الوضعية الدستورية لغرامة التأخير
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون –
جامعة صنعاء
نتيجة الخلط بين غرامة التأخير والشرط الجزائي
يثور جدل واسع في الاوساط الفقهية والقانونية والقضائية بشأن غرامة التأخير من حيث
شبهة الربا والغرر فيها ومدى تناسبها مع الضرر الذي يحصل بالتأخير ومدى جواز
تقديرها مسبقاً قبل حصول التأخير ومدى تغير حكمها إذا تم النص عليها في قانون ملزم
وليس في عقد يتراضى عليها المتعاقدان أو المتعاقدون، ويحدث هذا الجدل بسبب الخلط
بين غرامة التأخير التي تفرضها الدولة في القوانين والعقود الإدارية وبين الشرط
الجزائي الذي يدرجه الأفراد في عقودهم المدنية ، وتكمن القيمة العلمية للحكم محل
تعليقنا أنه أوضح الفرق بين غرامة التأخير والشرط الجزائي، والحكم محل تعليقنا هو الحكم
الصادر عن الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 29-12-2010م
في الدعوى الدستورية رقم (1/5 لسنة 2005م)، الذي ورد ضمن أسبابه: ((وبعد الإطلاع
على هذا الوجه من الدعوى بعدم الدستورية وعلى الرد والتعقيب تجد الدائرة :أن
المدعية قد رمت النص الطعين بمخالفة المادتين (3 و149) من الدستور واعتبرت المدعية ان فرض غرامة تأخير كجزاء لإخلال الشخص المكلف بالضريبة يخالف أحكام
الشريعة الإسلامية بإعتبارها مصدر جميع التشريعات طبقاً للمادة (3) من الدستور،
وان هذا الجزاء النقدي من باب اكل أموال الناس بالباطل، واعتبرت المدعية ان غرامة
التأخير عبارة عن فوائد ربوية واعتبرت المدعية ان المادة المدعى عدم دستوريتها تقضي بإستحقاق فوائد معينة
حتى لو كان التأخير لسبب ظروف قاهرة، وان غرامة التأخير تمثل زيادة في الدين
المفترض بذمة المكلف بالضريبة، وبالتمعن في مبنى هذا الوجه وتأسيسه على ما سبق
وتسمية ما فرضته هذه المادة من غرامة مالية بفوائد ربوية وأكل أموال الناس
بالباطل...إلخ، فتجد هذه الدائرة: ان ماورد في هذا الوجه من الدعوى ظاهر التكلف، فما هو وجه إعتبار غرامة التأخير أكلاً لأموال
الناس بالباطل؟ مع أن الغرامة جزاء على إخلال المكلف بالتزامه بدفع الضريبة
المستحقة عليه في المدة المحددة قانوناً، فالغرامة مقررة في القانون كجزاء على
إخلال المكلف بالتزامه القانوني))، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في
الأوجه الأتية:
الوجه الأول: ماهية غرامة التأخير والفرق بينها وبين الشرط الجزائي :
فالشرط الجزائي هو عبارة عن إتفاق
مسبق على تقدير التعويض الذي يستحقه الشخص
الدائن ويكون عند التأخير فيه أو عند عدم تنفيذ المدين بالتزامه. سواء جاء هذا
الاتفاق ضمن العقد الأصلي أو ضمن اتفاق لاحق، وهذا يكون بشرط وقوع الضرر بالفعل.
وبمعنى آخريقصد بالشرط الجزائي :
اتفاق بين المتعاقدين، وذلك على تقدير
مسبق للتعويض الذي يستحقه الشخص الملتزم له أو الشخص الدائن اذا لم ينفذ إلتزامه
المدين أو الملتزم أو تاخر بتنفيذه.
ويرجع سبب تسمية الشرط الجزائي بهذا
الاسم إلى أنه يتم إدراج ضمن شروط هذا البند
ضمن بنود العقد الأصلي والأساسي الذي
يستحق الملتزم له أو الدائن التعويض على أساسه.
و يجب عند إدراج الشرط الجزائي في العقد ان يكون
التقدير عادلا ومناسبات، لأن الشرط الجزائي بمثابة تقدير مسبق للتعويض، لذلك ينبغي
أن يكون على قدر الضرر المتوقع وقوعه نتيجة التأخر في تنفيذ الإلتزام أو عدم التنفيذ.
و قد يكون الشرط الجزائي شرط تهديدي لحمل المتعاقد على تنفيذ التزامه في
الميعاد المتفق عليه، فعندئذ يتم تقدير الجزاء بمبلغ يفوق الضرر المتوقع.
ويظهر الفرق بين غرامة التأخير
والشرط الجزائي في أن غرامة التأخير عبارة
عن جزاء تقرره الدولة في القوانين أو العقود جزاء على المكلفين أو المتعاقدين مع الدولة لعدم
وفائهم بالتزاماتهم في المواعيد المحددة لضمان سير وانتظام مرافق الدولة، ولذلك
فإن غرامة التأخير جائزة عند غالبية الفقهاء المعاصرين، اما الشرط الجزائي فيرد ذكره
كبند في عقود الأفراد كاتفاق مسبق على
تقدير التعويض اذا تخلف المتعاقد عن تنفيذ
إلتزامه في الوقت المتفق عليه أو عدم قيامه بتنفيذ إلتزامه نهائياً، وقد ذهب جمهور الفقهاء المعاصرين إلى جواز الشرط الجزائي بشروط معينة .
فالعقود الإدارية، غالبا ما تتضمن بندا
يُعرف باسم "غرامة التأخير" وبموجبه يجوز لجهة الإدارة أن تفرض على
المتعاقد معها غرامة مالية بنسبة معينة مقدرة مسبقا عن كل يوم تأخير يتأخر فيه في
التسليم عن الموعد المتفق عليه لإنجاز الأعمال.
وبموجب القانون المدني، يجوز
للمتعاقدين أن يقدرا مقدما أو في اتفاق لاحق التعويض عن الضرر الذي يستحقه الطرف
البريئ عند عدم تنفيذ الطرف الآخر الالتزامات المتفق عليها في العقد. فإذا لم يكن
التعويض مقدرا في العقد أو بمقتضى نص في القانون، تقدره المحكمة.
وفي مجال العقود المدنية بين الأفراد ،
يتم إدراج بند "الشرط الجزائي "،الذي يطلق عليه عادة، باسم "الشرط الجزائى"
أو "التعويض الاتفاقى". ويعتبر تحقق الضرر ركنا أساسيا لاستحقاق التعويض
فلا يُحكم بالتعويض إذا لم يترتب على إخلال المدين بالتزامه أى ضرر بالدائن.
ويُفترض أن يكون الضرر مساويا لما قدره المتعاقدان، ويترتب على ذلك أن من يدعى
وقوع الضرر عليه، أولا، عبء إثبات وقوعه، وثانيا، إثبات أن التعويض المقدر يساوي
أو ربما يقل عن الضرر الذي لحق به.
فإذا أثبت المدين أن الدائن لم يلحقه
أى ضرر، فيكون أحد أركان المسئولية قد تخلف وبالتالى لا تحكم المحكمة بأى تعويض.
وإذا لم يثبت المدين ذلك، ولكنه أثبت أن الضرر الحادث أقل من التعويض المتفق عليه،
فيجوز للمحكمة تخفيض التعويض. أما إذا تبين أن الضرر قد جاوز قيمة التعويض المتفق
عليه، فلا تحكم المحكمة بزيادة التعويض لمواجهة الزيادة في الضرر، ويرجع هذا الحكم
إلى أن الاتفاق على تقدير التعويض مقدما يتضمن إتفاقا على الإعفاء من المسئولية عن
ما يجاوز التعويض المتفق عليه من ضرر، والأصل أن هذا الاتفاق يعتبر صحيحا ويُعمل
به إلا في حالة غش المدين أو خطئه الجسيم.(غرامة التأخير بين التعويض الاتفاقي
والشرط الجزائي، الاستشاري/ محمود صبره، ص2 ).
الوجه الثاني : عقوبة الغرامة وغرامة التأخير :
الغرامة عقوبة من العقوبات المقررة في قانون
الجرائم والعقوبات والقوانين العقابية الخاصة ، فقد عرفها قانون الجرائم والعقوبات
في المادة(43 ) بأن (الغرامة هي إلزام المحكوم عليه بأن يدفع لخزينة الدولة
المبالغ التي تقدرها المحكمة في الحكم، ولاتنقص الغرامة عن مائة ريالا ولاتجاوز
سبعين الف ريالا مالم ينص القانون على خلاف ذلك )، في حين أن غرامة التأخير عقوبة مالية يتم
تقديرها مسبقاً في القانون أو العقد الإداري الذي تبرمه الدولة مع الغير، فلايملك
القاضي ان يقدرها على خلاف ماورد في القانون أو العقد، فغرامة التأخير جزاء على
مخالفة الملتزم أو المكلف عن الوفاء بإلتزامه في الميعاد المقرر في القانون أو
العقد الإداري مع الدولة.
وتستهدف عقوبة الغرامة حمل الأفراد على اتيان أفعال أو ترك أفعال معينة أو حمل الأفراد على الوفاء بالتزاماتهم في المواعيد المحددة فإن خالفوا ذلك فرضت عليهم الغرامة ، بيد أن معظم القانونيين في فرنسا ذهبوا إلى تكييف الغرامة بعد الحكم بها حكماً نهائياً على أساس الدين المدني للدولة أو الدين العام لصالح الدولة في مواجهة المحكوم عليه كدين الضريبة، وذلك حتى تتمكن الدولة من تحصيلها من الورثة بعد وفاة المحكوم عليه في حدود تركته، ولكن هذا الاتجاه لم يقبل به الآخرون، لأن الغرامة عقوبة جنائية خالصة تستهدف أغراضاً معينة كالزجر والتخويف، وذلك لا يتحقق إلاّ بتوقيعها على من ارتكب الفعل المعاقب عليه، كما أنه لا توجد مصلحة للمجتمع في توقيع العقوبة على أفراد أبرياء لا علاقة لهم بالجريمة وهم ورثة المحكوم عليه، فالغرامة باعتبارها عقوبة تتحقق بحرمان المحكوم عليه من جزء من ذمته المالية، وإحداث ألم له بهذا الحرمان، وأما إثراء الخزينة العامة فهو نتيجة تبعية ليست مقصودة لذاتها، فلا يجوز جعلها الأصل، ومن هنا فالغرامة عقوبة جنائية في جميع مراحلها، وجزاء جنائي تتوفر فيها جميع أركان العقوبة، وعناصر الجزاء الجنائي، فهي جزاء توقعه الدولة بمالها من سلطة العقاب على الأفراد دون غيرها، وأن الدولة وحدها هي التي تتولى إقامة الدعوى بتطبيق الغرامة ـ عدا بعض استثناءات ـ وأن حصيلة الغرامات تذهب إلى خزينة الدولة، ولا تكون من نصيب الطرف المضرور، وهذا ما نصت عليه معظم القوانين في العالم، فالغرامة جزاء لفعل غير مشروع جنائياً وبالتالي تخضع لمبدأ شرعية الجريمة والعقوبة أو مبدأ لاجريمة ولاعقوبة الا بنص.
سبق القول أن
غرامة التأخير بمثابة غرامة تقررها الدولة في القانون أو العقد الإداري ويتم توريد
مبالغ الغرامة إلى الخزينة العامة حسبما سبق بيانه، وسبق القول أيضا ان جمهور
الفقهاء قد ذهبوا إلى جواز غرامة التأخير.
وقد ذهب جمهور الفقهاء المعاصرين إلى جواز الشرط
الجزائي بشروط معينة ، و دليلهم قول
النبي صلى الله عليه وآله وسلم (المسلمون عند شروطهم) بالإضافة إلى
استدلالهم بما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن ابن سيرين أن رجلاً قال
لكريِّه: (من يكري وسائل النقل) أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا
وكذا فلك مائة درهم فلم يخرج فقال شريح: من شرط على نفسه طائعاً ليس مكره فهو
عليه)، واستدلوا بأن : [ الوفاء بالشروط أي بالالتزامات التي التزم بها
الإنسان من الواجبات التي اتفقت عليها الملل بل العقلاء جميعاً] القواعد
النورانية ص٥٣.
وكذا جاء في قرار مجمع الفقه
الإسلامي في دورته الثانية عشرة والمتعلقة بالشرط الجزائي ما يلي: [أولاً:
الشرط الجزائي في القانون هو اتفاق بين المتعاقدين على تقدير التعويض الذي يستحقه
من شُرِط له عن الضرر الذي يلحقه إذا لم يُنَفِّذ الطرف الآخر ما التزم به، أو
تأخّر في تنفيذه.
ثانياً: يؤكد المجلس قراراته
السابقة بالنسبة للشرط الجزائي الواردة في قراره في السَّلَم رقم
٨٥ (٢/٩) ، ونصه: "لا يجوز الشرط الجزائي عن التأخير في تسليم المسلم
فيه؛ لأنه عبارة عن دين، ولا يجوز اشتراط الزيادة في الديون عند التأخير"،
وقراره في الاستصناع رقم ٦٥ (٣/٧) . ونصه: "يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطاً جزائياً بمقتضى
ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف قاهرة"، وقراره في البيع بالتقسيط
رقم ٥١ (٢/٦) ونصه: "إذا تأخر المشتري المدين في دفع الأقساط
بعد الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين بشرط سابق أو بدون شرط، لأن
ذلك ربا محرم".
ثالثاً: يجوز أن يكون الشرط
الجزائي مقترناً بالعقد الأصلي، كما يجوز أن يكون في اتفاق لاحقٍ قبل حدوث الضرر.
رابعاً: يجوز أن يشترط الشرط
الجزائي في جميع العقود المالية ما عدا العقود التي يكون الالتزام الأصلي فيها
ديناً؛ فإن هذا من الربا الصريح وبناء على هذا، يجوز هذا الشرط – مثلاً – في عقود
المقاولات بالنسبة للمقاول، وعقد التوريد بالنسبة للمورد، وعقد الاستصناع بالنسبة
للصانع إذا لم ينفّذ ما التزم به أو تأخّر في تنفيذه. ولا يجوز - مثلاً - في البيع
بالتقسيط بسبب تأخر المدين عن سداد الأقساط المتبقية سواء، كان بسبب الإعسار، أو
المماطلة، ولا يجوز في عقد الاستصناع بالنسبة للمستصنع إذا تأخر في أداء ما عليه.
خامساً: الضرر الذي يجوز التعويض
عنه يشمل الضرر المالي الفعلي، وما لَحِق المضرور من خسارة حقيقية، وما فاته من
كسب مؤكد، ولا يشمل الضرر الأدبي أو المعنوي.
سادساً: لا يُعمل بالشرط الجزائي
إذا أثبت من شُرِط عليه أن إخلاله بالعقد كان بسببٍ خارج عن إرادته، أو أثبت أن من
شرط له لم يلحقه أي ضرر من الإخلال بالعقد.
سابعاً: يجوز للمحكمة بناء على
طلب أحد الطرفين أن تُعدِّل في مقدار التعويض إذا وجدت مبرراً لذلك، أو كان
مبالغاً فيه.] مجلة المجمع العدد الثاني عشر ج ٢/٩١.
وبهذا يظهر لنا بوضوح وجلاء أن الشرط الجزائي يجوز في العقود التي لا يكون الالتزام فيها ديناً، أما ما كان الالتزام فيها ديناً فإنه لا يجوز فيها الشرط الجزائي بحال من الأحوال كالبيع بالتقسيط فلا يجوز الشرط الجزائي فيه عند تأخر المدين بالسداد وكذلك لا يجوز شرعاً فرض غرامات التأخير في عقود بيع المرابحة للآمر بالشراء فلا يجوز شرعاً أن يتفق البنك الإسلامي مع العميل المدين على أن يدفع له مبلغاً محدداً أو نسبة من الدين الذي عليه في حالة تأخره عن السداد في المدة المتفق عليها سواء أسمي هذا المبلغ غرامة تأخير أو تعويضاً عن الضرر أو شرطاً جزائياً، لأن هذا هو ربا الجاهلية المتفق على تحريمه كما سبق، وهذا أصح قولي العلماء في هذه المسألة. وكذلك جميع الديون المستحقة على الانسان سواء كانت عن بيع أو قرض أو شراء منفعة أو نحو ذلك فلا يجوز شرعاً فرض غرامة تأخير فيها لأن هذا هو ربا الجاهلية، فالشرط الجزائي في الديون كلها لا يجوز فهو رباً محرم، وخلاصة الأمر أنه يجب سداد فواتير الكهرباء في مواعيدها ويحرم شرعاً التهرب من ذلك بأي وسيلة كانت كما يحرم فرض غرامات تأخير على من يتأخر في السداد ويتحمل إثم فرض هذه الغرامات الربوية مجلس إدارة الشركة وكل من أسهم في فرضها وكل من حصلَّها وتعاون عل هذا الإثم لأنها رباً محرم وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم. وكذلك يحرم فرض غرامات التأخير في كل إلتزام. (فقه المعاملات المالية، أ. د. عبد المؤمن شجاع الدين،ص 154). والله اعلم.