إحياء الأرض لا يكون إلا في مباح
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
قضى الحكم محل تعليقنا بأن إحياء الأرض لا يكون سبباً من أسباب ملكية الأرض إلا إذا كان الأحياء في أراضي مباحة لا يتعلق بها حق لأحد، وهذا الأمر يستدعي الإشارة إلى مفهوم الأرض المباحة التي يجوز الإحياء فيها وشروط الإحياء وضوابطه وإشكاليات الإحياء وموقف الفقه الإسلامي والقانون المدني وقانون أراضي وعقارات الدولة وقانون الوقف الشرعي من الإحياء، وذلك في سياق التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة المدنية في جلستها المنعقدة بتاريخ 33-11-2006م في الطعن رقم (26117) الذي ورد ضمن أسبابه: ((وبإمعان النظر في أسباب الطعن فقد تبين للدائرة ان الشهادات المقدمة من الطاعن أمام محكمة الموضوع تعلقت بحيازة عارضة زالت بزوال سببها، وان إحياء الأرض لا يكون إلا في مباح لا في ملك ثابت بحججه الشرعية والقانونية))، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الأتية:
الوجه الأول: ماهية إحياء الأرض الميتة وشروط الإحياء ومظاهره في الفقه الإسلامي:
اولا تعريف الأرض الموات التي يجوز الإحياء فيها :
مصطلح الموات، مشتق من الموت وهو ذهاب القوة من الشيء فالموت حسب ماذكر ابن منظور يطلق على السكون، فالأرض الموات هي الأرض التي لا مالك لها من الآدميين ولا ينتفع بها أحد، او تلك التي لم يسبق إحيائها من قبل فهى لا تزال باقية على ما خلقها الله عليه كأرض صحراء، أو تلك الأرض التي لم تحيى بعد، أو هي الأرض التي خلت من العمارة والسكان، أو هي الأرض التي ليس لها مالك ولا ينتفع بها أحد، وسميت مواتاً لأنها خلت من السكان والعمارة تسمية بالمصدر، فالموات فى عند الفقهاء هو عبارة عن الأرض التي ليس بها عمارة ولا بها ماء وليس لها مالك ولا يملكها أو شخص ينتفع بها.
فمصطلح الأرض الموات في الفقه الإسلامي يطلق على الأرض التي لا نبات بها حسب ماذكر ابن رشد، بيد أن هذا التعريف حصر الأرض الموات في دائرة ضيقة، لكونه لا يعتبر الأرض ذات الأشجار أو ذات الأشواك مواتا، إذ أن أكثر الفقهاء يعتبر الآجام والمستنقعات من الموات أيضاً.
وعرفها ابن الحاجب بكونها “الأرض المنفكة عن الاختصاص بنفع،” ومن خلال مطالعة هذا التعريف يظهر ان الأرض الموات يدخل في مفهومها الأرض ذات النباتات والأرض الجرداء، شريطة أن تكونا مجردتين عن أي علاقة بمختص، سواء كان محييا أو محجرا أو منتفعا بها.
فالفقهاء متفقون على أن الأرض الموات هي الأرض التي لا مالك لها ولا عمارة فيها ودليلهم في ذلك ما جاء في سورة النحل من قوله سبحانه وتعالى “والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها”. (الآية: 65)
وتختلف أسباب موات الأرض فقد يكون سبب مواتها الجفاف وانقطاع الماء عنها، وقد يكون سبب مواتها تواجد الرمال أو زحفها عليها او وجود الأحجار والنباتات الضارة بها.
ثانيا : تعريف إحياء الأرض الموات :
الإحياء لغة: جعل الشيء حياً، ، وإحياء الموات: ببث الحياة في الأرض بالإحاطة أو الزرع أو العمارة؛ تشبيها بإحياء الميت وبث الروح فيه، فالإحياء في اللغة يعني جعل الشيء حياً والموات وهو يعنى ما لا روح فيه أو الأرض التي ليس لها مالك أو الأرض الغير عامرة الخراب.
أما الإحياء في الفقه فهو عبارة عن استصلاح الأرض الموات بالبناء وإحياء الموات اي استصلاح الأراضي الموات وجعلها صالحة للزراعة ، برفع عوائق الزراعة سواء كانت أحجارا اوأعشابا، واستخراج الماء، وتوفير التربة الصالحة للزراعة، وإقامة الأسوار عليها أو تشييد البناء فيها.
وقد اختلف الفقهاء في تعريفهم للإحياء بحسب اختلافهم في الشروط، فعرف الحنفية الإحياء بأنه «التسبب للحياة النامية ببناء أو غرس أو كرث (حراثة) أو سقي»، وعرفه ابن عرفة المالكي بأنه «لقب لتعمير أمر الأرض بما يقتضي عدم انصراف المعمر عن انتفاعه بها»، وقال الشيخ عليش المالكي: «الموات ما لم يعمر من الأرض، والحياة ما عمرت، والإحياء التعمير»، وعرفه البيضاوي الشافعي بأنها «عمارة أرض لا مالك لها»، وعرف النووي الشافعي الموات بأنها «الأرض التي لم تعمر قط»، وقال الحنابلة: «الأحياء تملك الأرض بالحيازة أو التعمير بالعمارة العرفية لما يريده المالك».
وذهب الزيدية والأحناف الى أن إحياء الموات يكون بالبناء، أو الغرس، أو الكرب أو إقامة المسناة (السد) أو التحويط، أو السقاية ، وقال المالكية إن إحياء الموات يكون بالبناء، و الغرس، والزراعة، و الحرث، وإجراء المياه، وغيرها.
وذهب الشافعية إلى أن إحياء الموات يختلف بحسب الغرض المقصود من الأرض، وذلك يرجع إلى العرف، فإذا أراد إحياء الموات مسكن اشترط تحويط البقعة بآجُرٍّ أو قصب بحسب عادة، ذلك المكان، وقال الحنابلة أن إحياء الأرض يعنى أن يحوط عليها حائطًا منيعا ، سواء أرادها للبناء أو الزرع أو حظيرة للأغنام ، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من أحاط حائطًا على أرض، فهي له».
ويظهر من هذه التعريفات أن إحياء الأرض الموات: هو بث الحياة في الأرض التي تكون بحكم الميت، والانتفاع بها، وإصلاحها بالبناء، أو الغرس، أو الحرث، أو السقي، والاستفادة منها بكل الوسائل التي تعود بالنفع على الإنسان والمجتمع والدولة والأمة.
فالإحياء الذي يملك به الإنسان الأرض يختلف بحسب المقصود من الأرض، وبحسب اختلاف أعراف البلدان، فيرجع فيه إلى العرف والمقصود، فإحياء كل شيء بحسبه وعرف بلده.
فإحياء الموات للسكن يكون بتحويط البقعة باللبِن، وسقف بعض الأرض، وإكمال ما يلزم للسكن عادة، وإحياء الموات مزرعة يكون بتحويط الأرض، وتسويتها، وإيجاد الماء، والغرس ونحو ذلك، ولا يحصل الإحياء بمجرد الحرث والزرع؛ لأنه لا يراد للبقاء بخلاف الغرس، وإحياء الموات المغمور بالماء بكون بحبسه ونزحه، لتكون صالحة للبناء أو الزراعة.
وإحياء الموات المملوء بالحجارة أو الحفر يكون بنقل الحجارة منه، وتسوية الأرض، لتكون صالحة للبناء أو الزراعة.
ومن حفر بئراً، فوصل ماءها فقد أحياها، وله حماها ومرافقها المعتادة إذا كان ما حولها مواتاً.. وهكذا. ويُرجع في ذلك كله إلى العرف، فما عده الناس إحياءً فإنه تُملك به الأرض الموات، فمن أحياها إحياءً شرعياً ملكها بجميع ما فيها، كبيرة كانت أو صغيرة. وإن عجز عن إحيائها فللإمام أخذها وإعطاؤها لمن يقدر على إحيائها، واستثمار منافعها. ولا مصالح ومرافق المكان العامر المجاور.. ولا ما يتعلق بمصالح البلد من طرق وشوارع، وحدائق ومقابر، ومسايل المياه ونحو ذلك. فلا يصح إحياء ذلك كله، قَلَّ أو كثر؛ لفقده شرط الإحياء.
ويظهر مما تقدم ان مصطلح –إحياء الموات- يطلق عند الفقهاء على قيام الشخص بأعمال تؤدي إلى جعل الأرض غير المملوكة والتي لا يمكن الانتفاع بها على حالتها صالحة للاستغلال، وهذا يعني أن الأرض التي لا تصلح تسمى أرضا ميتة أو مواتا. وإحياؤها يكون بجعلها صالحة للانتفاع بها وذلك مثل المستنقعات التي يتعذر استغلالها بسبب المياه التي تغمرها. ومثل الصحاري التي لا تتأتى زراعتها ولا السكن فيها لشدة جفافها،ولكن إن جفف المستنقع وأصلح أو جلبت المياه إلى الصحراء وأصبحا صالحين للاستغلال والسكنى، فإن ذلك يعتبر إحياء لهما.
ويعد إحياء الأراضي الموات سببا من أسباب التملك دل وفقا للنصوص الشرعية التي يستدل بها الفقهاء على جواز إحياء الأرض الموات، فقد روي عن سعيد بن زيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال “من أحيا أرضا ميتة فهي له” واللام تدل على الاختصاص بالشيء وملكه، كما أنه روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال صلى الله عليه وآله وسلم “من عمر أرضا ليست لأحد فهو أحق بها”.،فمن خلال هذه الأدلة يظهر ان الإحياء يقع بوضع اليد على الأرض الميتة غير المملوكة لاحد والتي لم يتعلق بها حق لأحد اذا قام واضع اليد
ثالثا :شروط إحياء الموات:
من خلال مطالعة اقوال الفقهاء يظهر انهم قد نظموا إحياء الأرض تنظيما دقيقا، فقد وضعوا شروطا لصحة إحياء الموات منها ماياتي :
1- أن تكون الأرض الموات ليست ملكاً لأحد، وليس عليها اختصاص لأحد اي أنه لا ينتفع بها احد إنتفاعا خاصا، فلم يتعلق بها حق وارتفاق أو إنتفاع خاص .
2- ألا تكون أرض الموات مرفقا ينتفع به اهل البلد كمرعى ومحتطب، ومناخ إبل، ومطرح رماد ماشابه ذلك ، فلا يجوز الإحياء في هذه المرافق .( إحياء الأرض الموات في صدر الإسلام، د. عثمان اسماعيل الطل، ص123).
رابعا :ما لا يصح الاختصاص به عن طريق الإحياء وضوابط الإحياء :
لايصح ان يكون الأحياء وسيلة للإختصاص اي ان يقوم الشخص بالأحياء حتى يتمكن من خلال ذلك إلى أن يختص وحده بملكية الماء والكلأ والنار وغيرها من الأشياء أو الأموال الضرورية للناس، فيجب أن تبقى مشاعة مباحة مبذولة لعامة المنتفعين منها، فلا يجوز لأحد أن يختص بها، ويَمنع بقية الناس من الإنتفاع بها، ومن ذلك ماياتي :
1- الماء: فلا يصح تملك ماء السماء، وماء العيون، وماء الأنهار، ولا يجوز ولا يصح بيعه؛ لأن الناس شركاء فيه.
فإذا حازه الإنسان في بِرْكته، أو قِرْبته، أو في خزان، أو إناء، فيجوز بيعه.
2- الكلأ: وهو الحشيش، سواء كان رطباً أو يابساً، وهو نبات البر، وعلف البهائم، فلا يصح بيعه، ولا يجوز منع الناس منه؛ لأن الناس شركاء فيه.
فإذا جمعه وحصده تملَّكه، وجاز بيعه.
3- النار: وهي من الأشياء المشاعة بين الناس، فلا يجوز بيعها، وإنما يجب بذلها لمحتاجها، سواء في ذلك وقودها كالحطب، أو جذوتها كالقَبَس.
فهذه الثلاثة ومافي حكمها تعد من المراهق العامة التي يجب بذلها، ويحرم منعها؛ لأن الله أشاعها بين خلقه، والضرورة تدعو إليها.
2- أن تكون الأرض ليس لها مالك.
3- ألا تكون مرتفقًا بها أي: مستعملة ارتفاقًا لأهل البلدة؛ كمحتطب، أو مرعى، أو نادٍ يجتمع فيه للتحدث، ومرتكز للخيل ونحوه.
4- قال أبو حنيفة: لا بد أن يكون إحياء الأرض الموات بإذن الإمام؛ لحديث: (ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه) واتفق المذهب الحنفي على أن الأرض الموات: هي أرض خارج البلد وليس لها مالك ولكن إن كانت هذة الأرض داخل البلد لا يكون موات أصلاً، وكذا ما كان خارج البلدة من مرافقها، محتطباً لأهلها، أو مرعى لهم. فلا يجوز إحياء ماقرب من العامر؛ لأنه من مرافقه التابعة له ويترك مرعى لأهل القرية، ومطرحاً لحصائد أهل القرية، لتحقق حاجتهم إليها، فلا يكون مواتاً كالطريق والنهر فالمهم في الأرض غير المملوكة عدم الارتفاق من أهل البلد سواء قربت من العامر أم بعدت.
5- وقال المالكية: إذا كانت قريبةً من العمران، افتقر إحياؤها إلى إذن الإمام بخلاف البعيدة من العمران، وقال (الشافعية والحنابلة): مَن أحيا أرضًا تملَّكها، وإن لم يأذن له فيها الإمام، اكتفاءً بإذن رسول الله – صلى الله عليه وسلم (مَن أحيا أرضًا ميتة، فهي له). وقد ذهب المالكية إلى أن إذا تم تعمير هذا الأرض من بناء أوغرس أو ماء فأنه لا يزول ملكها عمن أحياها، إلا بإحياء جديد من غيره بعد اندراسها بمدة طويلة يقدرها عرف الناس، فتصبح حينها ملكاً للمحيي الثاني. وذلك سواء أكانت الأرض قريبة من العمران أم بعيدة من العمران، إلا أن الأولى يفتقر إحياؤها إلى إذن الحاكم، واشترط جمهور الفقهاء أن يتم الإحياء في حالة التحجير خلال مدة أقصاها ثلاث سنين؛ لقول عمر – رضي الله عنه -: “ليس لمتحجرٍ بعد ثلاث سنين حق”.(إحياء الأرض الموات، د. محمد الزحيلي،ص 72).
خامسا :بعض أحكام إحياء الأرض الموات:
الحكم الأول : إذا تمت إحاطتها بحائط منيع مما جرت العادة به ؛ فهكذا يكون أحياه ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من أحاط حائطاً على أرض ؛ فهي له ) ، رواه أحمد وأبو داود عن جابر ، وصححه ابن الجارود، وهو يدل على أن إحاطة الأرض هو شئ مستحق لمالكها، وهذا ما يسمى حائطاً في اللغة ، أما إذا أدار حول الموت أحجاراً ونحوها كتراب أو جدار صغيراو زرب لا يمنع ما وراءه أو حفر حولها خندقاً ؛ فإنه هكذا لا يملكها ، لكن يكون أحق بإحيائها من غيره ، ولا يجوز له بيعها إلا بإحيائها، ولا يحق له في هذه الحالة ان يستمر في تحجرها فوق ثلاث سنين، فالتحجر في هذه الحالة لايعطيه الا الحق في الأحياء خلال ثلاث سنوات، ولذلك فقد وذهب غالبية الفقه إلى أن التحجر لايكون إحياء بل وسيلة للاحياء.
الحكم الثاني : إذا تم حفر بئر في الأرض الموات، فوصل إلى مائها فيكون قد قام بإحيائها، فإن حفر البئر ولم يصل إلى الماء فإنه هكذا لا يملكها، وإنما يكون أحق بإحيائها عن غيره لأنه قام بإحيائها، وَعَنْ عبدِالله بْنِ مُغَفَّلٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.
الحكم الثالث : إذا أوصل إلى الأرض الموات ماء أجراه من عين أو نهر فهكذا قد قام بإحيائها لأن الماء نفع الأرض أكثر من الحائط .
الحكم الرابع : إذا تم حبس الماء المالح أو المانع للزراعة عن الأرض الموات ولا تصلح معه للزراعة ، فحبس الماء عنها حتى أصبحت صالحة لذلك فهكذا قد قام بإحيائها لأن نفع الأرض بذلك أكثر من نفع الحائط، وعن النبي صلى الله عليه و آله وسلم: منها: قوله: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له».
وإذا كان يمر بأملاك الناس ماء غير مملوك لأحد (كماء النهر- ماء الوادي- هكذا..) فللأعلى أن يسقي منه ويحبس الماء إلى الكعب ثم يرسله لمن بعده، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( اسق يا زبير ! ثم احبس الماء حتى يصل إلى الجدر ) ؛ متفق عليه ، وذكر عبد الرزاق عن معمر الزهري ؛ قال : نظرنا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ثم احبس الماء حتى يصل إلى الجدر ) . فكان إلى الكعبين ، فوجدوه يبلغ الكعبين , فجعلوا ذلك معياراً لاستحقاق الأول فالأول، وروى أبو داود وغيره عن عمرو بن شعيب ؛ أنه صلى الله عليه وسلم قضى في سيل مهزور ( وهو وادٍ مشهور فى المدينة) ( أن يمسك الأعلى حتى يبلغ السيل الكعبين، ثم يرسل الأعلى إلى الأسفل ) .
أما إن كان الماء مملوكاً (أى شخص ما هو الذى قام بوضع الماء فى الأرض الميتة) فإنه يقسم بين المالكين بقدر أملاكهم، ويتصرف كل واحد في حصته كما يشاء. ( فتح القدير 10/183).
سادساً : أحكام الحمى في الفقه الإسلامي :
فقد كان ولي الأمر يقوم بتخصيص جزء من الأرض لانتفاع عامة المسلمين، الأمر الذي يجعلها واقعة في إطار الملكية العامة ولا يسمح أن تكون -كلها أو بعضها- ملكية خاصة. وفي دول الرسول عليه السلام حمى عليه الصلاة والسلام أرض النقيع، وجعلها لخيل المسلمين "وهو موضع معروف قريب من المدينة المنورة". كذلك قام عمر بن الخطاب بحماية أرض بالربذة -مكان بين مكة والمدينة- وجعل كلأها لفقراء المسلمين ترعى فيها ماشيتهم، ومنع منها الأغنياء.
وهذه الحماية من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم من عمر -رضي الله عنه- تمثل إقرارا للملكية العامة حيث تصير الأرض ملكا لجماعة المسلمين تحقيقا لصالحهم العامة ، فقد اتفق الفقهاء على أنه يجوز لإمام المسلمين أن يحمي أو يخصص أرضا لرعي مواشى بيت مال المسلمين (كخيل الجهاد، وإبل الصدقة) ما لم يضرهم بالتضييق عليهم، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين ) ؛ فيجوز للإمام أن يحمي العشب في أرض الموات لإبل الصدقة وخيل المجاهدين وأنعام الجزية والضوال إذا احتاج إلى ذلك ولم يضيق على المسلمين، وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من أحيا أرضاً ميتة فله فيها أجر، وما أكلت الدوابّ منه فهو له صدقة»، فاحكام الحمى في الفقه الإسلامي هي الأساس الشرعي لقانون أراضي وعقارات الدولة الذي حدد المراهق العامة التي ينتفع بها عامة الرعية في الدولة اليمنية( النظرية العامة للملكية العامة، ا. د. عبد المؤمن شجاع الدين، ص 154).
الوجه الثاني: إحياء الأرض الموات في القانون المدني اليمني:
اجاز القانون المدني اليمني إحياء الأرض الموات وجعله من ضمن أسباب الملكية، ولكن هذا القانون احسن صنعا حينما ضبط الإحياء بموجب الإجراءات الواردة في قانون أراضي وعقارات الدولة،، وهذا يعني ان الإحياء وان نظمه القانون المدني واجازه الا ان ذلك يتم وفقا للإجراءات والضوابط المحددة في القانون الخاص وهو قانون أراضي وعقارات الدولة.
فقد نصت المــادة(1242) مدني على أنه ( يجوز للمسلم احياء او تحجر الارض الموات المباحة للكافة وهي التي لم يملكها احد ولا تحجرها احد ولا تعلق بها حق عام او خاص طبقا لما هو منصوص عليه في هذا القانون، وقانون المراهق والمرافق العامة والخاصة) والمقصود بقانون المراهق العامة والخاصة في هذا النص هو قانون أراضي وعقارات الدولة، كما يظهر من هذا النص أنه قد أخذ بتعريف غالبية الفقهاء للأرض الموات )، وكذا نصت المــادة(1243) على أنه ( يجوز بأذن رئيس الدولة بعد عرض الحكومة احياء الارض التي لم يتعين ذو الحق فيها في الاحوال الاتية:
1 . اذا كان ذو الحق مجهولا .
2 . اذا كان ذوو الحق غير منحصرين .
3 . اذا تحجر الارض متحجر ولم يحييها ومضى على ذلك ثلاث سنوات .
ولا يتجاوز الاحياء في البناء قدر عرصة البيت ومرافقه بما لا يزيد على خمسمائة متر مربع وفي الزراعة بمقدار ما يحصل من الفوائد التي تكفي المحتاج واسرته ممن تلزمه نفقتهم من الدخل الى الدخل بشرط احيائه وللمصالح بقدر ما تحتاجه .
المــادة(1244): اذا كان ذو الحق معينا فلا يجوز احياء الارض الا باذنه نحو محتطب القرية ومرعاها ومرافقها وبطن الوادي الذي اهل الحق فيه منحصرون .
المــادة(1245): لحمى البلد والبيوت والابار والاشجار حرمة, فلا يجوز لاحد تحجرها او احياؤها الا باذن مالكها او ذو الحق فيها, وحمى البلد هو مداخلها ومخارجها ومحتطبها ومرعاها, وحمى الدار هو ما يرتفق به اهلها في اقامتهم بها, وحمى البئر هو مرافقها المعتادة وما يسع واردها لشرب او سقي ويضر احداث شيء فيه واردها او ماءها, وحمى الشجرة ما تحتاج له في سقيها ومد جذورها وفروعها، ويضر احداث شيء فيه ثمارها, وتراعى الاعراف في كل ما تقدم) وفي السياق ذاته نصت المادة (1246) على أنه( يعتبر في الاحياء والتحجر قصد الفعل لا قصد التملك فلا يشترط ويترتب عليه اثاره بمجرد حدوثه ) وكذا
نصت المــادة(1247) على أنه( يكون الاحياء للأرض بأعدادها للانتفاع بها بأحد امور هي الحرث والبذر او امتداد الكرم, او ازالة الشجر النابت خلفه وتنقيتها من الحشائش او اتخاذ حائط او خندق عميق للغدير من ثلاث جهات او بناء أيا كان او بحفر في معدن ونحو ذلك)، كما نصت المــادة(1248) على أن ( كل من احيا ارضا يجوز احياؤها كما هو منصوص عليه في المادتين (1242- 1243) بأحد الامور المتقدمة المنصوص عليها في المادة السابقة يتملكها سواء في ذلك الدولة او غيرها من الاشخاص, ويشترط بالنسبة للأشخاص الطبيعيين ان لا يزيد ما يتملكه الفرد بطريق الاحياء على ما يلزم له ولأفراد اسرته ممن تلزمه نفقتهم وللدولة بقدر ما تحتاجه ) فقد حدد هذا النص المساحة التي يجوز للشخص احياؤها حتى لا يتحول الإحياء إلى اقطاع سيما في العصر الحاضر الذي توفرت فيه المعدات الحديثة لإحياء الأرض، وفي هذا السياق نصت المــادة(1249) على أنه( لا يبطل الملك بعودة الارض الى ما كانت عليه قبل الاحياء ولو احياها بعد ذلك غيره فهي لمن احياها اولا ، وكذا نصت المــادة(1250) على ان( الاحياء لمن قام به بنفسه او بمن يستأجره او يشترك معه او يوكله مع مراعاة ما هو منصوص عليه في المادة (1243))، وبينت المــادة(1251) كيفية التحجر على الأرض فقد نصت على أنه ( يكون التحجر بضرب الاعلام في الجوانب اما بنصب احجار متفرقة او باتخاذ خندق غير عميق او ربط اغصان الشجر بعضها الى بعض) وفي
سياق بيان أحكام التحجر نصت المــادة(1252) على ان( التحجر لا يفيد الملك, وانما للمتحجر حقا به يمنع غيره مما تحجره الا ان يبيحه له او يهبه اياه بلا عوض كما يجعل للمتحجر الانتفاع بما تحجره وما حازه من اشجار)، اما المــادة(1253) فقد حددت مدة التحجر، حيث نصت على أنه( يستمر حق المتحجر ثلاث سنوات اذا مضت دون احياء الارض التي تحجرها بطل حقه ولا يجوز له ولا لغيره تحجرها او احياؤها بعد ذلك الا بأذن الدولة طبقا لما نصت عليه المادة (1243).). وكذا نصت المــادة(1254)على أنه ( لا يبطل حق المتحجر في مدته بأحياء الغير لما تحجره غاصبا).
الوجه الثالث: إحياء الأرض الموات في قانون أراضي وعقارات الدولة:
قانون أراضي وعقارات الدولة هو القانون الخاص الذي ينظم ويحدد أراضي وعقارات الدولة و المراهق والمرافق العامة المخصصة للمنفعة العامة، وفي الوقت ذاته فإن هذا القانون هو القانون الخاص الذي ينظم إجراءات وطرق الإحياء للأراضي الموات والضوابط اللازمة لذلك ، وبناء على ذلك فقد أحال القانون المدني إلى قانون أراضي وعقارات الدولة بيان إجراءات وضوابط الإحياء، وفي هذا الشأن فقد ورد ضمن تعاريف قانون أراضي وعقارات الدولة تعريف المراهق العامة بأن ( المراهـق العامــة : الجبال والآكام والمنحدرات التي تتلقى مياه الأمطار وتصريفها ويعتبر في حكم المراهق العامة السوائل العظمى التي تمر عبرها مياه السيول المتجمعة من سوائل فرعية)، ومن المعلوم ان الأموال المذكورة ضمن تعريف المراهق العامة هي من الأرض الموات السابق بيانها في الوجهين السابقي، وفي هذا السياق حددت المادة
(5) من قانون الأراضي، أراضي الدولة العامة والخاصة فقد نصت هذه المادة على أنه( أ - تتكون أراضي وعقارات الدولة من أملاك الدولة العامة وأملاك الدولة الخاصة ويعتبر من الأملاك العامة كل ما هو مخصص بطبيعته أو تم تخصيصه للمنفعة العامة بعد تعويض من له ملك خاص فيها تعويضاً عادلاً وفقاً لقانون الاستملاك للمنفعة العامة- ب - لا يجوز التصرف في أملاك الدولة العامة بأي نوع من أنواع التصرفات إلا إذا زالت عنها صفة المنفعة العامة بمقتضى قانون خاص أو قرار من مجلس الوزراء أو زالت عنها صفة المنفعة العامة بالفعل) فقد تضمن هذا النص املاك الدولة الخاصة، وهي تلك الأملاك المخصصة لقيام الدولة بواجباتها كمقار الجهات الحكومية، في حين أن المقصود الأملاك العامة للدولة في هذا النص هي الأملاك المخصصة بطبيعتها أو تلك التي تخصصها الدولة للمنفعة العامة العامة الشعب، ويندرج ضمن هذا النص الأراضي الموات المخصصة بطبيعتها للمنفعة العامة كالمراعي والمحاطب وحمى المدن والقرى ومتنفساتها.
اما المادة (6) من القانون ذاته فقد حددت أراضي وعقارات الدولة الخاضعة لقانون اراض وعقارات الدولة فقد نصت هذه المادة على أنه ( يعد من أراضي وعقارات الدولة الخاضعة لأحكام هذا القانون ما يلي :
أ- الأراضي والعقارات التي تكون رقبة الملك فيها عائده للدولة .
ب- الأراضي والعقارات التي يثبت أنها مملوكة للدولة بأي سبب من أسباب التملك بموجب وثائق ومستندات وأدلة شرعية .
ج- الأراضي والعقارات التي تشتريها الدولة او تستملكها للمنفعة العامة أو تؤول إلى الخزينة العامة استيفاءً لديون مستحقه لها بموجب أحكام شرعية نهائية .
د- الأراضي البور والأحراش والغابات مالم يتعلق بها ملك ثابت لأحد .
ه- الأراضي الصحراوية مالم يتعلق بها ملك ثابت لأحد .
و- المراهق العامة .
ز- الشواطيء ومحارمها والجزر وأشباه الجزر البحرية غير الآهلة بالسكان وسائر المناطق البحرية التي يجف ماؤها وتصبح يابسة وذلك وفقاً لأحكام هذا القانون .
ح- الأراضي والعقارات التي لا يعرف مالكها أو لا وارث لها طبقاً لقواعد وأحكام الشريعة .
ط- أية أراضي أو عقارات أخرى تعد وفقاً لأحكام القوانين النافذة أنها ملك للدولة) ومن خلال استقراء ماورد في هذه المادة نجد أنها قد شملت الأراضي الموات التي تناولها القانون المدني التي نص عليها الفقهاء حسبما سبق بيانه في الوجهين السابقين.
ونخلص من هذا الوجه إلى القول : أن إحياء الأرض الموات صار محكوما بالإجراءات والضوابط والنماذج المحددة من قبل الهيئة العامة للأراضي والمساحة والتخطيط العمراني بإعتبارها الجهة المختصة بذلك وفقا لقانون أراضي وعقارات الدولة.
الوجه الرابع: إحياء الأرض في قانون الوقف الشرعي:
لأموال الوقف مراهق خاصة بها وتابعة لها كصبابات ماء المطر إلى اراضي الوقف الزراعية إضافة إلى أن هناك أراضي وقف صالبة، وهذه الأراضي وان كانت ميتة أو صالبة الا انها مملوكة للوقف، وبما أن تلك الأراضي مملوكة للوقف فلايجوز الإحياء فيها بقصد تملكها، لان الفقه الإسلامي والقانون المدني قد اشترطا في الأحياء ان لاتكون الأرض التي يتم احياؤها مملوكة لاحد ولم يتعلق بها حق لأحد، بيد أنه يجوز الإحياء أراضي الوقف بقصد الإنتفاع بها بعد إستئجارها من هيئة الأوقاف وبعد اذن هيئة الأوقاف بإعتبار الهيئة هي المعنية بذلك وفقا لقانون الوقف الشرعي، وقد اشترط قانون الوقف الإذن باستصلاح الصالب من أراضي الوقف حتى تتأكد هيئة الأوقاف من اجارة من يريد الإحياء وتتحقق الهيئة من تكاليف الإحياء، وقد نصوص في قانون الوقف اجازت إصلاح أموال الوقف واجازت العناء لمن يقوم بإصلاح استصلاح أموال الوقف، وفي هذا الشأن نصت المادة (66) من قانون الوقف على أنه( يجب على المتولي المحافظة على عين الوقف وعين الموقوف عليه وأملاك الوقف المشتراه من فائض غلته ورعايتها واصلاح ما تلف منها وإجراء الترميمات وغيرها مما يلزم لصيانتها مع مراعاة ما هو منصوص عليه في المادة (55) من هذا القانون) وفي السياق ذاته نصت المادة (67) من القانون ذاته على أنه( يجب على المتولي استغلال عين الوقف وادارتها واستعمالها فيما أعدت له والا تعلق من عليها فيما يلزم لذلك بإصلاح التالف والمتهدم على الترتيب المبين في المادة (55) من هذا القانون) وكذا نصت المادة (63) وقف على أنه( لا يجوز البسط على الوقف من أي شخص أو جهة الا بأذن المتولي وبعد الاستئجار منه) وكذا نصت المادة (86) وقف على أنه( ليس لمستأجر عين الوقف أو أملاكه حق اليد الا في العناء الظاهر كالغرس والبناء والاصلاح اذا كان ذلك بأمر المتولي على أن يقرره الحاكم بإحالة من الجهة المختصة ). وقد حدد قانون الوقف الشرعي ضوابط اصلاح أموال الوقف، وفي هذا المعنى نصت(55 ) على أن( اصلاح عين الوقف مقدم على الصرف في مصالحه ، والصرف في مصالح الوقف مقدم على اصلاح عين الموقوف عليه واصلاح عين الموقوف عليه مقدم على الصرف في مصالحه) وكذا نصت المادة (56) على أنه( لا يجوز التصرف في الوقف إلاَّ بإذن الجهة المختصة وفي الأحوال المبينة في هذا القانون )، وكذا .نصت المادة (57) على ان( التصرف بالوقف منوط بتحقيق المصلحة وكل تصرف انطوى على غبن فاحش على الوقف فهو باطل ، وكذا نصت المادة (58) على أنه( اذا لم تكن غلة الوقف كافية لاصلاح ما تلف من الوقف فيجوز بيع بعضه لاصلاح البعض الآخر منه اذا لم يكن هناك فائض من غلات أوقاف أخرى)كما نصت المادة (59) على أنه لا يجوز بيع بعض الوقف لاصلاح عين الموقوف عليه الا اذا كان الواقف لهما واحداً ) .
الوجه الخامس: إحياء الأرض المملوكة ملكية خاصة:
قضى الحكم محل تعليقنا بعدم جواز إحياء الأراضي المملوكة ملكية خاصة الثابتة ملكيتها بموجب مستندات شرعية وقانونية تتضمن أن الأرض الموات مملوكة ملكية خاصة للأفراد، فهناك أراضي صالبة مملوكة للأفراد كما أن هناك مراهق خاصة تابعة للأملاك الخاصة بالأفراد، فهذه الأراضي مملوكة للأفراد بصفة أصلية أو تبعية باعتبارها مراهق خاصة بأهل المال، وبناءً على ذلك فإن هذه الأراضي مملوكة ملكية خاصة فلا يجوز لغير ملاكها الإحياء فيها أو استصلاحها إلا بإذن ثابت من مالكها بوسائل الإثبات المقررة قانوناً، وتطبيقاً لذلك لا يجوز لمستأجر الأرض الخاصة الإحياء في الرهق التابع للأرض إلا بإذن المالك، وكذا لا يجوز لغير المستأجر الإحياء في الرهق أو الأراضي الصالبة المملوكة للأفراد حسبما تحكيه مستندات ملكية ملاكها.
فالاحياء في الأراضي الموات المملوكة للأفراد محرم، لانه اعتداء على على ملك الغير،
فقد روت عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أرَضِينَ». متفق عليه.، وَروى عَبدالله بنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ أخَذَ مِنَ الأَرْضِ شَيْئاً بِغَيْرِ حَقِّهِ، خُسِفَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أرَضِينَ». أخرجه البخاري.
أجمع العلماء على أن الأرض التى لها شخص يملكها فأن هذة الأرض لا يجوز إحياؤها إلا لصاحبها الذي يملكها، (فتح القدير10/185)، وهذا ماقضى به الحكم محل تعليقنا، والله اعلم.