دستورية صدور تراخيص مزاولة المهن الطبية من المجلس الطبي
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون –
جامعة صنعاء
قضى
الحكم محل تعليقنا بأن المادة ( 10 ) من قانون المجلس الطبي التي اناطت بالمجلس
الطبي إصدار تراخيص مزاولة المهن الطبية لاتخالف الدستور، وقد قضى الحكم بذلك في
دعوى عدم دستورية المادة (10) من قانون المجلس الطبي التي اناطت بالمجلس الطبي
إصدار تلك التراخيص، حسبما ورد في الحكم الصادر عن الدائرة الدستورية بالمحكمة
العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 1-6-2004م في الدعوى بعدم دستورية القانون رقم
(28) لسنة 2000م بشأن المجلس الطبي، فقد ورد في دعوى عدم الدستورية: (أن المادة
(10) من قانون المجلس الطبي تنص على: يتولى المجلس الطبي التسجيل وإصدار رخص
مزاولة المهنة على أن يتم البت في التسجيل وإصدار التراخيص خلال شهر من تاريخ
تقديم الطلب، ذويشترط أن يكون مسجلاً في سجلات النقابة)، فهذا النص يخالف المادة ( 2) من الدستور التي تنص على أن:
الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات، فهذا النص قد خالف الإجماع وهو مصدر من مصادر
الشريعة الإسلامية، فالتشريعات الطبية
المحلية والعربية والإسلامية قد اجمعت على
جعل تصاريح مزاولة المهنة من إختصاص النقابات المهنية الطبية وليس المجلس الطبي ،
ولذلك فهذا النص قد خالف أحد مصادر الشريعة الإسلامية وهو الإجماع)، وقد جاء ضمن
أسباب حكم الدائرة الدستورية: ((وفي شأن القول بأن المادة (10) من قانون المجلس
الطبي قد خالفت الدستور عندما اناطت بالمجلس الطبي تسجيل وإصدار
رخص مزاولة المهنة بشرط أن يكون مسجلاً في سجلات النقابة، وان هذا قد خالف
المادة (2) من الدستور التي نصت على أن: الشريعة الإسلامية مصدر جميع
التشريعات وأن هذا النص مخالف الإجماع وهو أحد مصادر الشريعة الإسلامية لان النص المشاراليه مخالف لإجماع التشريعات
العربية والإسلامية التي تجعل تصاريح مزاولة المهنة من إختصاص النقابات المهنية
الطبية مستدلاً بما هو عليه الحال في جمهورية مصر العربية وغيرها، والدائرة تجد أن
القول مردود عليه: لأن هذا الأمر يتعلق أولاً بملائمة التشريع من عدمه، وذلك من
إختصاص السلطة التشريعية، كما أن الإجماع لا ينصرف إلى المدلول الذي ذكره المدعي، فالإجماع
يعرف بأنه: إتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة النبي صلى
الله عليه وآله وسلم على حكم شرعي في واقعة، فالمدعي اقحم الإجماع
إقحاماً بخلاف مقاصده، وبالإطلاع على تكوين المجلس الطبي حسبما هو مقرر في
المادة (4) من قانون المجلس نجد أن قوامه (15) عضواً منهم (7) اعضاء بينهم نقيب
الأطباء ونقيب الصيادلة واطباء آخرون يرشحهم المكتب التنفيذي للنقابة، ومعلوم أن
كل دولة محكومة بنصوص دستورها، ولا قياس في ذلك على ماهو الحال في الأمثلة التي
ساقها المدعي، ففي دستور مصر كانت المادة (56) من الدستور هي السند الدستوري الذي الزم
النقابات بمسائلة اعضائها عن سلوكهم في ممارسة نشاطهم وفق مواثيق شرف أخلاقية، وتبعا
لذلك اناط بالنقابات إصدار رخص المهنة،
اما الحال في الدستور اليمني فأنه لم يتبنى هذا الاتجاه واحال الدستور في المادة
(29) منه للقانون تنظيم العمل النقابي والمهني، فقد اختار المشرع في هذا القانون
المذهب المختلط في الرقابة ومساءلة اعضاء نقابة المهن الطبية في مجلس يصل تمثيل
النقابات فيه إلى ما يقارب نصف قوامه، وذاك اختيار السلطة التشريعية وهو شأنها،
وليس فيه مخالفة للنص الدستوري، كما أن القانون لم يجز للمجلس تسجيل وإصدار رخص
مزاولة المهنة مالم يكن طالب الرخصة مسجلاً في سجلات النقابة اتساقاً مع أخذه بهذا
المذهب، وفي السياق ذاته اناط القانون بالمجلس وضع قواعد آداب وسلوكيات المهنة
بالتنسيق مع النقابات إلا أن القانون اناط بالمجلس وبمشاركة (7) من النقابات مسألة
التحقيق في الشكاوى والمخالفات وتوقيع الجزاءات أو الإحالة إلى النيابة العامة إذا
تعلق الأمر بجريمة من الجرائم وليس في ذلك مأخذ دستوري))، وسيكون تعليقنا على هذا
الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الأتية:
الوجه الأول: الخصوصية والعمومية في التنظيم القانوني:
كانت
دعوى عدم دستورية المادة (10) من قانون المجلس الطبي قد اتجهت إلى أن هذا النص
مخالف للنصوص المقابلة له في قوانين الدول الأخرى كمصر، وان قانون المجلس الطبي في
هذا النص قد خرق الإجماع، حسبما ورد في دعوى عدم دستورية قانون المجلس الطبي، وهذا
الأمر يقتضي الإشارة بإيجاز بالغ إلى أن هناك قواعد قانونية عامة تتفق بشأنها القوانين في مختلف دول العالم مثل
تجريم قتل الإنسان، فهذه القاعدة مقررة في قوانين دول العالم قاطبة وان اختلفت في
تقرير نوع العقوبة على هذا الجرم ، ومع ذلك هناك قواعد قانونية خاصة
بكل دولة على حدة، حيث تقوم الدول بصياغة هذه القواعد الخاصة تلبية للإحتجاجات
الدينية والإجتماعية والإقتصادية والأمنية التي تتفاوت في الدول المختلفة، ولذلك
نجد أن غالبية القوانين اليمنية تختلف في قواعدها ونصوصها عما ورد في القوانين
المصرية ، فعلى سبيل المثال قانون المرافعات اليمني وقانون الإجراءات اللذين تضمنا
عدة نصوص تخالف نظيراتها في القانونين المماثلين المصريين، ولم يدع مدعٍ بأن ذلك
يخرق الإجماع.
الوجه الثاني: قيام المجلس الطبي بإصدار تراخيص مزاولة المهن الطبية مظهر من مظاهر النظام المختلط الذي اتبعه قانون المجلس الطبي:
اشار
الحكم محل تعليقنا إلى ان قانون المجلس الطبي اليمني قد اخذ بالنظام المختلط فيما
يتعلق بإصدار تراخيص مزاولة المهن الطبية، حينما اناط بالمجلس الطبي إصدار تلك
التراخيص، إذ أن المجلس الطبي اليمني مختلط في تشكيله وقوامه إذ أن المجلس يضم في
عضويته نقباء نقابات المهن الطبية إضافة إلى اطباء ترشحهم نقابات المهن الطبية، وبالمقابل
هناك قسم من اعضاء المجلس الطبي تعينهم الجهات الحكومية أو الحكومة كوزارة الصحة، في
حين أن قسماً منهم يتم تنسيبهم في عضوية المجلس بحكم مناصبهم النقابية أو الوظائف التي
يشغلوها مثل عميد كلية الطب ، وعلى ذلك فإن المجلس الطبي اليمني مختلط في تشكيله
والعضوية فيه، وقد تم تشكيل المجلس الطبي اليمني على هذه الشاكلة تلبية لظروف
واحتياجات المجتمع اليمني التي تختلف عن ظروف واحتياجات المجتمع المصري، الذي اناط
القانون المصرى بنقابات المهن الطبية بمصر إصدار تراخيص مزاولة المهن الطبية، خلافاً
لماهو متبع في اليمن .
الوجه الثالث: ملائمة التشريع للظروف والإحتياجات السائدة في اليمن لا تخضع لرقابة الدائرة الدستورية:
المح
الحكم محل تعليقنا بأن مدى ملائمة التشريع من عدمه لا يخضع للرقابة الدستورية التي
تباشرها في اليمن الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا حسبما ورد في أسباب الحكم محل
تعليقنا.
فالقضاء الدستوري لا يمارس على التشريعات إلا رقابة فنية ذات طابع قانوني مجرد ، وأنها تستبعد كل عنصر غير دستوري، وهذا يعني أن رقابة القضاء الدستوري ينبغي ألا تمتد إلى ما يدخل في مطلق السلطة التقديرية للمشرع بما تتضمنه من ملاءمة التشريع وبواعث إصداره أو ضرورته باعتبار أن ذلك من عناصر السياسية التشريعية التي ينتهجها دون تدخل من أي سلطة أخرى احتراما لمبدأ الفصل بين السلطات، ويستخلص أ.د. أحمد أبو المجد من تحليل أحكام المحكمة العليا الاتحادية في أمريكا – التي أرست مبدأ عدم خضوع مدى ملائمة التشريع لرقابة القضاء – أن هذا المبدأ يتضمن ثلاثة أمور وهي :
الأول: أن المحكمة لا تراقب ضرورة التشريع أو عدم ضرورته : لأن تقدير الحاجة إلى التشريع ومدى ضرورته يدخل في اختصاص السلطة التشريعية وحدها باعتباره عنصرا من عناصر السياسية التشريعية التي يمتنع على المحاكم التدخل فيها ، فضلا عن انعدام كل صلة بين الحاجة إلى التشريع وبين دستوريته .
الثاني: أن المحكمة لا تراقب ملاءمة التشريع ولا حكمته: ومؤدى ذلك أن تتجنب المحكمة إصدار حكم تقويمي على القانون من ناحية ملاءمته أو مدى صلاحيته الاجتماعية والسياسية باعتبار أن هذه الملاءمة هي أخص مظاهر السلطة التقديرية للهيئة التشريعية واشتراك القضاء في تقديرها يعد تدخلا في عمل تلك الهيئة وخروجا على مبدأ الفصل بين السلطات .
الثالث : أن تتخذ المحكمة من ظاهر النص التشريعي أساسا لفحص دستوريته : أي أن لا تبيح المحكمة لنفسها أن تتجاوز ظاهر النص التشريعي وتغوص باحثة عن البواعث الحقيقية التي دفعت الهيئة التشريعية أو بعض أعضائها إلى سن التشريع من بواعث غير شريفة ، أو دوافع ذاتية أو بإلباسه ثوب غير حقيقي أو مستتر وانتحاله صورة نشاط تشريعي آخر مما يدخل في اختصاص السلطة التشريعية وفقا للدستور .
وتذهب غالبية الفقه الدستوري إلى عدم جواز مد القضاء الدستوري رقابته إلى ملاءمة التشريع وبواعث إصداره حيث يتعين أن يقف إختصاص القضاء عند حدود رقابة المشروعية الدستورية فقط ، لما يترتب على بحث القضاء الدستوري لملاءمة التشريع وبواعث إصداره – سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية – من خروج عن حدود مهمة القضاء وفرضه نوعا من الوصاية والرقابة التحكمية على تقديرات المشرع بما يجعله أقرب إلى ما يسمى بحكومة القضاة.
ولقد جرت أحكام القضاء الدستوري في غالبية الدول على الأخذ بهذا المبدأ – كقاعدة عامة – وهو ما كرسته المحكمة الدستورية العليا المصرية في أكثر من حكم لها نذكر منها ما أوردته في حكمها الصادر بتاريخ 1997.03.22 في الدعوى الدستورية رقم 9/18 ق، بأن ) الحدود التي تمارس السلطتان التشريعية والتنفيذية لاختصاصاتها الدستورية في نطاقها لا يجوز اقتحامها ، وأن المحكمة الدستورية العليا لا تزن بنفسها – ومن خلال مناهجها الذاتية – ما إذا كان التنظيم التشريعي المعروض عليها لازما ، وما إذا كان إقراره في مناسبة بعينها ملاءما ، إذ ليس لها إلا أن ترد النصوص التشريعية المطعون عليها لأحكام الدستور – الشكلية والموضوعية – لا أن تخوض في بواعثها أو تناقش دوافعها ، ويقتضي اتفاق النصوص القانونية المطعون عليها مع الدستور – وفي نطاق الموضوع محل التنظيم التشريعي – ألا تنفصل هذه النصوص عن الأغراض التي توخاها المشرع منها ، بل يكون اتصال هذه الأغراض – وبافتراض مشروعيتها – بالوسائل المفضية إليها منطقيا لا واهيا أو مفتعلا)، وهذا ما أعربت عنه أيضا المحكمة الدستورية الكويتية في حكمها الصادر بتاريخ 2010.03.15 في الطعن رقم 1/2010 الذي جاء فيه أنه ) من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن رقابتها القضائية التي تمارسها على دستورية التشريعات هي رقابة ذات طابع قانوني مجرد ، تقتصر على المسائل الدستورية ، وينحصر مجالها في التحقق من مطابقة أو عدم مطابقة التشريع لنص في الدستور دون تجاوز لظاهر التشريع ، ولا تمتد هذه الرقابة إلى البحث عن ملاءمة التشريع أو عدم ملاءمته والتي تعتبر من أخص مظاهر السلطة التقديرية للمشرع ، كما لا تستطيل تلك الرقابة إلى البحث والتنقيب عن النوايا والبواعث التي عساها أن تكون قد دفعت السلطة التشريعية إلى إقراره بالصيغة التي صدر بها)، وهو ما تبنته كذلك المحكمة الدستورية البحرينية في حكمها الصادر بتاريخ 2016.01.27 في القضية رقم ط . ش/1/2015 لسنة 13 ق بقولها) إن الرقابة التي تباشرها هذه المحكمة على دستورية التشريعات مناطها مخالفة التشريع لنص في الدستور ، فلا شأن للمحكمة بالسياسة التشريعية التي ينتهجها المشرع أو النظر في مدى ملاءمة التشريع أو ضرورته أو التنقيب عن بواعث إصداره أو تقدير آثار تطبيقه وتبعاته لانحسار هذا الاختصاص أصلا عنها ، فرقابة الدستورية لا تتناول القانون من مفهوم مجرد ، وإنما بالنظر إلى أنه تعبير عن سياسة محددة أنشأتها أوضاع لها مشكلاتها ، يتغيا بالنصوص التي تضمنها تحقيق أغراض بذاتها من خلال الوسائل التي حددها ، ويتعين لاتفاق النصوص المطعون عليها مع الدستور ألا تنفصل هذه النصوص عن الأغراض التي توخاها المشرع منها ، بل يكون اتصال هذه الأغراض – وبافتراض مشروعيتها – بالوسائل المفضية إليها اتصالا منطقيا لا واهيا ولا مفتعلا)، وهو ما يمكن استظهاره كذلك من قضاء المحكمة العليا الليبية حيث جاء في حكمها الصادر بتاريخ 1961.11.11 في الطعن الدستوري رقم 2/5 ق بأنه ) ولئن كان طروء حالة استثنائية تقتضي إجراء لا يحتمل التأخير مشروط في الدستور لا يصح بدونه القانون الصادر بطريق المرسوم ، إلا أن تقدير قيام أحوال الاستثناء وموجبها من الإجراءات المستعجلة مرده إلى السلطة التنفيذية تحت رقابة البرلمان فلها في حدود هذه الرقابة أن تقدر ملاءمته أو عدم ملاءمته مستعملة رخصتها التشريعية الاستثنائية ، لأنه قد يتعذر على غيرها تقدير هذه الملاءمة تقديرا كاملا سليما لما تحتاجه من إحاطة تامة بالظروف والملابسات التي تدعو إلى إصدار مرسوم بقانون)، وهذا ما يستخلص أيضا من حكمها الصادر بتاريخ 2014.03.24 في الطعن الدستوري رقم 6/60 ق الذي جاء فيه ) إن موطن الطعن لا يتعلق بمخالفة دستورية في القانون – المطعون فيه – وإنما ينصب على الملاءمة التشريعية التي يستقل بتقديرها المشرع ، باعتبارها من أخص مظاهر السلطة التشريعية ، ومن ثم تكون بمنأى عن الرقابة الدستورية (
ومع ذلك فلا أحد يستطيع أن ينكر أن هناك اتجاه قوي آخذ في التطور تعكسه الأحكام الحديثة للقضاء الدستوري المقارن تعرب دون مواربة عن فرض رقابته الدستورية على تناسب التشريع ، الذي هو أحد عناصر الملاءمة المخولة للسلطة التقديرية للمشرع ، من خلال آلية الغلو أو الخطأ الظاهر في التقدير أو ما يعرف بمبدأ المعقولية في قضاء المحكمة العليا الأمريكية مما يصح معه القول بأن سلطة التقدير أو الملاءمة التي يتمتع بها المشرع ، ليست مطلقة ولا تحكمية في أحد عناصرها –وهو التناسب- وبالتالي فهي تخضع لرقابة القضاء الدستوري ، إذا شابها غلو أو خطأ ظاهر في التقدير أو جاوزت حدود المعقولية، ولا محل للاعتراض على ذلك بمقولة إن القاضي الدستوري يمد رقابته إلى السلطة التقديرية التي يتمتع بها المشرع ، إنما يقوم بإحلال تقديره الشخصي محل تقدير المشرع ، وأن بسط رقابته على هذا التقدير يعني حلوله محل المشرع في ممارسة اختصاصه بالتشريع ، وهو ما لا يجوز ، ذلك أن هذا الاعتراض مردود عليه بأن القاضي الدستوري حينما يباشر رقابته على هذا التقدير فإنه لا يحل نفسه محل المشرع فهو لا يقوم بهذا التقدير ابتداء ، باعتبار أن هذا التقدير قائم وموجود أصلا وقام به المشرع من قبل ، ثم يأتي القاضي الدستوري ليفرض رقابته على هذا التقدير الموجود ، وفي الحدود التي جرى فيها من قبل المشرع ، وبالتالي فدور القاضي الدستوري في الرقابة على هذا التقدير إنما يدخل في إطار وظيفته الأصلية القائمة على حماية الدستور وصون أحكامه ، ومهمته في هذا النطاق تنحصر في واحد من أمرين ، إما الحكم بدستورية التشريع إذا تبين له موافقته لأحكام الدستور ، وإما الحكم بعدم دستوريته إذا كان مخالفا للدستور ، دون أن تكون له سلطة تصحيحه أو تعديله على النحو الذي يجعله موافقا لأحكام الدستور ، وهو بذلك إذن لا يحل نفسه محل المشرع من خلال ما يباشره من رقابة على التقدير الذي يجريه المشرع الأمر الذي يمتنع عليه طبقا لمبدأ الفصل بين السلطات.
فالعدالة الدستورية ليست معصوبة العينين على النحو الذي تكون فيه وظيفة القاضي الدستوري مقصورة على مجرد المقابلة بين النص التشريعي المطعون فيه وأحكام الدستور ، بصورة آلية روتينية تفلت من خلالها تقديرات المشرع الظاهرة الخطأ في الاختيار بين البدائل المختلفة بما لا يتحقق معه الصالح العام الذي تستهدفه ، وهذا التوجه الجديد من القضاء الدستوري لا شك أنه يمثل خطوة بالغة الجسارة وبعيدة الآثار في رسم العلاقة بين السلطة التشريعية والقضاء الدستوري الذي انتحل لنفسه سلطة مراجعة المشرع في تقديره ، وإعلان ما يشوب هذا التقدير من خطأ ظاهر أو بين ، ولقد أفصحت المحكمة الدستورية العليا المصرية – لأول مرة – عن هذا الاتجاه في حكمها الصادر بتاريخ 1996.02.03 في الدعوى الدستورية رقم 33/16 ق بقولها (( إن شرعية الجزاء – جنائيا أم تأديبيا أم مدنيا – لا يمكن ضمانها إلا إذا كان متناسبا مع الأفعال التي أثمها المشرع أو منعها … وفي هذا الإطار لا يجوز أن يكون الجزاء الجنائي بغيضا أو عاتيا ، وهو يكون كذلك إذا كان بربريا أو تعذيبيا أو قمعيا أو متصلا بأفعال لا يجوز تجريمها ، وكذلك إذا كان مجافيا – بصورة ظاهرة – للحدود التي يكون معها متناسبا مع الأفعال التي أثمها المشرع ، وهو ما نسجت على منواله أيضا المحكمة الدستورية البحرينية في حكمها الصادر بتاريخ 2006.06.26 في القضيتين رقمي د/3/4 ، د/4/4 لسنة 2 ق الذي جاء فيه (أن شرعية الجزاء – جنائيا كان أم مدنيا أم تأديبيا – مناطها أن يكون هذا الجزاء متناسبا مع الأفعال التي أثمها المشرع أو حظرها أو قيد مباشرتها ، فالأصل في العقوبة هو معقوليتها ، فكلما كان الجزاء الجنائي بغيضا أو عاتيا و كان متصلا بأفعال لا يسوغ تجريمها أو مجافيا بصورة ظاهرة للحدود التي يكون معها متناسبا مع خطورة الأفعال التي أثمها المشرع ، فإنه يفقد مبررات وجوده ويصبح تقييده للحرية اعتسافا، وهكذا بدأ القضاء الدستوري في بعض الدول يسير رويدا رويدا في هذا الاتجاه المتطور من الرقابة الدستورية ، نحو مد رقابته على أحد عناصر الملاءمة في التشريع – ألا وهو عنصر التناسب – من خلال آلية الغلو أو الخطأ الظاهر في التقدير أو المعقولية ، وهو يقوم بذلك بحذر شديد ورؤية ثاقبة وبحث عميق ليستبين على وجه اليقين بأن ما تخيره المشرع من بدائل مختلفة من شأنه أن يحقق الأغراض المتوخاة من سن التشريع ، وما إذا كان تقدير المشرع بهذا الخصوص جاء خاليا من خطأ ظاهر في التقدير أم لا (ضوابط الرقابة على دستورية القوانين، د. خليفة الجهمي، ص11). والله اعلم.