابو زهرة، ص46).

وبتطبيق مفهوم القربة على الوقف هربا من الشفعة نجد أنه لا قربة في هذا النوع من الوقف بل أنه معصية لله تعالى لتعطيله حق الشفعة وهو حق شرعي له اهدافه وحكمه في الشريعة الإسلامية، فضلا عن ان الوقف هربا من الشفعة يؤدي إلى الوحشة والنفور والعدواة  بين المسلمين، وعلى هذا الأساس فان القربة منتفية في الوقف فرارا من الشفعة.

الوجه الخامس : التعرف على القربة في الوقف:

تتعلق القربة في الوقف  بالنية ، لأن إرادة فعل الخير أو القربة أمر باطني خفي لايعلمه الا الله الذي يعلم خائنة الأعين وماتخفي الصدور ، إلا أنه من الممكن التعرف  على القربة عن طريق معرفة الغرض من الوقف أو  معرفة مصرف الوقف الذي حدده الواقف ، فإذا كان الموقوف عليهم أو مصرف الوقف يندرج ضمن اعمال البر والإحسان والأعمال الصالحة التي تحث عليها الشريعة الإسلامية  فقد تحقق معنى القربة في الوقف، مثل الوقف على بناء المساجد والمدارس والمستشفيات والملاجئ والجامعات والمعاهد وإطعام الفقراء والمساكين وعابري السبيل، ولذلك فقد قضى الحكم محل تعليقنا بأن الوقف هربا من الشفعة ليس وقفا لانعدام القربة في هذا التصرف بل أنه معصية لله تعالى الذي لايقبل الا القرب الطيبة التي تطيب بها وعنها الأنفس .

الوجه السادس : القربة في قانون الوقف الشرعي وانتفاء القربة في الوقف هربا من الشفعة :

لأهمية القربة في الوقف فقد تناولها قانون الوقف في نصوص عدة مؤكداً على ان القربة معتبرة في الوقف فهي عماد الوقف وركيزته ، فقد نصت المادة (2) من قانون الوقف على ان (الوقف هو حبس مال والتصدق به بمنفعته لقربة تأبيداً)، فالقربة معتبرة في هذا النص الذي عرف الوقف، واشار هذا النص إلى ان القربة: هي صرف حاصلات الوقف في الأعمال الصالحة واعمال البر والإحسان، وفي هذا السياق نصت المادة (5) من قانون الوقف على انه ( يكون الوقف بايجاب من الواقف يقف به مالا معيناً منقولاً أو غير منقول مملوكاً له ويتصدق بمنفعته أو ثمرته على معين شخصاً كان أو جهة عامة أو خاصة، ويجب أن يقترن الايجاب بنية القربة إلا أنه في غير الصريح لابد من دلالة يظهر بها مراد الواقف )، وقد اشترطت هذه المادة ان يحدد الواقف اوجه البر والإحسان التي تصرف عليها عائدات الوقف حتى تكون القربة في الوقف ظاهرة أو يتم الإستدلال  من خلالها على نية القربة، وكذا اشترطت المادة (7) من قانون الوقف في الوقف بالفعل ان تكون القربة ظاهرة في هذا الوقف كنصب جسر للمارة أو انشاء سد ماء لشرب الناس والدواب، واجازت المادة (33) من قانون الوقف الوقف على بعض الورثة إذا تحقق فيهم معنى القربة، كالوقف على الضعفاء والمساكين من ذرية الواقف أو الوقف على العاجز منهم كالأعمى والاشل أو طالب العلم او المنقطع للعبادة، ولذلك فقد قضى الحكم محل تعليقنا  بعدم  صحة وقف المشفوع منه للأرض التي اشتراها بقصد تملكها لنفسه ولكن حينما طلب الشريك المخالط الشفعة فيها  قام المشتري المشفوع منه بوقفها مقبرة لعامة المسلمين، فالمشتري قد أوقف الأرض المشتراة بعد ان طلب شفعتها الشافع الذي ماله يخالطها، فلم يقصد المشفوع منه في هذا الوقف القربة لله تعالى وإنما  قصد بذلك الانتقام من الشفيع وتعطيل حقه الشرعي في الشفعة، فالقربة منتفية في الوقف هربا من الشفعة   أي ان القربة منتفية في  هذا النوع من الوقف، فالوقف في هذه الحالة يتضمن معصية لما فيه  من إثارة الفرقة والنفور والوحشة بين المسلمين وتاجيج الصراعات وروح الانتقام ، ومن هذا المنطلق فإن الوقف هربا من الشفعة ليس له من الوقف الا الاسم والرسم، فليس وقفا في الحقيقة. 

الوجه السابع : الوقف هربا من الشفعة من قبيل الحيلة التي تبطل الوقف :

 سبق القول بأن الوقف قربة يتقرب بها العبد إلى ربه، فالله تعالى طيب لا يقبل إلا الطيب من الأعمال، فالعمل والتصرف الذي ينطوي على حيلة لا يكون طيباً بل أنه خبيث، لان الحيلة محرمة في الشريعة الإسلامية ، فالشريعة  تحرم الحيل مطلقاً عملاً بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم {ولا تكونوا كاليهود فتستحلوا ما حرم الله بأدنى الحيل}، بل ان الفقه الإسلامي كله عدا بعض الحنفية قد ذهب إلى تحريم الحيل حتى لو كان الغرض منها إحقاق حق أو إبطال باطل، ولذلك فإن الحيل محرمة مطلقا ، فلا يكفي ان يكون الغرض منها مشروعاً بل يجب ان تكون الوسيلة للوصول إلى الغرض مشروعة أيضاً، فلا تعرف الشريعة الإسلامية المفهوم الغربي  البرجماتي( الغاية تبرر الوسيلة)، (تفسير آيات واحاديث الأحكام، أ.د. عبدالمؤمن شجاع الدين، ص215)، وعلى هذا الأساس فإن الشريعة الإسلامية تحرم الحيلة في الوقف، فإذا انطوى الوقف  على حيلة بطل الوقف، وقد اقتفى قانون الوقف الشرعي اليمني أثر الفقه الإسلامي، حيث صرح بأن الوقف لايكون صحيحاً إذا انطوى على حيلة اي  ان الوقف يكون باطلا ، وفي هذا المعنى نصت المادة (16) من قانون الوقف على أنه (لا يصح الوقف فراراً من دين أو شفعة ولا بحيلة كالتحايل على أحكام الإرث).

فقد أدرج هذا النص الوقف هربا من الشفعة مع الحيلة للتأكيد على أن حكمهما واحد وهو عدم صحة الوقف فيهما ، فمعني الحيلة متحقق في الوقف هربا من الشفعة، لأن المشفوع منه لايقصد الوقف حقيقة وإنما يقصد الحيلة على الشفيع والانتقام منه وتعطيل حقه الشرعي في الشفعة .

الوجه الثامن : الحيلة مطلقا تبطل الوقف:

صرحت المادة (16) من قانون الوقف بأن الحيل بمختلف انواعها وصورها تبطل الوقف، لأن صيغة الحيلة في المادة المشار إليها صيغة عامة تفيد العموم في الحيل كافة، فالتحايل على أحكام الإرث المذكورة في المادة المشار إليها هو مثال للحيل التي تبطل الوقف، إضافة إلى ان المادة (16) قد صرحت ببطلان الوقف إذا انطوى على حيلة، وذلك ظاهر من صيغة النص، وهو قوله (لا يصح الوقف) إذا انطوى على حيلة، فذلك يعني عدم صحة الوقف إذا انطوى على حيلة أي ان الوقف يكون باطلاً في هذه الحالة، وبما ان الحيل عامة تبطل الوقف، فإن هذه الحيل تتنوع إلى أنواع شتى منها الحيلة على بعض الورثة كأن يقوم الواقف بوقف بعض ماله لبعض الورثة دون غيرهم من غير قربة، فالواقف في هذه الحالة لا يهدف إلى التقرب إلى الله ببعض ماله وإنما يقصد الاحتيال بالوقف على بعض الورثة وحرمانهم البعض من حقهم الشرعي في الارث ، كذلك إذا قام الواقف بوقف كل ماله على الذكور من ذريته من غير قربة كالضعف والمسكنة أو المعيشة، وكذا تتحقق الحيلة في الوقف هربا من الشفعة لأن الواقف في هذه الحالة لا يقصد الوقف حقيقة وإنما يقصد الاحتيال على الشفيع ، وهناك صور أخري كثيرة للحيلة في الوقف  كالإضرار بالورثة أو الأقارب، وكذا الوقف بقصد الإضرار بالدائنين أو هروباً من الدين  حسبما ورد في نص المادة (16) وقف السابق ذكرها.

الوجه التاسع :  آثار بطلان الوقف هربا من الشفعة:

صرحت ببطلان الوقف في هذه الحالة  المادة (16) وقف السابق ذكرها التي نصت على أن الوقف هربا من الشفعة لا يصح،  أي ان الوقف يكون في هذه الحالة باطلا ، وهذا يعني ان المال لا يخرج من ذمة المشتري المشفوع منه ولا يدخل ضمن أموال الوقف، فلا تسري عليه أحكام أموال الوقف لانه باطل ، فيتم  تمكين الشافع من حقه في الشفعة، حسبما قضى الحكم محل تعليقنا.

الوجه العاشر : عدم جواز الشفعة في الوقف :

  مثلما لايصح الوقف هربا من الشفعة فلاتصح الشفعة في مال الوقف، لأن الشفعة وسيلة جبرية لتملك المال ومال الوقف محبوس لايجوز تملكه لغير الله تعالى، إضافة إلى ان ملكية الرقبة في مال الوقف بصفة عامة تكون لله تبارك وتعالى، ولذلك فإن حق الموقوف عليهم او المنتفعين بأعيان الوقف يقتصر على الإنتفاع بأموال الوقف او الصرف عليهم من عائداتها، والشرع والقانون لا يجيزا الشفعة في حق الإنتفاع بالوقف، وفي هذا المعنى نصت المادة (1260) مدني على أنه (يشترط لصحة الشفعة ما يأتي: -١- ان يكون المشفوع عيناً فلا تصح الشفعة في المنافع ولا فيما لا يباع من الحقوق)، وبناء على ذلك لاتجوز الشفعة في منفعة الوقف أو الإنتفاع بمال الوقف، (محاضرات في الوقف للشيخ محمد ابي زهره، ص١٤٢).

الوجه الحادي عشر : الشفعة في مال الوقف وتعطيل صلاحيات متولي الوقف:

لكل وقف متولي يحدده الواقف في وقفيته، ووظيفة متولي الوقف المحافظة على أعيان الوقف وإدارتها وإستثمارها وتأجيرها للمنتفعين بها وتحصيل حقوق الوقف، فمن حق متولي الوقف ان يقرر ويختار الأجير المناسب للوقف بحسب مصلحة الوقف ، في حين ان الشفعة تصادر صلاحيات متولي الوقف في تحديد وإختيار الأجير المناسب لمال الوقف، فمال الوقف ينتقل بالشفعة إلى الشفيع جبراً عن متولي الوقف، ولأن الشفعة تمليك جبري فإن الشفعة تنقل مال الوقف إلى غير أجير الوقف من غير إذن متولي الوقف، وفي ذلك افتيات خطير على سلطات متولي الوقف واختصاصاته.

الوجه الثاني عشر : تنافي الشفعة في الوقف مع غرض الواقف والقربة في الوقف:

من المقرر شرعا وقانوناً ان عبارة الواقف كنص الشارع من حيث تنفيذها والعمل بموجبها، فالواقف يحدد في وقفيته المنتفعين بأعيان الوقف والمنتفعين بعائدات الوقف والمتولين للوقف، وبما ان الشفعة تنقل مال الوقف جبراً من شخص إلى غيره، فأنها تتعارض مع إرادة الواقف وعبارته ، والله اعلم.