التعارض بين قانونين لا يكون دليلاً على عدم دستوريتهما
أ.د/ عبدالمؤمن
شجاع الدين
الأستاذ بكلية
الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
عدم دستورية النص القانوني يعني أن
ينظم النص القانوني موضوعا معينا على خلاف
ماورد في النص الدستوري، فعندئذ يكون النص القانوني غير دستوري لمخالفته للنص
الدستوري الأعلى منه مرتبة في التدرج التشريعي، فالدعوى الدستورية والدفع بعدم
الدستورية وسيلة تحقيق مبدأ سمو الدستور أو علوّه، وتطبيقاً لذلك لا تكون دعوى عدم
الدستورية وسيلة لمواجهة التعارض بين نصين قانونيين في قانون واحد أو بين قانونين
متغايرين، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا في جلستها
المنعقدة بتاريخ 29-12-2010م في دعوى عدم الدستورية رقم (1/5) لسنة 2005م الذي ورد
ضمن أسبابه: ((والدائرة تجد أنه قد فات على المدعية أنها استندت على المادة (12)
من قانون تحصيل الأموال العامة للتدليل على عدم دستورية المادة (37) من قانون
ضريبة المبيعات بحجة التعارض بين القانونين بحسب تفسير وإستنتاج المدعية.
والدائرة: لم تجد رأياً في الفقه
والقضاء الدستوري يعتبر التعارض بين قانونين دليلاً على عدم الدستورية، فعدم
الدستورية يفترض تعارض النص القانوني الطعين مع نص في الدستور الذي يسمو بنصوصه
على كافة القوانين، فلا يندرج ضمن عدم الدستورية التعارض بين نصين قانونيين المرتبة ذاتها الأدنى من الدستور حيث تحكم ذلك التعارض
القواعد المقررة في دفع التعارض بين النصوص القانونية))، وسيكون تعليقنا على هذا
الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الأتية :
الوجه الأول : موضوع دعوى عدم الدستورية:
اشارالحكم محل تعليقنا بأن موضوع دعوى عدم
الدستورية هو مخالفة النص القانوني الأدنى في تنظيمه لمسألة معينة مخالفته في ذلك للنص
الدستوري الأعلى منه مرتبة، وتتحقق مخالفة النص القانوني للنص الدستوري عندما يكون الموضوع أو المسألة التي نظمها النص القانوني مخالف
لما ورد في النص الدستوري،وإنطلاقا من منطلق الحفاظ على الحريات الحقوق والمصالح المكفولة في الدستور، قرر الدستور وقانون
السلطة القضائية وقانون المرافعات الوسيلة
الإجرائية المناسبة لمواجهة مخالفة
القانون للدستور وهذه الوسيلة هي الدعوى أو الدفع بعدم دستورية القانون المخالف،
تحقيقا وتطبيقاً لمبدأ سمو الدستور أو علو الدستور، حسبما قضى الحكم محل تعليقنا،
اما إذا خالف النص القانوني نصا قانونيا اخرا، فهناك وسائل قانونية أخرى لمواجهة التضاد أو
التعارض بين النصوص غير دعوى عدم الدستورية، حيث يتم دفع التعارض بين النصوص
القانونية عن طريق الجمع بين النصوص عن طريق دلالات العموم والخصوص والتقييد والإطلاق
والرجوع إلى الشروح الفقهية والقانونية، فإن تعذر الجمع بين النصوص القانونية
المتعارضة فيتم اللجوء إلى وسائل الالغاء والنسخ، وغير ذلك من الطرق والوسائل التي
سنبينها لاحقا.
الوجه الثاني : معنى
مخالفة النص القانوني لغيره :
الوجه الثالث : طرق الترجيح بين النصوص المتعارضة :
الوجه الرابع : طرق دفع التعارض بين النصوص عن طريق الجمع بين الأدلة :
تكاد ان تكون طرق دفع التعارض بين
النصوص القانونية هي الطرق ذاتها التي وضعها
الفقه الإسلامي لدفع التعارض الظاهري في فهم النصوص الشرعية، ولذلك من المهم
للغاية دراسة طرق وقواعد دفع التعارض بين النصوص الشرعية للاستفادة منها في دفع
التعارض بين النصوص القانونية.
فعلماء أصول الفقه الإسلامي يقررون
أنه إذا تَعَارَضَ اللَّفْظَانِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يُمْكِنُ الجَمْعُ بَيْنَهُمَا،
فَإِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ فِيهِمَا نُسِخَ المُتَقَدِّمُ بالمُتَأَخِّرِ، وَإِنْ
جُهِلَ ذَلِكَ، نُظِرَ فِي تَرْجيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ بوَجْهٍ مِنْ
وُجُوهِ التَّرْجيحِ… فَإِنْ تَعَذَّرَ التَّرْجِيحُ فِي أَحَدِهِمَا تُرِكَ
النَّظَرُ فِيهِمَا، وَعُدِلَ إِلَى سَائِرِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ.
فالتعارض عند علماء الأصول لايطلق الا على التعارض
الظاهري، في حين لايقع التعارض الحقيقي الذي هو التضادُّ التامُّ بين حُجَّتين
متساويتين دلالةً وعددًا وثبوتًا ومتّحدتين محلًّا وزمانًا؛ لأنَّ الوحي منزَّه عن
التعارض الحقيقي لقوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [سورة النساء: ٨٢]، ولقوله تعالى
مخبرًا عن نبيِّه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى.
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [سورة النجم: ٣-٤]؛ ولأنَّ الله تعالى أمر
بالرجوع ـ عند الاختلاف ـ إلى الكتاب والسُّنَّة ليرتفع الخلاف في قوله
تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: ٥٩]، فدلَّ ذلك على عدم وجود التعارض الحقيقي بين
نصوص الشريعة الإسلامية ، اما في النصوص القانونية فهناك حالات كثيرة تشهد بوقوع التضاد
بين النصوص اي التعارض الحقيقي، وكذا يقع في النصوص القانونية تعارض ظاهري.
فالمراد بالتعارض الظاهري عند علماء
أصول الفقه الإسلامي : هو وَهْمٌ يقوم في ذهن الناظر ولا وجود له في الواقع، ويزول
هذا الوهم بمجرّد إظهار التوفيق بين الدليلين وحصول الائتلاف بينهما من خلال
الجمع، أو ببيان النسخ، أو إبراز الترجيح.
وأسباب التعارض الظاهري بين النصوص
الشرعية تعود في مجملها إمَّا إلى قصور في إدراك الناظر إلى اختلاف الرواة
من حيث الحفظ أو الأداء، وإمّا إلى دلالات الألفاظ من حيث العموم والخصوص، وإمَّا
إلى الجهل بالناسخ والمنسوخ، أو الجهل بتغاير الأحوال.
وللفقهاء مسالكُ في دفع التعارض
الظاهري، والمختار هو قول جمهور الفقهاء الذين رتَّبوا مسالك دفع التعارض على الوجه
التالي:
أوّلًا: الجمع بين الدليلين
المتعارضين على وَفق شروط الجمع وهي:
١-أن تثبت الحجِّية لكلِّ واحد من
الدليلين المتعارضي، وذلك بصحّة سنده
ومتنه، وهذا مسلك خاص بالنصوص الشرعية وليس القانونية .
٢-أن يتساوى الدليلان المتعارضان في
درجة واحدة من حيث القوّة، فلا يكون النص الدستوري مساويًا للنص القانوني .
٣-أن يكون التأويل صحيحًا حتى يوافق
الدليل الآخر.
٤-أن يكون الموفِّق أهلًا لذلك.
٥-أن لا يؤدِّي الجمعُ بين المتعارضين
إلى إبطال نصٍّ شرعي، أو الاصطدام معه. وإذا روعيت هذه الشروط أمكن الجمع بين
النصوص ، وهناك طرق للجمع بين الأدلة أو النصوص منها:
اولا :الجمع بتخصيص العموم، مثاله: تخصيص
عموم آية المواريث في قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: ١١]، بحديث: «القَاتِلُ
لَا يَرِثُ»، ومثاله ـ أيضًا ـ: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «كَانَ
آخِرَ الأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم تَرَكُ
الوُضُوءَ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ»، وبين حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه: «أنَّ
رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: أَأَتَوَضَّأُ مِنْ
لُحُومِ الغَنَمِ ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ
فَلَا تَتَوَضَّأْ، قَالَ: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ ؟
قَالَ: نَعَمْ، فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ»، فالحديث الأوَّلُ عامٌّ
في عدمِ انتقاض الوضوء في كُلِّ ما مسَّته النار سواء لحم الإبل أم غيره، والثاني
خاصٌّ في نقض الوضوء من لحوم الإبل، ومذهب أحمد وابنِ خُزيمة وابنِ حزمٍ، وهو أحد
قولي الشافعي الجمع بين الحديثين بالتخصص،ومثال ثالث: قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم:
«العَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارُ)، الذي يفيد أنَّ ما أتلفته البهيمة من حرث الغير
وزرعه لا يضمنه صاحبها، ويعارضه حديث حرام بن محيصة عن أبيه أنَّ ناقة البراء بن
عازب رضي الله عنه دخلت حائط رجل فأفسدته عليهم، «فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلَّى
الله عليه وآله وسلَّم عَلَى أَهْلِ الأَمْوَالِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ وَعَلَى
أَهْلِ المَوَاشِي حِفْظَهَا بِاللَّيْلِ»، فإنَّ الحديث يدلُّ على التفريق بين
وقوع الإتلاف بالليل أم النهار، والجمهور يحملون العامَّ على الخاصِّ جمعًا بين
الأدلة.
ثانيا : الجمع بتقييد المطلق، مثاله: حمل
آية تحريم الرضاع المطلقة في قوله تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي
أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ [النساء: ٢٣]، على
التقييد بالمصَّة والمصَّتين في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تُحَرِّمُ المَصَّةُ
وَالمَصَّتَانِ»، أو تقييد مطلق الآية بخمس رضعات في قول عائشة رضي الله عنها:
«كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ القُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ
يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمِسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوَفِّيَ رَسُولُ
اللهِ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ القُرْآنِ».
ومثاله ـ أيضًا ـ: حمل الإطلاق الوارد
في حديث: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ»، على تقييد الغنم بالسائمة، في قوله
صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «فِي سَائِمَةِ الغَنَمِ الزَّكَاةُ».
ومثال ثالث: حمل الإطلاق الوارد في
حديث: «مَنْ ُيطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ
عَصَانِي»، على تقييد الطاعة في المعروف في قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم:
«إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ».
ثالثا : الجمع بحمل الوجوب على
الندب، مثاله: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله
وسلَّم قال: «مَنْ غَسَّلَ المَيِّتَ فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ حَمَلَهُ
فَلْيَتَوَضَّأْ»، الذي يدلُّ على وجوب الغسل على من غسَّل الميت، وحمله على الندب
لوجود صارف عن الوجوب من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلَّى الله عليه
وآله وسلَّم قال: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ فِي غُسْلِ مَيِّتِكُمْ غُسْلٌ إِذَا
غَسَلْتُمُوهُ، إِنَّ مَيِّتَكُمْ المُؤْمِنَ طَاهِرٌ، وَلَيْسَ بِنَجِسٍ،
فَحَسْبُكُمْ أَنْ تَغْسِلُوا أَيْدِيَكُمْ».
رابعا : الجمع بحمل التحريم على
الكراهة، مثاله: حديث الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ
اللهِ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم
نَهَى أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ طَهُورِ المَرْأَةِ»، فإنه يدلُّ على
عدم جواز توضُّؤ الرجل أو اغتساله بفضل غسل المرأة، ويعارضه حديث ابن عباس رضي
الله عنهما: «أنَّ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كَانَ يَغْتَسِلُ
بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ»، فيجمع بين الحديثين بحمل النهي في حديث الحكم رضي الله عنه
على الكراهة التنزيهية بالقرينة الصارفة إليها وهي حديث ابن عباس رضي الله عنهما،
وبهذا الجمع بين الحديثين قال جمهور العلماء، ومثاله أيضًا ـ حديث رافع بن خديج
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «ثَمَنُ الكَلْبِ
خَبِيثٌ، وَمَهْرُ البَغِيِّ خَبِيثٌ، وَكَسْبُ الحَجَّامِ خَبِيثٌ»، فهو يدلُّ
على أنَّ أجرة الحجَّام حرام، وإجارته فاسدة، ويعارضه حديث ابن عباس رضي الله
عنهما قال: «احْتَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم وَأَعْطَى الحَجَّامَ
أَجْرَهُ، وَلَوْ عَلِمَ كَرَاهِيَةً لَمْ يُعْطِهِ»، وقد حمل الجمهور التحريم في
حديث رافع رضي الله عنه على الكراهة بالقرينة الصارفة إليها جمعًا بين الدليلين،
والخبيث هنا بمعنى الدنيء، وإنما كره ذلك النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم
للحُرِّ تنزيهًا لدناءة هذه الصناعة، وقد سمَّى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم
الثوم والبصل خبيثين مع إباحتهما.
خامساً :الجمع بحمل الحقيقة على
المجاز :، ومثاله: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلَّى الله
عليه وآله وسلَّم قال: «لَيْسَ عَلَى الخَائِنِ قَطْعٌ»، فهو يدلُّ على أنه لا
تقطع يد جاحد العارية؛ لأنه خائن، ويعارضه حديث عائشة رضي الله عنها قالت:
«كَانَتِ امْرَأَةٌ مَخْزُومِيَّةٌ تَسْتَعِيرُ المَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ
النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَنْ تُقْطَعَ يَدُهَا» إلى أن قال:
«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ
لَقَطَعْتُ يَدَهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ المَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ
فَقُطِعَتْ يَدُهَا»، فهو يدلُّ على أنه تقطع يد جاحد العارية، وعامَّة أهل العلم
يذهبون إلى أنَّ المستعير إذا جحد العارية لا تقطع يده، وحملوا حديث عائشة رضي
الله عنها على المجاز، وذلك بحمل قولها: «كانت تستعير المتاع وتجحده» على أنَّ
المراد به تعريف المرأة بالصفة التي اشتهرت بها، وهي جحدها للعارية، كما عرفتها
بأنها: «مخزومية» ولم تقصد بذلك حقيقة أنَّ جحدها للعارية كان سببًا لقطع يدها،
فسبب القطع هو السرقة لا جحدها للعارية وقد صرَّح الحديث باللفظ أنها «سرقت»، ومثاله
ـ أيضًا ـ حديث أبي رافع رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم
يقول: «الجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ»، الذي يفيد ثبوت الشفعة للجار الذي يعارضه
حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «قَضَى النَّبِيُّ صلَّى الله
عليه وسلَّم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ
الحُدُودُ وَصُرِفَت الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ»، فهو يدلُّ على أنَّ الشفعة مختصة
بالشريك دون الجار. وقد عمل الجمهور بالجمع بين الدليلين بالحمل على المجاز، فيعمل
بظاهر حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في أنَّ الشفعة للشريك فقط، وأمَّا
حديث أبي رافع رضي الله عنه فإنَّ الجار فيه حقيقة في المجاور، مجاز في الشريك، إذ
أنَّ كلَّ شيءٍ قارب شيئًا فهو جار له، وقد حمل اللفظ على المجاز لوجود قرينة، وهي
أنَّ أبا رافع رضي الله عنه سمَّى ـ في حديثه ـ الخليط جارًا، وهو من أهل اللسان
وأعرف بالمراد، وهي قرينة على إرادته بالجار الشريك الخليط.
سادساً : الجمع بالأخذ
بالزيادة، ومثاله: حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلَّى الله
عليه وآله وسلَّم قال: «مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ
كَلْبَ صَيْدٍ نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ»، فهو يدلُّ على جواز
اقتناء كلب الصيد والماشية، بينما حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله
صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ
صَيْدٍِ أَوْ زَرْعٍ انْتَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ)، فهو يدلُّ
على ما يدلُّ عليه الحديث السابق إلَّا أنه فيه زيادة كلب الزرع الذي لم يتعرض له
الحديث السابق، وقد عمل العلماء بقبول الزيادة جمعًا بين الدليلين؛ لأنها زيادة
حافظ غير منافية، وقد وافقها حديث سفيان بن أبي زهير رضي الله عنه قال: سمعت رسول
الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا لَا يُغْنِي عَنْهُ
زَرْعًا وَلَا ضَرْعًا نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ».
سابعاً : الجمع بإختلاف الحال ، مثاله: قوله صلَّى الله عليه وآله
وسلَّم في شأن حضانة الغلام: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي»، فإنه
يدلُّ على أنَّ الأمَّ أحقُّ بحضانة ابنها إذا أراد الأب انتزاعه منها، ويعارضه
قوله صلَّى الله عليه وسلَّم للغلام: «هَذَا أَبُوكَ وَهَذِهِ أُمُّكَ، فَخُذْ
بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ، فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ فَانْطَلَقَتْ بِهِ»، فهو
يدلُّ على أنه إذا تنازع الأب والأمُّ في غلام لهما، فإنَّ الواجب هو تخيير
الغلام، فمن اختاره فهو أحقُّ به، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى الجمع بين الحديثين
باختلاف الحال، وذلك بحمل حال الغلام الذي لم يبلغ سنَّ التمييز، أو قبل استغنائه
بنفسه على أنَّ الأم أحقّ به من غيرها ما لم تنكح، ويحمل الحديث الآخر فيما إذا
بلغ سنَّ التمييز، واستغنى عن الحضانة فإنه يخير بين أبويه إذا تنازعا فيه، فمن
اختار منهما فهو أولى به.
ثامناً : الجمع بجواز الأخذ بأحد
الأمرين (أي: الجمع بالتخيير)، مثاله: حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال:
«لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كَثِيرًا مَا يَنْصَرِفُ
عَنْ يَسَارِهِ» ويعارضه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «أَكْثَرُ مَا
رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يَنْصَرِفُ عَنْ يَمِينِهِ»،
وقد دفع العلماء التعارض بجواز الأمرين، فتارةً ينصرف من الصلاة إلى جهة يساره،
وتارة ينصرف إلى جهة يمينه، فأخبر كلّ واحد من الرواة بما اعتقد أنه الأكثر فيما
يعلمه، ولذلك يكون المصلي مخيّرًا بين الانصراف عن جهة اليمين أو جهة اليسار من
غير كراهة.
الوجه الخامس : دفع التعارض بين النصوص عن طريق النسخ عند تعذُّر الجمع:
وذلك بالبحث في تاريخ صدور كلٍّ من النصَّين المتعارضين، فإن علم
تاريخ صدورهما وأنَّ أحدهما متقدِّم والآخر متأخِّرٌ عمل بالمتأخِّر الناسخ وأهمل
المتقدِّم المنسوخ، ولا يتم العمل بالنسخ إلَّا عند توفُّر جملة من الشروط منها:
1ـ أن يكون الناسخ خطابًا شرعيًّا، هذا
بالنسبة للنصوص الشرعية، اما بالنسبة للنصوص القانونية، فيشترط ان يكون الناسخ القانوني
صادرا عن السلطة المختصة بالتقنين( البرلمان
).
2ـ أن يكون الناسخ مساويًا فلاينسخ
ماورد في القانون نصا دستوريا، لان الدستور أعلى مرتبة من القانون، فينبغي ان
لايخل النسخ القانوني بمبدأ التدرج أو مبدا سمو الدستور مثلما قضى الحكم محل
تعليقنا .
3ـ استواء الدليلين المتعارضين في
الحُجِّية.
4ـ عدم إمكان الجمع بينهما.
5ـ عدم معرفة تاريخهما.
6ـ أن يكون المرجّح به وصفًا قائمًا
بالدليل.
7- أن يكون الموضوع الذي نظمه النصان
واحد.
الوجه السادس : تفسير النصوص القانونية:
الوجه السابع : طرق تفسير النصوص القانونية:
2- طرق التفسير الخارجية:
وتعني هذه الطرق أنه يتم الإعتماد
في تفسير النصوص على وسائل من خارج النص منها :
ه- كتب شراح القانون : غالبية
القوانين هي عبارة عن مقررات دراسية في كليات الشريعة والقانون والحقوق والمعاهد
المتخصصة ولذلك يقوم بشرحها والتعليق رجال الفقه والقانون وفي سياق ذلك يتم شرح كيفية دفع التعارض بين
النصوص.
الوجه الثامن : دفع التعارض بين النصوص القانونية عن طريق النسخ أو الإلغاء :
في بعض الحالات تكون النصوص القانونية
المتعارضة محلا للنقاش والتعليق عليها ومناقشتها فيتم تعديلها لإزالة أو دفع
تعارضها، وفي غالب الحالات يكون التعارض محل خلاف بين رجال الفقه والقانون، وعندئذ
ينبغي البحث عما اذا كان المقنن قد قد ألغى احد
النصوص المتعارضة.
وفي هذا الشأن تنص المادة الثانية من
القانون المدني اليمني على أنه لا يجوز إلغاء نص تشريعي إلا بتشريع لاحق ينص صراحة
على هذا الإلغاء أو يشتمل على نص يتعارض مع نص التشريع القديم أو ينظم من جديد
الموضوع الذي سبق أن قرر قواعد ذلك التشريع.
– وقد يكون الإلغاء صريحاً
كما في المادة الثانية من القرار الجمهوري رقم(19) لسنة1992م الخاص بإصدار قانون
مدني حيث نصت على أن يلغى القوانين 27،11،10 لسنة1979م والصادرة في صنعاء والقانون
رقم281 المدني الصادر في عدن.
الوجه التاسع : دفع التعارض بين النصوص القانونية عن طريق تقديم القانون الخاص على القانون العام :
استقر الفقه والقضاء في اليمن على
تطبيق قاعدة :القانون الخاص مقدم عند التطبيق على القانون العام، فهذه القاعدة
عامة ومطردة، ولذلك يتم تطبيق هذه القاعدة لدفع التعارض الذي يقع بين نصوص القانون الخاص مع نصوص القانون العام، كوقوع تعارض بين نصوص القانون المدني وهو القانون العام مع قانون
الأحوال الشخصية أو قانون الوقف وغيرهما، فيتم تطبيق النصوص الواردة في القانون
الخاص دون النصوص التي تتعارض معها في القانون العام، وتطبيقاً لهذه القاعدة، يتم
تطبيق نصوص قانون الأحوال الشخصية أو قانون الوقف اذا ما تعارضت مع القانون المدني
، ولاريب أن أصل هذه القاعدة القانونية هي القاعدة الأصولية الفقهية الخاص يقيد
العام.
الوجه العاشر : دفع التعارض بين النصوص الواردة
في القانون الواحد :
في بعض الحالات تتعارض النصوص القانونية في القانون الواحد، لأن القانون يتم تقسيمه إلى كتب وأبواب وفصول لها مسميات كتعاريف ومسميات وتكوينات وأحكام عامة وأحكام خاصة، كما يتم تقسيم القانون إلى مواد لها أرقام متسلسلة ولذلك يتم تطبيق قواعد دفع التعارض عن طريق الجمع بين النصوص المتعارضة وتطبيق مفاهيم العموم والخصوص والإطلاق والتقييد وغيرها السابق ذكرها، فيتم تقديم ا النصوص الواردة ضمن الأحكام الخاصة في القانون على النصوص الواردة ضمن الأحكام العامة ، اما إذا تعذر الجمع والتوفيق بين النصوص المتعارضة، فيتم عندئذ تطبيق أحكام النسخ، فيكون النص المتاخر ذكره في القانون ناسخا للنص المتقدم ذكره في القانون عند تعارض النصين، والله اعلم.