صبابة الماء إلى الحق العام
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون –
جامعة صنعاء
قضى
الحكم محل تعليقنا بأن الصبابة لا تكون مملوكة لأصحاب الأرض الزراعية الا اذا كان
ماؤها يصب مباشرة إلى أراضيهم الملاصقة للصبابة أو الرهق، اما إذا كان ماؤها يصب
إلى ملك عام ثم يتدفق بعد ذلك إلى اراضيهم
الزراعية فلاتكون الصبابة أو الرهق تابعة لتلك الأراضي، حسبما قضى الحكم الصادر عن
الدائرة الشخصية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 7-9-1999م في الطعن
رقم (295)، الذي ورد ضمن أسبابه: ((وبعد المداولة وإمعان النظر لما قررته محكمة
الموضوع بقسمة المتنازع عليه معللة قضائها بأن المتنازع عليه صبابة، مع أن محكمة
الموضوع قد ذكرت في حكمها أن الماء ينزل من الصبابة إلى السائلة العظمى ثم ينزل
إلى مزرعتي الطرفين المتخاصمين، وما كان يصب في حق عام فلا يقال له صبابة))،
وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الأتية:
الوجه الأول: وقائع القضية التي أشار إليها الحكم محل تعليقنا:
تتلخص
وقائع هذه القضية أن مالكا مزرعتين متجاورتين تنازعا بشأن المنحدر الذي يصب ماؤه إلى السائلة العظمى
الملاصقة لمزرعتيهما فيسيل الماء منها إلى مزرعتيهما، والمنحدرات يقع مقابل
لمزرعتين إلا أنه غير ملاصق للمزرعتين وإنما ملاصق للسائلة العظمى التي تفصل ما
بين المنحدر والمزرعتين، وقد كانت محكمة الموضوع قد قضت بتقسيم ذلك المنحدر بين
مالكي المزرعتين بالتساوي فقد اعتبرت
محكمة الموضوع المنحدر صبابة أو رهق تابع للمزرعتين بالتساوي ، بيد أن الحكم
الصادر عن المحكمة العليا نقض حكم محكمة الموضوع، لأن المنحدر محل النزاع بين
الطرفين غير ملاصق للمزرعتين فلايصب ماؤه في المزرعتين مباشرة، ومع ذلك اجاز حكم المحكمة العليا للطرفين الإنتفاع بالماء
الذي ينزل من المنحدر إلى السائلة وفقاً لقواعد حق الشرب أو المسيل المقررة في
القانون والمدني والعرف الجاري في المنطقة .
الوجه الثاني: ماهية الصبابة في الحكم محل تعليقنا والوضعية القانونية لها:
الصبابة:
هي الجبال والاكام والمنحدرات التي يصب ماؤها إلى المزارع الملاصقة لها وما دونها،
ويطلق عليها رهق الأرض الزراعية كما يطلق عليها في المناطق الذاري، وقد ورد في
المادة (2) من قانون أراضي وعقارات الدولة( أن الجبال والاكام والمنحدرات والسوائل
العظمى من المراهق العامة )، في حين نصت المادة (6) من القانون ذاته على أن:
المراهق العامة من الأراضي التي تخضع للأحكام المقررة في قانون أراضي وعقارات
الدولة،وفي هذا السياق صرحت المادة (41) من القانون المشار إليه بأنه: تعتبر كافة
المراهق العامة مملوكة بالكامل ملكية عامة للدولة، وهذا يعني أن المراهق العامة
بما فيها الصبابات مملوكة للدولة ملكية عامة وليست خاصة بالدولة، وقد اشرنا في
تعليق سابق إلى الفرق بين الملكية العامة للدولة والملكية الخاصة للدولة، ولذلك
فقد نصت المادة (44) من القانون المشار إليه على أن حق الإنتفاع بالمراهق العامة
يظل مقرراً للكافة أي الإنتفاع بالمراهق العامة على وجه الإشتراك بين الأفراد من
أن يختص احد الأفراد أو بعضهم ، وكذا نصت
المادة (42) من القانون ذاته على أن يكون لملاك الأراضي الزراعية نسبة 20% من الإنحدار، ونظراً لغموض هذه النسبة وعدم
القدرة على تطبيقها في الواقع العملي فهناك مقترحات جدية لتعديل تلك النسبة بأن
يكون لصاحب الأرض الزراعية الملاصقة للرهق العامة مثل مساحة الأرض الزراعية
الملاصقة للرهق العام.
الوجه الثالث: الصبابة إلى الحق العام:
قضى
الحكم محل تعليقنا بأن الصبابة إلى الحق العام لا تنطبق عليها أحكام الصبابات
المباشرة إلى الأراضي الزراعية الخاصة،
فإذا كانت الصبابة إلى الحق العام الشارع
العام أو السائلة العظمى فلايجوز
للأفراد المستفيدين من الماء الذي يصب إلى الحق العام الإدعاء بملكية الصبابة منها،
طالما أن ماءها لا يصب مباشرة إلى أرضه الزراعية وإنما يصب إلى ملك عام كالسائلة
العظمى أو إلى شارع عام مثلما ورد في الحكم محل تعليقنا، ومع ذلك فقد قضى الحكم
محل تعليقنا بأحقية أصحاب المزارع في هذه الحالة بالإنتفاع بالسيل النازل من
الصبابة دون الحق في ملكية الصبابة ذاتها.
الوجه الرابع: الصبابة إلى الأرض الزراعية الخاصة:
سبق
أن ذكرنا في الوجه الأول موقف قانون أراضي وعقارات الدولة من المراهق العامة الذي
صرح في المادة( 41) بأن المراهق العامة مملوكة بالكامل للدولة، وفي الوقت ذاته فقد
حدد القانون الرهق التابع للأراضي الزراعية الخاصة الملاصقة للمراهق العامة بنسبة
20٪ من الإنحدار، واشرنا فيما سبق إلى إشكاليات تطبيق نسبة 20% من نسبة الإنحدار ،
وبقي في هذا الوجه أن نشير إلى بعض الإعراف السائدة في بعض المناطق في التعامل مع
الصبابات.
الوجه الخامس: الصبابات في القانون المدني:
اشارت
إلى هذه المسألة المادة (1364) مدني التي وردت في القانون ضمن الأحكام الخاصة بحق
الشرب فقد نصت هذه المادة على أنه (لا يمنع ذو الصبابة من حقه وهو ما فضل من الماء
عن كفاية المتقدم في الإحياء والعبرة بالكفاية وقت الإحياء وإذا لم يعرف فالعبرة
بوقت السقي) وهي تقرر حق صاحب الأرض الملاصقة في الصبابة في السيل النازل من
الصبابة وفي الوقت ذاته تقرر حق صاحب المزرعة الذي يلي صاحب المزرعة الملاصقة
للصبابة.
الرهق
التابع للأرض أما أن يكون مساقي أو صبابات يصب منها الماء إلى الأرض الزراعية
فيسقيها، وأما ان يكون سواقي وأما أن يكون طريقاً إلى الأرض وغير ذلك، وقد بيّن
القانون المدني حكم المراهق التابعة للأرض المبيعة وذلك في المادتين (516 و518)
حيث نصت المادة (516) على أن: (يدخل في المبيع ما يندرج تحت اسمه عرفاً وما كان
متصلاً به اتصال قرار تبعاً بلا ذكر ولا يقابله شيء من الثمن كفناء الدار وما يوجد
في الأرض من أشجار، وكل مالا يتناوله اسم المبيع عرفاً وليس متصلاً به اتصال قرار
لا يدخل في المبيع إلا بذكره إن كان من حقوق المبيع ومرافقه)، وبناء على هذا النص
فإن الرهق الملاصق للأرض الزراعية المبيعة يدخل فيها حتى لو لم يتم ذكره في
البصيرة لأنه متصل بالأرض المبيعة إتصال قرار حسبما ورد في النص كما أنه تابع لها،
وفي هذا السياق نصت المادة (518) مدني على أن: (يدخل في بيع الأرض الماء من سيل
وغيل مالم يكن مستخرجاً بيد عامله أو بعرف قاض بعدم الدخول، وتدخل السواقي والمساقي والجدران والطرق
المعتادة كما يدخل الشجر النابت فيها مما يراد به البقاء لا ما يراد به ذلك من غصن
أو ورق أو ثمر أو زرع فأنها لا تدخل إلا بالنص عليها) وهذا النص صريح في دخول
الرهق الذي يستعمل عادة كمساقي للأرض يصب منه الماء إلى الأرض وقد يستعمل الرهق طريقا إلى الأرض .
الوجه السادس: الفرق بين المراهق الخاصة والمراهق العامة:
الصبابات من ضمن المراهق الخاصة، والمراهق
الخاصة : هي المراهق التابعة للأراضي الزراعية التي يتم ذكرها في وثيقة ملكية
الأرض الزراعية أو تلك المراهق التابعة للأرض
الزراعية التي بحوزة مالك الأرض الزراعية التي تنتفع بها الأرض الزراعية
على وجه الخصوص أو التابعة للأرض الزراعية بحسب عرف المنطقة ، اما المراهق العامة:
فهي الجبال والاكام (الهضاب) والمنحدرات والسوائل العظمى وغيرها التي لم يتعلق بها
حق لأحد كحق الملكية أو الإنتفاع الخاص، حسبما هو مقرر في المادتين (2 و6) من
قانون أراضي وعقارات الدولة.
الوجه السابع: المراهق العامة بين الملكية العامة وملكية الدولة:
لا
ريب ان قانون أراضي وعقارات الدولة يخلط بين ملكية الدولة والملكية العامة، وهذا
ظاهر في المادتين (5 و6) من قانون أراضي الدولة، فتصرح المادتان المشار إليهما إلى
أن المراهق العامة من ضمن أملاك الدولة اي
ان ملكية الدولة والملكية العامة شئ واحد – مع ان هناك فرق بين ملكية الدولة
والملكية العامة، فملكية الدولة: هي الأراضي والعقارات الخاصة بالدولة والجهات التابعة
لها التي تستعملها الجهات الحكومية لمباشرة أعمالها ووظائفها – اما الملكية العامة
فهي الأراضي والعقارات التي ينتفع بها المواطنون عامة إنتفاعاً مشتركاً كالمحاطب
والمراعي والسوائل، وقد فرق الفقه الإسلامي في وقت مبكر بين الملكية العامة وملكية
الدولة عن طريق مصطلحي (بيت مال المسلمين ومال الدولة)، فبيت مال المسلمين يمثل
الملكية العامة للمجتمع المسلم، في حين ان ملكية الدولة: هي الأملاك المخصصة
للدولة للنهوض بوظائفها، وقد اقتفى القانون الفرنسي اثر الفقه الإسلامي في تفريقه
بين الملكية العامة وملكية الدولة عن طريق
مصطلحي (الدومين العام والدومين الخاص) السائدين في القوانين الفرنسية
وشروحها. (النظرية العامة للملكية العامة، أ.د.عبدالمؤمن شجاع الدين، ص172).
الوجه الثامن : إثبات تبعية الصبابات للأرض الزراعية :
الصبابات هي أهم المراهق الخاصة للأراضي الزراعية ، ولذلك فإن
إثبات ملكية الأرض الزراعية يعد إثباتاً لتبعية الصبابة لها حتى لو لم يرد ذكر الصبابة في مستندات ملكية الأرض الزراعية، لأن إثبات الأصل يدل على
ثبوت تبعية الفرع للاصل .
وفي
بعض الحالات يتم ذكر الرهق التابع للأرض الزراعية في بصيرة شرائها أو في الفصل
الخاص بالوارث ، فيتم ذكر الرهق
التابع للأرض عن طريق ذكر قدر مساحة الرهق
في البصيرة أو الفصل مثل عشرين لبنة شاملة الرهق ، وفي بعض الحالات يتم تحديد
مساحة الرهق عن طريق ذكر حدود الرهق التابع للأرض مثل (ويلحق بها الصبابات أو
المنحدر أو الرهق حتى حيد كذا أو ضاحة أو قوز أو جبل أو تلة أو تبه شمالاً وجنوباً
السائلة العظمى..إلخ .)، وفي بعض الحالات يتم دمج مساحة الرهق بمساحة الأرض
الزراعية كأن يذكر المساحة الإجمالية للأرض الزراعية مع الرهق التابع لها فيذكر حدود
الأرض المبيعة كاملة مع الرهق.
الوجه التاسع: عدم جواز التصرف في رهق الأرض الزراعية إستقلالاً عنها:
الصبابات من مراهق الأرض الزراعية، وقد سبق
القول: بأنه يتعذر الإنتفاع بالأرض الزراعية بدون الرهق التابع لها، وبناءً على
ذلك لا يجوز بيع مسقى الأرض على حدة أو الطريق إليها بصفة مستقلة عن الأرض
الزراعية، لأن التابع لا يجوز التصرف فيه إستقلالاً عن المتبوع، وفي هذا المعنى
نصت المادة (1363) مدني على
أن (حق الشرب يورث ويوصى بالانتفاع به, ولا يباع الا تبعا للارض ولا يوهب ولا يؤجر
الا لعرف) .وقد
علقنا على أكثر من حكم في هذا الموضوع، ولكن إذا تحولت الأرض الزراعية إلى عرصات
للبناء فيجوز عندئذ التصرف في رهقها إستقلالاً، لان أرض البناء لاتحتاج إلى مساقي
وصبابات .
الوجه العاشر: تقسيم الصبابات عند عدم ذكرها في البصيرة والفصل:
المعلوم
أن الرهق الخاص المشترك ومن ذلك الصبابات يتم
تقسيمه في الغالب إذا لم يتم تحديد نصيب كل أرض من الرهق في البصيرة أو الفصل، ففي
هذه الحالة يتم تقسيم الرهق المشترك بين ملاك الأرض الزراعية على قدر مساحة الأرض الزراعية لكل مالك ، وفي بعض الحالات يتم
تقسيم الرهق على أساس ان لكل مالك ما يقابله أو يحيط به من
الرهق او على أساس ، وقد رفض الحكم محل تعليقنا طلب الطاعن تقسيم الرهق على
أساس مساحة كل مالك من الأرض الزراعية، وفي
بعض المناطق يتم تقسيم الصبابة على أساس ان يكون نصف الرهق لصاحب الأرض الأولى
الملاصقة للصبابة وثلث الرهق لصاحب الأرض الثانية الاسفل من الأولى والسدس لصاحب
الأرض الثالثة من الأسفل.
الوجه الحادي عشر: عدم جواز منازعة المالك إذا تضمنت وثيقة ملكيته مساحة الرهق أو حدود الرهق التابع لارضه الزراعية:
في تعليق
سابق اوردنا حكم المحكمة العليا الذي قضى بعدم
جواز منازعة المالك أو المطالبة بالرهق على خلاف ما ورد في فصله أو بصيرته إذا
كانت قد تضمنت تحديد مساحة الرهق التابع لأرضه أو تضمنت وثيقة الملكية حدود الرهق
التابع للمالك،وقد أستند ذلك الحكم إلى اسانيد واعتبارات عدة منها: أن إرادة البائع
والمشتري قد انصرفت إلى تحديد مساحة الرهق التابع، وكان لذلك إعتبار في تحديد ثمن
الأرض المبيعة، وكذلك الحال عند تحديد
مساحة الرهق التابع وحدوده في الفصول، لأن إرادة المتقاسمين قد اتجهت إلى ذلك
لإعتبارات تمت مراعاتها حين إجراء القسمة وتحديد الأنصبة ، كما أن تضمين وثيقة الملكية
مساحة الرهق وحدودها قد يرجع تقديره إلى إرادة الأطراف وتقديرهم في ان الإنتفاع
الغالب من الرهق المذكور في الوثيقة لمالك الأرض المذكورة في الوثيقة، وكذا قد
يرجع ذلك إلى إرادة الأطراف في حسم النزاع مستقبلاً بين الجيران في الأرض الزراعية
على الرهق المجاور، ولهذه الإعتبارات نلاحظ بكثرة أن بعض الأراضي يكون الرهق
التابع لها أكثر من الرهق التابع للأرض المجاورة لها.
الوجه الثاني
عشر: دور العرف في تحديد الصبابات في المراهق الخاصة:
تختلف
الأعراف السائدة في المناطق اليمنية المختلفة بشأن تقسيم المراهق التابعة للأراضي
الزراعية بسبب إختلاف طبيعة المراهق
الخاصة وطبيعة الأراضي الزراعية واختلاف
أعراف السقي والشرب للأراضي الزراعية، فهناك مناطق يجري العرف
فيها على تقسيم الرهق بحسب الأرض المقابلة للرهق، وقد سبقت الإشارة إلى هذا العرف
في تعليق سابق، كما أن هناك اعراف تذهب إلى تقسيم المراهق الخاصة (الصبابات) على أساس ان يكون نصف الرهق لصاحب
الأرض الأولى الملاصقة للرهق وثلث الرهق لصاحب الأرض الثانية الاسفل من الأولى
والسدس لصاحب الأرض الثالثة من الأسفل.
الوجه الثالث عشر: حجية العرف في تقسيم المراهق الخاصة في القانون المدني:
العرف معتبر في الشريعة الإسلامية إذا لم يخالف
النصوص الشرعية، وينبغي العمل بموجبه، وعلى هذا الأساس فقد أوجب القانون المدني
العمل والحكم بموجب الأعراف التي لا تخالف الشريعة الإسلامية، ومن ذلك الأعراف الجارية
بين الناس في المناطق المختلفة التي تحدد كيفية تقسيم المراهق الخاصة كالصبابات ،
وفي هذا المعنى نصت المادة (1) من القانون المدني على أنه (فإذا لم يوجد حكم
القاضي بمقتضى العرف الجائز شرعاً)، فهذا النص يشمل العادات الجارية في المناطق
المختلفة بشأن تقسيم الرهق الخاص بين أصحاب الأراضي التي تنتفع بالماء السائل منه،
كما صرح القانون المدني على وجوب إحترام عادات واعراف الناس التي لا تخالف الشرع
والقانون، وفي هذا المعنى نصت المادة (12) مدني على أن (الأصل في المعاملات
وانواعها وكيفيتها ما اقره الشرع ثم ما جرى به عرف الناس وتراضوا عليه مالم يخالف
حكم الشرع من تحليل حرام أو تحريم حلال). والله اعلم.