وجوب تسبيب تعديل الحكم
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
لا ريب ان تعديل محكمة الاستئناف لفقرة أو فقرات من منطوق الحكم الابتدائي سواء بإلغاء فقرة أو إضافة فقرة أو زيادة المحكوم به أو إنقاصه ، لاريب ان ذلك يعد قضاءً جديدا من محكمة الاستئناف، ولذلك يجب على محكمة الاستئناف ان تضع في حكمها اسباباً لتبرير قضائها بتعديل منطوق الحكم الابتدائي ، بل أن فريقاً كبيرا من شراح القانون الجنائي يذهبون إلى أن تعديل محكمة الاستئناف لفقرة أو فقرات من منطوق الحكم الابتدائي يستوجب تسبيبه من جانبين ، الأول: تسبيب العدول عما ورد في الفقرة أو الفقرات الواردة في الحكم الابتدائي، فهذا العدول وحده يحتاج إلى تسبيب تبرر فيه الشعبة الاستئنافية أسباب عدولها عما ورد في الفقرات التي عدلتها من الحكم الابتدائي، والجانب الثاني: أنه بعد أن تقضي الشعبة بتعديل أو إلغاء فقرة أو فقرات من منطوق الحكم الابتدائي فإنها تضع فقرة أو فقرات أو عبارات بديلة للفقرات الملغاة أو المعدلة في الحكم الابتدائي، وهذا أيضا يستوجب عليها ان تبين في أسباب الحكم الاستئنافي الأسباب التي جعلتها تقضي بالفقرات البديلة للفقرات الملغاة، وإذا كان الحكم يتضمن إدانة المتهم فلا يكفي ذلك التسبيب بل يجب على الحكم الاستئنافي ان يذكر في سياق أسبابه الأدلة التي جعلته يقضي بتعديل فقرات من الحكم الابتدائي وقضاء الحكم الاستئنافي بخلاف ماورد في الحكم الابتدائي اذا كان قد تضمن إدانة المحكوم عليه ، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 9-2-2013م في الطعن رقم (48632)، الذي ورد ضمن أسبابه: ((فمحكمة الاستئناف ملزمة قانوناً بأن تورد في حكمها المطعون فيه الأسباب التي اعتمدت عليها في قضائها بتعديل ما قضى به الحكم الابتدائي المستأنف فيه والأدلة التي بنت عليها ذلك التعديل، فإن خلا الحكم الاستئنافي من ذلك كان معيباً متعيناً نقضه))، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الأتية:
الوجه الأول: ماهية تعديل الحكم:
المقصود بتعديل الحكم: هو قضاء محكمة الاستئناف أو محكمة الطعن بزيادة أو إنقاص العقوبة أو التعويض المحكوم به في منطوق الحكم الابتدائي، أو قضاء الحكم الاستئنافي بإلغاء فقرة أو فقرات من منطوق الحكم الابتدائي من غير ان يقضي بفقرات بديلة عن الفقرة أو الفقرات الملغاة وكذا يعد تعديلا قضاء الشعبة الاستئنافية بإلغاء فقرة أو فقرات من الحكم الابتدائي وفي الوقت ذاته قضاء الشعبة بفقرات بديلة للفقرات الملغاة من منطوق الحكم الابتدائي، ويندرج ضمن مفهوم التعديل قضاء الشعبة بفقرة جديدة لم يرد ذكرها في منطوق الحكم الابتدائي ، أو قضاء الشعبة الاستئنافية بتعديل فقرة أو فقرات من الحكم الاستئنافي من غير أن تقضي بإلغائها، أو قضاء الشعبة بزيادة أو إنقاص مدة الحبس المقضي بها في الحكم الابتدائي، أو زيادة أو إنقاص مبلغ الغرامة المحكوم بها في منطوق الحكم الابتدائي، (الطعن بطريق الاستئناف في الحكم الجنائي، رضا شلالي وسلمى لطرش، ص22).
الوجه الثاني: تعديل الحكم قضاء يجب تسبيبه:
تعديل الحكم بمفهومه السابق بيانه في الوجه الأول يعد قضاءً صادراً من محكمة الاستئناف أو محكمة الطعن، فالتعديل في قضاء الحكم الابتدائي يعد قضاءً، والقاضي ملزم بتسبيب قضائه وفقاً لما ورد في المادة (372) إجراءات التي نصت على أنه (يجب ان يشتمل الحكم على الأسباب التي بني عليها ، وكل حكم بالإدانة يجب ان يشتمل على الأدلة التي تثبت صحة الواقعة الجزائية ونسبتها للمتهم ، ويتعين ان يتضمن الحكم بتوقيع العقوبة نص التجريم والأسباب التي قدرت العقوبة على أساسها، ويترتب البطلان على مخالفة ذلك)، فهذه المادة أوجبت على القاضي مطلقاً ان يسبب حكمه مطلقاً سواء أكان القاضي الابتدائي أو القاضي الاستئنافي أو في المحكمة العليا وسواء أكان الحكم الابتدائي أم الحكم الاستئنافي أو حكم المحكمة العليا، فالقاضي في كل الأحوال ملزم بتسبيب الحكم سواء أكان بإنشاء قضاء جديد أو تعديله، لأن تسبيب الحكم له أهميته الخاصة في المسائل الجنائية باعتبار التسبيب من أهم ضمانات المحاكمة الجنائية العادلة، إضافة الى مظاهر الأهمية الأخرى للتسبيب كالنأي بالقاضي عن الهوى والرأي الشخصي واقتناع الخصوم وتمكين محكمة الطعن من الرقابة على الأحكام المطعون فيها، (ضوابط تسبيب الأحكام الجنائية، استاذنا المرحوم الأستاذ الدكتور رؤوف عبيد، ص321).
الوجه الثالث: وجوب اشتمال تسبيب أحكام الإدانة على الأدلة التي تثبت صحة الواقعة المسندة للمحكوم عليه ونصوص التجريم:
صرحت المادة (372) إجراءات على أنه يجب ان يشتمل تسبيب أحكام الإدانة على الأدلة التي تثبت صحة الواقعة المسندة للمحكوم عليه النصوص القانونية التي أستند إليها الحكم في التجريم والعقاب وكذا الأسباب التي اعتمد عليها في تقدير العقوبة ، فقد نصت المادة (372) إجراءات على أنه (يجب ان يشتمل الحكم على الأسباب التي بني عليها ، وكل حكم بالإدانة يجب ان يشتمل على الأدلة التي تثبت صحة الواقعة الجزائية ونسبتها للمتهم ، ويتعين ان يتضمن الحكم بتوقيع العقوبة نص التجريم والأسباب التي قدرت العقوبة على أساسها، ويترتب البطلان على مخالفة ذلك)، فهذا النص عام يشمل إنشاء قضاءً جديد أو تعديله حسبما قضى الحكم محل تعليقنا.
الوجه الرابع : أهمية تسبيب الأحكام الجزائية :
في بداية التعليق ذكرنا ان لتسبيب الأحكام الجزائية أهمية خاصة، وذلك يستدعي بيان مظاهر أهمية هذا التسبيب بالنسبة للقاضي والخصوم ومحكمة الطعن وكذا الرأي العام، فإذا كان التسبيب مجرد ضمان للتحقق من قيام القضاة بواجباتهم من الناحية التنظيمية، فإنه يدخل في إطار مبدأ الملاءمة، مما يعد من صميم السلطة التشريعية، وواقع الأمر أن جميع ضمانات المحاكمة المنصفة، لا دليل على احترامها إلا أسباب الحكم التي تكشف عن مدى التزام المحكمة بمراعاة هذه الضمانات، فاسباب الحكم هي المرآة الناصعة الجدلية التي تبين مدى إتباع القاضي القواعد والإجراءات التي نص عليها القانون، ومدى احترام القاضي الضمانات التي أوجبها القانون ، ومدى حُسن تطبيق المحكمة للقانون، فمن واجب القاضي أن يحدد القاعدة القانونية الواجبة التطبيق دون أن يشغل نفسه بالبحث في مدى عدالتها داخل النظام القانوني، فعلى القاضي أن يطبق هذه القاعدة القانونية على الوقائع التي تثبت لديه من خلال محاكمة منصفة، ومن أهم الشروط الأساسية لتحقيق الجودة في الأحكام القضائية وضمان إجراء محاكمة عادلة بما بترتب عليها من تحقيق الأمن القضائي، هو تسبيب وتعليل الأحكام والقرارات القضائية، وذلك بتضمينها الحجج الواقعية والمبررات القانونية التي استند عليها القاضي أو هيئة الحكم في إصدار حكم معين بخصوص قضية معينة ، ويحتاج تحرير الأحكام الجنائية إلى عناية خاصة، إذ يجب أن يتضمن الحكم بياناً كافياً عن الواقعة المسندة للمتهم – فضلاً عن بيانات أخرى معتبرة جوهرية فيه – وإلاَّ كان معيباً مستوجباً نقضه، فالأحكام في المواد الجنائية يجب أن تبنى على الجزم واليقين لا على الحدس والتخمين، فلا يصح سنداً للإدانة أن يذكر القاضي في حكمه أنه يرجح ارتكاب المتهم للجريمة، بل يتعيَّن عليه أن يكشف عن يقينه بأن المتهم ارتكب الجريمة، ثم يدلّل على أسباب هذا اليقين، ذلك أن الشك يفسر لمصلحة المتهم ويتعين معه القضاء بالبراءة، فالأحكام الجنائية التي ينعدم فيها التسبيب الجيد تُشكِك في مصداقية القضاء وتبعث عدم الطمأنينة في نفس المتهم، بل ان عدم التسبيب أو ضعفه يشكك افراد المجتمع في القضاء والعدالة في الدولة.
وتسبيب الحكم يستلزم تضمين الحكم بيانات معينة، بإعتبار ذلك ضمانة لا غنى عنها لحسن سير العدالة، فذلك يعطي لصاحب الشأن رقابة مباشرة على أن المحكمة ألمت بوجهة نظره في الدعوى الإلمام الكافي الذي مكَّنها من أن تفصل فيها، سواء بما يتفق مع وجهة النظر هذه أم بما يتعارض معها، وهو مدعاة لتريث القاضي في تمحيص موضوع الدعوى وإعمال حكم القانون فيها في تبصر وحكمة، وبيان أسباب الحكم من حيث الوجوب من القواعد الأساسية في سائر التشريعات، ويرمى وجوب تسبيب الحكم إلى تحقيق عدة أهداف منها، أنه يدفع بالقاضي أو القضاة للتروي في الحكم قبل اصداره، إذ تقدم المحكمة برهاناً على عدالة حكمها للخصوم الشيء الذي يدفع بهم لاحترامه، كما يمكِّن الجهات الأعلى من مراقبة القضاء الأدنى والواقع أن أي تطبيق للقانون يفترض تفكيراً منطقياً أدى إليه وبالتالي فإن كل حكم يفترض أسباباً له، هذا ولا يشترط في الأحكام الجزئية التي لا تنقضي بها الدعوى تسبيبها، لأنها تدخل عادة في سلطة المحكمة التقديرية، كما هو الحال في رفض تأجيل الدعوى أو الإفراج عن المشتبه به بالضمان العادي في دعوى يتطلب فيها إيداعاً مالياً.
ولتسبيب الأحكام وتدعيمها بالأسانيد والحجج القانونية اللازمة أهمية كبيرة بالنسبة للخصوم أطراف الدعوى وأصحاب المصلحة فيها، وبالنسبة للقاضي، والرأي العام، فيما يلي نوضح أهمية تسبيب الأحكام لكل منهما:
اولا: أهمية التسبيب بالنسبة للخصوم:
التسبيب يوفر القناعة لدى أصحاب العلاقة في الحكم الصادر بحقهم إذ سيتمكن الطرف الذي خسر دعواه من الاطلاع على الأسباب التي حملت المحكمة على عدم الأخذ بدفعه ودعواه وبيان الحجج القانونية فبإثبات دعوى الطرف الآخر، توفر الاطمئنان لدى طرفي النزاع من أن المحكمة أخذت دفوعهم على محمل الجد وأعطتها حقها في التدقيق والتمحيص واحاطت علما بأقوالهم ودفوعهم ، كما ان التسبيب الجيد يبعد عن المحكمة كل الشبهات التي قد تحوم حولها من الطرف الذي خسر دعواه، فإذا كان الحكم مسبباً ومبنيا على حجج قانونية موافقة للقانون، فمن الطبيعي أن يكون الحكم مُقنعاً للخصوم وأطراف الدعوى الجنائية، أما إذا كان التسبيب مخالفاً للنص القانوني إما تأويلاً أو خطأ قضائي وغيره، فانه يخضع لرقابة المحاكم الأعلى لرده إلى الوضع القانوني الصحيح .
فمن حق المتهم عندما يصدر عليه حكم ما أن يعرف حيثيات هذا الحكم وأساسه وتعليلاته وأن يعرف الأسباب التي استندت إليها المحكمة في حكمها وهذا ما يطلق عليه ” تسبيب الأحكام” حيث أن المحكمة يجب أن تبين الأسباب والأدلة التي اعتمدتها في الحكم وذلك لتبرير منطوق الحكم ،ويؤكد التسبيب على مبدأ حياد القاضي والتأكد من الوصول إلى التكييف القانوني السليم وخضوع الأحكام لرقابة عليا. ولقد أظهرت التجربة القضائية والممارسة العملية لأداء العمل القضائي الأهمية التي يحتلها مبدأ تسبيب الأحكام، فعدالة الأحكام تفرض هذا التسبيب، وبانعدامه تزول شرعيتها، لذلك فإن التسبيب هو الوسيلة المؤثرة في إقناع الخصوم والدليل الذي يبرهن على سلامة الأحكام وموافقتها للقانون والعدالة.
ثانيا: أهمية التسبيب للرأي العام:
من خلال بيان أسباب الأحكام يولد لدى الرأي العام أو الشعب الاقتناع بالأحكام عدالتها على إعتبار ان الأحكام الجزائية تصدر من القضاء باسم الشعب ، وبناء على ذلك فمن حق الرأي أو الشعب ممارسة رقابته على تلك الأحكام والتحقق من صحتها وعدالتها مما يؤدي إلى قناعته وحتماً تزيد ثقته في القضاء، ويعدُ إطلاع الرأي العام على الأسباب وسيلة فعالة لتحقيق مصداقية الحكم الجزائي الصادر بالإدانة وتحقيق أثره في الردع العام، فهذا الردع لا يتحقق إلاَّ باقتناع الناس جميعاً بعدالة هذا الحكم، ويتمكن الرأي العام من الاطلاع على الأحكام الجنائية من خلال ما ينشر في الصحف والمجلات وغيرها، لذلك فإن نشر الأحكام بمسبباتها وحججها يساهم في التوعية والتنوير بمخاطر ومألات ارتكاب الأفعال المجرمة والعقوبات التي تترتب عليها (ضوابط تسبيب الأحكام الجنائية، استاذنا المرحوم الأستاذ الدكتور رؤوف عبيد، ص291).
ثالثا: أهمية تسبيب الحكم بالنسبة للقاضي:
أن القاضي بتسبيب حكمه يحصنه ويحميه، فهو إن رجح دليلاً على آخر، أو اقتنع بطلب، أو أسقط دفعاً، وجب عليه في جميع الحالات ذكر الأسباب التي دفعته لذلك، أي أن القاضي يُحلِّل كيف وصل إلى هذه النتيجة ولا يكون ذلك طبعاً إلاَّ بعد مناقشة كافة المسائل التي أثارها الخصوم أن تأييداً أو معارضة، وأن يؤسس حكمه على نصوص من القانون، فالقاضي الذي يلتزم بتسبيب الأحكام ينأى بنفسه عن مخاطر مراجعة أحكامه من المحاكم الأعلى درجة في التقاضي، أو إلغاء أحكامه وقراراته وإعادة أوراق الدعوى الجنائية إليه لنظرها من جديد، إضافة إلى أن الواقع في اليمن يظهر ان بعض حوادث الإعتداء على بعض القضاة كان دافعها سوء تسبيب بعض الأحكام .
رابعا: اهمية التسبيب بالنسبة لمحكمة الطعن:
محكمة الطعن وهيئة التفتيش القضائي عندما تنظر في القرارات والأحكام الصادرة من المحاكم الأدنى بالاستئناف أو الطعن أو المراجعة أو الفحص يجب أن يكون الحكم أو القرار يتضمن الوقائع والبيانات والمناقشات والحجج القانونية والواقعية وأسباب إصدار الحكم حتى تستطيع بسط رقابتها وإلاَّ فأنها لا تستطيع القيام بذلك، فضلا عن محكمة الطعن لاتستطيع البت في الطعن على وجه يضمن سلامة ما تتوصل إليه من الناحية القانونية، فلا شك ان الزام القاضي بتسبيب حكمه يسهل على الجهة القضائية التي تتولى فحص الحكم أو القرار من تقرير صحته وسلامته وقوته، فبمجرد اطلاعها على جملة الأسباب الواردة في الحكم أو القرار تتمكن جهة الرقابة من فحصها وتقديره. تسبيب الحكم الجنائي وأثره على المحاكمة العادلة، مصعب عوض إدريس،ص 8).
الوجه الخامس: ضوابط تسبيب الحكم الجزائي:
كي يتمكن الخصوم والقضاء الأعلى والرأي العام من مراقبة القاضي للتأكد من أنه لم يفصل في النزاع بناء على هوى أو ميل أو جهل، فلابد من إلزام القاضي بأن يصدر حكمه مسبباً، أي يبيّن الأسباب التي حملته على أن يصدر حكمه على الوجه الذي جاء عليه، بحيث يمكن القول أن القاضي قد قدم الأدلة المنطقية والكافية لإقناع كل من يطلع على حكمه بأنه قد جاء عادلاً وموافقاً للقانون. على أن حكم القاضي يجب أن يكون نتاج منطقي قضائي ينعكس في أسباب الحكم، التي يجب أن تكشف سلامة تحديد القاضي لموضوع الدعوى وتكبيف النزاع، ومن خلال هذا التسبيب تتحق حماية أطراف الدعوى من تحكم القاضي لأنه مكلف أن يكشف في أسباب حكمه علة قضائه والإجراءات التي انتهت به إلى هذا القضاء، كما يجب أن تكون الأسباب كافية وإلاَّ كان الحكم معيباً، ولتحقيق كفاية الأسباب يتعين أن تبين المحكمة الوقائع التي استندت إليها في حكمها والأدلة التي اقتنعت بثبوتها، فلا يكفي أن تقرر ثبوت وجود الواقعة أو عدم وجودها دون أن تبين كيف ثبت لها ذلك، ولها في سبيل ذلك أن تشير إلى مستندات مقدمة إليها من الخصوم مبينة في مذكراتهم دون حاجة لذكر نصوصها في الحكم، ومن المقرر وجوب ألاَّ يقع في تسبيب الحكم – بوجه عام – تناقض أو تضارب بين الأسباب والمنطوق، أو بين بعض الأسباب وبعضها الآخر، وإلا يصبح الحكم كما لو كان خالياً من الأسباب، فعلى سبيل المثال لا يصح أن يستفاد من الحكم عدم ثبوت الواقعة، ثم ينتهي إلى الإدانة أو العكس، كما لا يصح أن تذكر المحكمة واقعة الدعوى على صورتين متعارضتين أو تستند إلى أدلة متناقضة بغير تفسير لهذا التناقض، والمقصود بقاعدة تسبيب الأحكام أن المحكمة في حكمها يجب أن تبين كافة وقائع الدعوى والأسانيد التي استندت عليها في الوصول إلى قناعتها، وأن إغفال المحكمة لذكر أي واقعة جوهرية أو الرد على دفع من الدفوع المثارة من قبل الخصوم يعني وقوع المحكمة في خطأ التعليل والتسبيب، حيث جاء في قرار محكمة النقض الفلسطينية رقم 54/2009م الصادر بتاريخ 14/09/2009م ما يلي: (وحيث أن الطاعن أثار هذه الدفوع أمام المحكمة الاستئنافية إلاَّ أن ما أورده الحكم المطعون فيه لا يتبيَّن منه أنه تعرض لهذه الدفوع أو ناقشها، بل التفت عن التحدث عنها مما يشوب ذلك الحكم بالقصور بالتعليل والتسبيب). وواضح مما تقدم أن جميع الأسانيد التي قيل بها تبرير تسبيب الحكم ترتكز على أهمية هذا التسبيب للتحقق من توافر بعض الضمانات الدستورية سواء تعلقت بالمحاكمة المنصفة أو بحياد القضاء.
وتسبيب الأحكام بالعقوبة عموماً واجب لأنه يجعل الجمهور يثق في عدالة قضائه، كما أنه يتيح الفرصة لسلطات التأييد والاستئناف والنقض والفحص وإعادة النظر لرقابة سلامة تطبيق القانون خصوصاً إذا كانت العقوبة غير عادية من ناحية شدتها أو خفتها، فجهة الاستئناف والنقض وإعادة النظر يجب أن لا توكل إلى الحدس والتخمين في معرفة الأسباب التي من أجلها حكم القاضي أو حكمت المحكمة . لذلك يجب على القاضي ان بين الأسباب التي دفعته لإصدار الحكم حتى تتمكن السلطات الرقابية الأعلى من بسط سلطتها ومعرفة الأسباب التي بنى عليها .
والقاضي ملزم بتسبيب أحكامه في حدود مبدأ الشرعية وإلاَّ خالف مبدأ العدالة الجنائية، وصار حكمه في حكم البطلان، ويتعين على القاضي وهو بصدد إصدار حكمه في الدعوى المعروضة أمامه أن يراعي صيرورة الحكم الصادر قابلاً للتنفيذ، من خلال مراعاة استيفائه للبيانات الأساسية التي حددها المشرع من جهة وصدوره بشكل واضح بعيد من الغموض من جهة أخرى. حيث أن الأحكام غير المسببة أو التي تم إغفال الشروط الشكلية والموضوعية فيها، غالباً تكون غير قابلة للتنفيذ بسبب التعمية والغموض الذي يكتنفها، وهذا يتعارض مع مبدأ ضرورة تسبيب الأحكام الجنائية وإصدارها وفق الأوضاع القانونية التي قررها القانون ، ويتناقض مع معايير وفكرة المحاكمة العادلة وحقوق الإنسان.
ومحكمة الموضوع ملزمة بالرد على الدفوع الجوهرية التي أثارها أحد أطراف الدعوى مع إيراد ذلك في التسبيب، يعني تبرير ما تم رفضه والإشارة إلى الدفوع التي قبلتها المحكمة كذلك في أسباب الحكم، أما تلك الدفوع التي لا أثر لها لا على موضوع الدعوى ولا على القانون والأطراف فلا يُعاب على المحكمة إن لم ترد عليها أو تشر إلى ذلك في التسبيب. ضوابط تسبيب الأحكام الجنائية، استاذنا المرحوم الأستاذ الدكتور رؤوف عبيد، ص287).
الوجه السادس: النصوص القانونية في بعض بعض الدول العربية الملزمة للقاضي تسبيب الحكم الجزائي:
نصت غالبية القوانين في الدول العربية والأنظمة الأساسية للمحاكم الدولية وأوجبت على القضاة أن يصدروا أحكامهم مُسببة بالحجج والبراهين التي استندوا عليها في إصدار الأحكام، ومنعتهم من إصدار أية أحكام قضائية غير مبنية على أسباب قانونية ونظامية، وبيان ذلك كما يأتي :
- قانون الإجراءات الجزائية اليمني، فقد نصت المادة( 372) على أنه (يجب ان يشتمل الحكم على الأسباب التي بني عليها ، وكل حكم بالإدانة يجب ان يشتمل على الأدلة التي تثبت صحة الواقعة الجزائية ونسبتها للمتهم ، ويتعين ان يتضمن الحكم بتوقيع العقوبة نص التجريم والأسباب التي قدرت العقوبة على أساسها، ويترتب البطلان على مخالفة ذلك).
– قانون الإجراءات الجنائية المصري: نص في المادة (310) على أنه : ( يجب أن يشتمل الحكم على الأسباب التي بني عليها وكل حكم بالإدانة يجب أن يشتمل على بيان الواقعة المستوجبة للعقوبة والظروف التي وقعت فيها، وأن يشير إلى نص القانون الذي حكم بموجبه).
– قانون أصول المحاكمات الجزائية الأردني: نص في المادة (182) على أنه : ( يجب أن يشتمل الحكم النهائي على العلل والأسباب الموجبة له وأن تذكر فيه المادة القانونية المنطبق عليها الفعل وهل هو قابل للاستئناف أم لا).
– قانون الإجراءات الجزائية الجزائري :نص في المادة (379) على أن :(كل حكم يجب أن ينص على هوية الأطراف وحضورهم أو غيابهم في يوم النطق بالحكم، ويجب أن يشمل على أسباب ومنطوق وتكون الأسباب أساس الحكم)، علماً بأن المشرع الجزائري صنَّف تسبيب الأحكام القضائية من ضمن القواعد الدستورية في الدولة وأوجب حمايتها، حيث نص دستور جمهورية الجزائر على وجوب أن: (تعلل الاحكام القضائية وينطق بها في جلسات علنية).
– قانون الإجراءات الجنائية السوداني لسنة 1991م: نص في المادة (167/1) على ضرورة أن: (يشتمل الحكم على التهمة وقرار الفصل فيها وحيثياته والأوامر النهائية ويؤرخ الحكم ويوقع بإمضاء القاضي عند النطق به)، وأيضاً نص في المادة (168) قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991م على انه: (إذا أدين المتهم في جريمة معاقب عليها بالإعدام أو بالقصاص أو بالجلد وقضت المحكمة على المتهم بأي عقوبة بديلة فعليها أن تذكر في الحكم الأسباب التي من أجلها اصدرت تلك العقوبة).
– نظام الإجراءات الجزائية السعودي: نص في المادة (181/2) على أن: (تصدر المحكمة بعد الحكم صكاً مشتملاً على اسم المحكمة التي أصدرت الحكم، وتاريخ إصداره، وأسماء القضاة، وأسماء الخصوم، ووكلائهم، وأسماء الشهود، والجريمة موضوع الدعوى، وملخص لما قدمه الخصوم من طلبات، أو دفاع، وما اُستُنِدَ إليه من الأدلة والحجج، وخلاصة الدعوى، وعدد ضبط الدعوى، وتاريخ ضبطها، ثم أسباب الحكم ونصه ومستنده الشرعي، ثم يوقع عليه ويختمه القاضي أو القضاة الذين اشتركوا في الحكم)، ونصت المادة (129/1) من اللائحة التنفيذية لنظام الإجراءات الجزائية السعودي: (إذا قررت المحكمة إرجاء الفصل في طلبات المدعي بالحق الخاص أو المتهم –استناداً إلى المادة ( الثمانين بعد المائة) من النظام – فيضمن ذلك مع أسبابه في الحكم الصادر في الدعوى الجزائية).
– قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي : نص في المادة (224/أ) على أن : (يشتمل الحكم أو القرار على اسم الحاكم أو الحكام الذين أصدروه واسم المتهم وباقي الخصوم وممثل الادعاء العام ووصف الجريمة المسندة إلى المتهم ومادتها القانونية والأسباب التي استندت إليها المحكمة في إصدار حكمها أو قرارها وأسباب تخفيف العقوبة أو تشديدها وأن يشتمل الحكم بالعقوبة على العقوبات الأصلية والفرعية التي فرضتها المحكمة ومقدار التعويض الذي حكمت به على المتهم والمسؤول مدنياً عنه إن وجد أو قرارها برد الطلب فيه كما يبين في الحكم الأموال والأشياء التي قررت ردها أو مصادرتها أو إتلافها ويوقع الحاكم أو هيئة المحكمة على كل حكم أو قرار مع تدوين تاريخ صدوره ويختم بختم المحكمة).
– قانون الإجراءات الجزائية الفلسطيني: نص في المادة (276) على أن : ( يشتمل الحكم على ملخص الوقائع الواردة في قرار الاتهام والمحاكمة وعلى ملخص طلبات النيابة العامة والمدعي بالحق المدني ودفاع المتهم وعلى الأسباب الموجبة للبراءة أو الإدانة وعلى المادة القانونية المنطبقة على الفعل في حالة الإدانة، وعلى تحديد العقوبة ومقدار التعويضات المدنية)
– النظام الأساسي للمحكمة الدولية لرواندا: نص في المادة (22/2) على أنه: (يتقرر الحكم بأغلبية قضاة دائرة المحاكمة وتصدره الدائرة علناً ويكون الحكم مشفوعاً برأي مكتوب مُعلَّل يجوز تذييله بآراء مستقلة عنه أو معارضة له).
– النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية :نص في المادة (74/5) على أن: (يصدر القرار كتابة ويتضمن بيانا ًكاملاً ومعللاً بالحيثيات التي تقررها الدائرة الابتدائية).
الوجه السابع: تسبيب الأحكام الجنائية من أهم ضمانات المحاكمة العادلة:
إن الحق في محاكمة عادلة هو من الحقوق الأساسية للفرد، وقد وضع المجتمع الدولي مجموعة متنوعة من الأسس والمبادئ لضمان هذا الحق وهي تهدف إلى حماية حقوق الأشخاص منذ لحظة القبض عليهم وأثناء تقديمهم للمحاكمة وحتى محاكمتهم، والتي يجب احترامها، لأن عدم احترامها يؤدي بنا إلى انتهاك جُل هذه الحقوق، وخاصة حق الفرد في محاكمة عادلة. وعلى الرغم من أن معاهدات حقوق الإنسان الأربع لا تشير صراحة إلى الحق في حكم مسبب، إلاَّ أن هذا الحق مُتأصل في الأحكام المتعلقة ” بالمحاكمة العادلة”، حيث أن المادة (22/2) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا والمادة (23/2) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة تنصان كلتاهما على أن الأحكام الصادرة عن هاتين المحكمتين ” يجب أن تكون مرفوقة برأي خطي مسبب يمكن أن يذيل بآراء منفصلة أو مخالفة ” . وتفيد المادة (74/5) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أن القرارات الصادرة عن غرفة المحاكمة ” يجب أن تكون خطية وأن تتضمن بياناً كاملاً ومسبباً بالنتيجة التي توصلت إليها غرفة المحكمة بشأن الأدلة والاستنتاجات”. وايضاً المادة (15) الفقرة (3) من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان نصت على انه: (على كل طرف سام متعاقد يستخدم حق المخالفة سالف الذكر أن يخطر السكرتير العام لمجلس أوروبا بمعلومات كاملة عن التدابير التي اتخذها والأسباب التي دعت إليها. كما يخطر السكرتير العام لمجلس أوروبا أيضا عند وقف هذه التدابير واستئناف التنفيذ الكامل لأحكام المعاهدة).
وبما أنه لا يتصور أن يكون الحكم صادراً وفق الشروط الإجرائية والموضوعية التي تحكمه مالم يكون مسبباً، فإن الحكم الجنائي يكون ضامناً من ضمانات العدالة الجنائية إذا صدر مسبباً وفق الشروط الإجرائية والموضوعية التي أقرها القانون والشرع، فإن حق تسبيب الأحكام الجنائية يستند إلى عدة معايير تهدف جميعها إلى حماية المتهم، ولابد لهذه المعايير من أن تسترشد بإجراءات المحاكمة العادلة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية والمنصوص عليها في المواثيق والعهود الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، والتي من ضمنها مبدأ اختصاص المحكمة واستقلالها وحيدتها ومبدأ استقلال القاضي وحياده، وحق المتهم في المساواة أمام القضاء، والحق في أن تنظر قضيته أمام جهة قضائية مستقلة ومحايدة دون ظلم أو جور أو حيف، وحق المتهم في محاكمة علنية، وأن تكون المحاكمة في غضون فترة زمنية معقولة، وحق المتهم في الدفاع عن نفسه بنفسه أو بواسطة محام أو مترافع، وأن تتكفل الدولة بتقديم المساعدة القضائية التي يحتاجها، وحق المتهم في عدم محاكمته عن ذات الجرم مرتين، والحق في استدعاء الشهود ومناقشتهم وحق المتهم في الحصول على كفايته من الوقت والتسهيلات لإعداد دفاعه، وحقه في عدم التعرض لتطبيق القانون بأثر رجعي، والحق في استئناف قرار الإدانة والعقوبة، وغيرها من المعايير اللازمة التي تكفل أن تسير المحاكمة على نحو عادل ونزيه.
لذلك فان تسبيب الأحكام الجنائية يشكل ضمانة حقيقية للمتهم وللعدالة الجنائية والشرعية الإجرائية ،ويعتبر أحد أهم ضمانات المحاكمة العادلة والمنصفة، وإن التعليل والتسبيب أداة فعالة في إبراز عدالة الأحكام وصحتها الأمر الذي يجعلها محل ثقة الأفراد وعلى الأخص الذين فصلت في منازعاتهم سواء كانت مدنية أو جزائية وهو الأداة التي تفرض على القاضي الحرص والفطنة، ومن هنا كان التعليل مسألة جوهرية يقرها القانون لضمان حياده وفصله في الدعوى وفقاً للشرعية الإجرائية، (تسبيب الحكم الجنائي وأثره على المحاكمة العادلة، مصعب عوض إدريس، 12)، والله اعلم.