الإنكار بعد الإقرار باطل
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون –
جامعة صنعاء
من
الشائع في اليمن ان المتهم عندما يمثل أمام النيابة أو المحكمة ينكر أقواله
الثابتة في محاضر جمع الاستدلال أو يدعي أنه اقر تحت ضغط الإكراه من قبل مأموري
الضبط القضائي ، في حين ان الإقرار حجة على المتهم المقر إذا توفرت الشروط
المعتبرة في الإقرار سيما إذا كان الإقرار قد تعلق بحقوق الأدميين المبنية على
الشح وعدم المسامحة بخلاف حقوق الله تعالى المبنية على العفو والمغفرة والمسامحة،
حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة
بتاريخ 16-1-2013م في الطعن رقم (44078)، الذي ورد ضمن أسبابه: ((فالثابت ان محكمة
الموضوع اعتمدت في قضائها على الأدلة الجائزة قانوناً فقد استندت في حكمها إلى
اعترافات المتهمين في محاضر الاستدلال وهي اعترافات مشهود عليها، وقد عجز المتهمون عن
إثبات دعوى الإكراه، فالإنكار بعد الإقرار باطل لا يعوّل عليه خصوصاً في حق الأدميين
))، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الأتية:
الوجه
الأول: الإقرار الذي لا يبطله الإنكار بعد صدوره:
قضى
الحكم محل تعليقنا بأن الإقرار إذا صدر من المقر صحيحا فلا يبطله تراجع المقر به
أو إنكاره للإقرار بعد ذلك ، والإقرار
الصحيح هو الذي تتوفر فيه الشروط الشرعية والقانونية المعتبرة، وقد عرف قانون
الإثبات الإقرار في المادة (78) إثبات التي نصت على أن (الإقرار هو إخبار الإنسان
شفاهة أو كتابة عن ثبوت حق لغيره على نفسه) في حين بينت المادة (80) إثبات شروط المقر فقد نصت هذه المادة على أنه (يشترط في
المقر أن يكون مكلفا أهلا لأداء الحق المقر به مختارا غير محجور عليه غير هازل إلا
في الطلاق والنكاح، وأن لا يعلم كذبه عقلا أو قانونا)، وقد يكون الإقرار صريحاً أو
ضمنياً حسب ما ورد في المادة (83) إثبات التي نصت على أنه (يكون الإقرار صراحة بأي
عبارة تؤدي إلى الاعتراف بالحق كما يكون ضمنيا كالإقرار بفرع يترتب على ثبوته ثبوت
أصله كمن يقر بالطلاق فذلك يتضمن إقراره بالزواج)، واشترطت المادة (85) إثبات
الإشهاد على الإقرار إذا صدر في غير مجلس القضاء، فقد نصت المادة (85) إثبات على
أنه (يجب الأشهاد على الإقرار الشفهي الذي يتم في غير مجلس القضاء) فإذا صدر
الإقرار على النحو المبين في النصوص القانونية السابق ذكرها وتحققت شروطه فإن
الإقرار يكون صحيحاً معتبراً لا يبطله الإنكار أو التراجع عنه بعد صدوره.
الوجه الثاني: إنكار المقر لإقراره وتراجعه عن إقراره:
قضى
الحكم محل تعليقنا بأن إنكار المقر إذا صدر بعد إقراره الصحيح، فإن الإنكار لا
يبطل الإقرار السابق، ويقع الإنكار بقول المقر بأنه لم يتلفظ بالعبارات أو
الكتابات المنسوبة له وأنه لم يتلفظ بتلك العبارات أو لم يكتبها اي يجحد صدور
الإقرار منه، أو أن يدعي المقر ان الإقرار تم تلفيقه ونسبته له، فالإنكار يعني ان
المقر ينفي نسبة الاخبار أو الكتابة له، ويكون في حكم الإنكار قول المقر بأنه قد
تم إكراهه على الادلاء بأقواله أو
كتابتها، فالمقر في هذه الحالة لا ينكر صدور الإقرار منه وإنما يدعي أنه قد تم
إنتزاع ذلك الإقرار منه عن طريق الإكراه الذي وقع عليه، ويستطيع المقر نقض إقراره
السابق بدعوى الإكراه إذا استطاع إثبات وقوع الإكراه عليه لانتزاع إقراره.
قد
يتحلل المقر من إقراره السابق عن طريق التراجع عن إقراره ، فالتراجع عن الإقرار
تكذيب للإقرار السابق أي أن المقر حينما يتراجع عن إقراره إنما يكذب الإقرار الذي
سبق صدوره منه، وقد استعمل الفقه الإسلامي مصطلح التراجع عن الإقرار.
الوجه الثالث: تأثير إنكار الإقرار أو التراجع عنه:
قضى
الحكم محل تعليقنا بأن إنكار المقر للإقرار السابق صدوره منه أو تراجعه عنه يكون مؤثراً
على حقوق الله أو حدود الله بخلاف حقوق الأدمين التي لايؤثر التراجع أو الإنكار على الإقرار اذا
كان متعلقا بحقوق الأدميين، حسبما ورد في الحكم محل تعليقنا وما قضى به الحكم محل
تعليقنا موافق لنصوص قانون الإثبات التي صرحت بأن الإقرار حجة على المقر، فقد نصت
المادة (87) إثبات على أن (الإقرار حجة قاطعة على المقر، ويجب إلزامه بما أقر به..)،
وكذا صرحت المادة (96) إثبات بأن الرجوع عن الإقرار لا يصح إلا إذا تعلق الإقرار
بحقوق الله، فقد نصت المادة (96) إثبات على أنه (لا يصح الرجوع في الإقرار ألا أن
يكون في حق من حقوق الله التي تسقط بالشبهة أو في حق من حقوق العباد المالية بشرط
قبول المقر له ولا يصح الرجوع وأن صادق المقر له في الطلاق البائن أو المكمل
الثلاث أو الرضاع)، ولا شك أن قانون الإثبات في تنظيمه للإقرار وحجيته وأثر
التراجع عنه قد اخذ بما ذهب إليه الفقه الإسلامي الذي اتفق على ان رجوع المقر عن
إقرار لا يكون مؤثراً إلا إذا تعلق بحقوق الله سبحانه وتعالى لأنها مبنية على
المسامحة والعفو والمغفرة والرحمة، فالله هو الغني الغفور الرحيم الذي لا تنقص من
ملكه معاصي العباد، اما إذا تعلق الإقرار بحقوق الأدمين أو العباد فلا يكون لتراجع
المقر عن إقراره أي تأثير، لأن الأدمين
والعباد هم الفقراء إلى الله فحقوقهم مبنية على الشح وعدم المسامحة، فالاقرار فلا يحل مال أو حق مسلم إلا بطيب من
نفسه (التشريع الجنائي الإسلامي، أ.د.عبدالمؤمن شجاع الدين، ص67).
فإذا
أقر إنسان بحق أو مال.. ثم رجع عن إقراره بقول صريح، كأن قال: رجعت أو عدلت، ، فقد
اتفق الفقهاء على أنه لا عبرة لرجوعه هذا فيما هو من حقوق العباد، فإذا أقر إنسان
لآخر بمال ثم رجع عن إقراره، لزمه المال وبطل رجوعه، أما حقوق الله تعالى، فإنه
يقبل فيها الرجوع عند الجمهور ويلغى الإقرار، من ذلك: الردة، والزنا، والشرب.، وذهب ابن أبي ليلى، وعثمان البتي، إلى عدم قبول
الرجوع مطلقاً في كل الحقوق.، وذهب المالكية إلى أن الرجوع في حقوق العباد لا
يقبل أصلاً، أما في حقوق الله تعالى فيقبل إن بيَّن المقر شبهة رجع إليها، قولاً
واحداً، فإذا لم يبين شبهة، فروايتان، عن مالك، الأولى يقبل رجوعه، وهي المشهورة،
والثانية لا يقبل رجوعه ويمضى الإقرار، هذا وقد أسند الماوردي في كتابه
الأحكام السلطانية إلى أبي حنيفة قوله بعدم قبول رجوع المقر عن إقراره في الحدود،
وهو غير المروي عنه في كتب المذهب، فليتنبه له.
فإذا
كان الحق المقر به حقاً مشتركاً لله تعالى والعباد، كالسرقة، والقذف ثم رجع المقر
عن إقراره، فإن الرجوع يقبل فيما هو متصل بحق الله تعالى منها، ولا يقبل فيما هو
متصل بحق العباد، ففي السرقة إذا رجع عن إقراره يلزمه المال دون الحد، وفي القذف،
لا يقبل رجوعه أصلاً، لغلبة حق العبد فيه غلبة مطلقة.، وقد نص الحنفية –تطبيقاً لذلك- على صحة الرجوع في
الإقرار بالرضاع، لأن الحرمة الثابتة في هذا الإقرار هي حق الله تعالى، وهو مما
يسقط بالرجوع كما تقدم، هذا ما لم يؤكد إقراره، فإن أكده لم يصح رجوعه فيه مطلقاً.،،
والأصل في
ذلك أن الإقرار إخبار، وهو يحتمل الصدق والكذب، إلا أننا غلبنا جانب الصدق فيه لما
فيه من تحمل الالتزام، فإذا رجع عنه بعد ذلك، كان رجوعه إقراراً معاكساً يحتمل
الصدق والكذب على سواء، فكان أضعف من القرار الأول، فلم يلغه لذلك.
هذا
فيما هو من حقوق العباد المبنية على التشاح، أما حقوق الله تعالى المبنية على
التسامح والعفو، فإنه يعدل فيها عن ذلك، ويجعل الإقرار الثاني (الرجوع) مساوياً
للإقرار الأول حكماً، فيتهاتران، فيسقط الحق الثابت بالإقرار الأول.، يؤكد
ذلك ما روى من حديث ماعز، فقد روى فيه أنه هرب أثناء إقامة الحد عليه، فلحق به
الصحابة وقتلوه، ثم ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلا تركتموه، لعله تاب
فيتوب الله عليه، فإنه نص في قبول الرجوع، وقد علق على ذلك ابن عبد البر، فقال:
(هذا أوضح دليل على أنه يقبل رجوعه). هذا والرجوع مقبول فيما هو من حقوق الله
تعالى إذا جاء قبل إيفاء الحق، وكذلك في أثنائه، وهو معتبر سواء أتم باللفظ، أم
بالفعل، فإذا قال المقر بحد الزنا مثلاً: رجعت عن إقراري، أو قال كذبت، أو أخطأت،
أو وهمت.. أو هرب في أثناء إقامة الحد عليه، فإنه يقبل منه، ويسقط عنه باقي الحد،
ولا يتبع.
بل
إن الفقهاء يندبون للمقر بالحد الرجوع عنه، كما يندبون للقاضي تلقينه الرجوع، نص
على ذلك الحصكفي من الحنفية، فقال: (وندب تلقينه الرجوع، بلعلك قبلت أو لمست، أو
وطئت بشبهة.. لحديث ماعز)
اما إذا
أقر إنسان بحق لآخر، ثم ادعى أنه كذب في إقراره أو أخطأ، فإن دعواه هذه لا تقبل،
لتعلِّق حق الغير (المقر له) بالمقر به، ذلك أن الخطأ والكذب مما لا يمكن إثباته
بالبينة، ولا يمكن قبوله بلا بينة، فسقط اعتباره لذلك، إلا أن أبا يوسف قال: يحلف
المقر له أن المقر لم يكن كاذباً في إقراره، فإن حلف، استحق المقر به، وإلا فلا،
وهو المفتى به عند الح48).
فإذا أنكر المقر إقراره
أصلاً، وقال: لم أقر بشيء، فإنه يطلب من المقر له إثبات الإقرار بالبينة، فإن
أثبته لزم المقر ما أقر به، وعد إنكاره رجوعاً، وهو غير معتبر كما تقدم، وإذا لم
يثبته بالبينة، لم يلزم المقر شيء، وهل يحلف المقر في هذه الحال؟ المفتى به عند
الحنفية أنه لا يحلف على الإقرار، ولكن يحلف على المال (ما ثبت بالإقرار) فلو ادعى
رجل على آخر أنه أقر له بألف درهم، وأنكر المدعى عليه ذلك، وعجز المدعي عن البينة،
فإن المقر يحلف أن ليس للمدعي عنده ألف درهم، ولا يلحف على أنه لم يقر له بألف
درهم، ذلك أن الإقرار لا يصلح حجة للدعوى أصلاً، فليس لإنسان أن يدعي على آخر حقاً
استناداً إلى إقراره، ولكن له أن يدعي عليه حقاً استناداً إلى سبب آخر، ثم يحتج
على ثبوت ذلك بالإقرار، لأن الإقرار إخبار، يثبت به الحق، وليس إنشاء ينشأ به حق. هذا كله فيما لا يسقط بالرجوع في الإقرار،
أما ما يسقط بالرجوع في الإقرار كالردة والحدود التي هي خالص حق الله تعالى.. فإن
إنكار الإقرار وادعاء الكذب فيه مقبول كما تقدم.(رجوع المتهم عن الإقرار الصادر عنه
، د. أحمد الحجي الكردي، ص7)، والله اعلم.