حجية القرار بأن لا وجه لإقامة الدعوى أمام القضاء المدني

 حجية القرار بأن لا وجه لإقامة الدعوى أمام القضاء المدني

أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

قضى الحكم محل تعليقنا بأن قرار النيابة العامة بأن لا وجه لإقامة الدعوى لا يحوز أية حجية أمام القضاء المدني، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 28-4-2013م في الطعن رقم (46463)، الذي ورد ضمن أسبابه: ((فقد ظهر أن القرار بأن لا وجه لإقامة الدعوى المؤيد بالحكم الاستئنافي المطعون فيه قد اثبت أن (العبر) محل الشكوى ليس من الأملاك الخاصة بالطاعن وإنما له ولغيره من المنتفعين بمياه الأمطار، وإن الطاعن هو من قام بإحداث(مرد) في(العبر) فأزاله المشكو بهم المطعون ضدهم حالياً، فما يثيره الطاعن ويجادل به في عريضة الطعن  بأن العبر من ضمن أو من توابع أملاكه وان القرار قد أهدر حقه في العبر، فالدائرة تجد أن القرار بأن لا وجه لإقامة الدعوى المؤيد بالحكم المطعون فيه قد افسح للطاعن المجال في رفع دعواه مدنياً أمام المحكمة الابتدائية المختصة ان رغب في ذلك، حيث لا يحوز القرار بان لا وجه لإقامة الدعوى أية حجية أمام القضاء المدني))، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الأتية: 

الوجه الأول: ماهية القرار بأن لا وجه لإقامة الدعوى:

 نصت المادة (218) إجراءات على أنه (إذا تبين للنيابة العامة بعد التحقيق أن الواقعة لا يعاقب عليها القانون أو لا صحة لها تصدر قرارا مسببا بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجزائية نهائياً، و إذا تبين أن مرتكب الجريمة غير معروف أو أن الأدلة ضد المتهم غير كافية تصدر قراراً مسبباً بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجزائية مؤقتاً، و يفرج عن المتهم المحبوس إن لم يكن محبوساً لسبب آخر، و يعلن الخصوم بقرار النيابة العامة في الحالتين، وإذا كان أحدهم قد توفى يكون الإعلان لورثته جملة في محل إقامته)، وفي السياق ذاته نصت المادة (219) إجراءات على أن (الأمر الصادر بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجزائية يمنع من العودة إلى التحقيق إلا إذا ظهرت دلائل جديدة قبل انتهاء المدة المقررة لعدم سماع الدعوى، و يعد من الدلائل الجديدة شهادة الشهود و المحاضر و الأوراق  الأخرى التي لم تعرض على النيابة ويكون من شأنها تقوية الدلائل التي وجدت غير كافية أو زيادة الإيضاح المؤدي إلى ظهور الحقيقة)، وقد اختلف الفقه في تعريف القرار بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجزائية، فهناك من عرفه بأنه: (أمر قضائي من أوامر التصرف في التحقيق الابتدائي تصدره سلطة التحقيق الابتدائي لتصرف به النظر عن إقامة الدعوى أمام محكمة الموضوع لأحد الأسباب التي بينها القانون ويحوز حجية من نوع خاص)، وهناك من يذهب إلى تعريفه بأنه: (أمر قضائي تصدره سلطة التحقيق لتقرر عدم وجود مقتضى لإقامة الدعوى الجزائية لسبب من الأسباب التي بينها القانون)، في حين اتجه رأى ثالث إلى تعريفه بأنه: (صرف النظر مؤقتا عن تقديم الدعوى الجزائية للمحكمة لعدم وجود أساس كاف يبرر تقديمها إليها, فهذا القرار لا ينهى الدعوى ولا يترتب عليه انقضاؤها كالحكم الجنائي بل يوقف السير فيها مؤقتا إلى أن تسقط بمضي المدة أو تظهر أدلة جديدة تبرر العودة إلى التحقيق).( الأحكام والأوامر الجنائية، المستشار معوض عبد التواب، ص123). 

ويجب أن يكون القرار بألا وجه لإقامة الدعوى الجزائية ثابتا بالكتابة, فالكتابة تعد دليلا على حصول ووجود هذا القرار , ولكى يتم  التحقق من مدى موافقته للقانون من عدمه،  والأصل أن يكون القرار بألا وجه لإقامة الدعوى الجزائية  صريحا أي لاتتم استفادته من استنتاج أو تصرف، غير أنه استثناء من الأصل فأنه من الممكن أن يستفاد ضمنا من تصرف المحقق إذا كان يترتب على هذا التصرف حتما وبطريقة اللزوم العقلي صرف النظر عن السير في الدعوى،(الامر بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية، د. عادل عامر، ص6)، فالأصل أن يكون الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى صريحا، ولا يشترط أن يصدر بصيغة معينة، فهو يصدر بأي صيغة يراها المحقق ما دامت واضحة الدلالة في التعبير عن إرادته في صرف النظر عن السير في الدعوى الجزائية، وبناء على ذلك فإن هذا الأمر لا يستفاد من التأشير على تحقيق بإرفاقه لأوراق شكوى أخرى محفوظة ما دام لا يوجد ما يفيد حتما عدم السير في الدعوى (المرجع السابق). كما لا يغنى عن هذا الأمر أن يوجد ضمن أوراق الدعوى مذكرة محررة برأي وكيل النيابة المحقق يقترح فيها الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى اكتفاء بالجزاء الإداري، وكذلك مجرد تأشير وكيل النيابة في بادئ الأمر على محضر جمع استدلالات بقيده رقم عوارض لا يستفاد منه استنتاجا الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى، إذ لا يترتب على هذه التأشيرة حتما وبطريق اللزوم العقلي صرف النظر عن السير في الدعوى، ويجب أن يتضمن الأمر البيانات اللازمة كتاريخ صدوره والبيانات الأخرى.

أما عن القرار الضمني بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجزائية : فالأصل في الأمر بألا وجه أن يكون صريحا إلا أنه قد يستفاد ضمنا من تصرف المحقق في التحقيق على نحو يفترض ذلك بطريق اللزوم العقلي، ومثال ذلك عندما ينتهى المحقق بعد التحقيق في واقعة السرقة إلى اتهام المجنى عليه بالبلاغ الكاذب مما يفيد بالقطع أنه قرر أن لا وجه لإقامة في الدعوى، وكذا عندما تأمر النيابة في بادئ الأمر بقيد الواقعة ضد متهم معين ثم بعد استكمال التحقيق تقيدها على متهم آخر، فإن ذلك يفيد حتما وبطريق اللزوم العقلي على القرار بألا وجه لإقامة الدعوى الجزائية على المتهم الأول.

غير أنه إذا كان من الجائز أن يستفاد الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية من تصرف أو إجراء آخر يستدل عليه إلا أنه لا يصح أن يفترض أو يأخذ فيه بطريق الطعن، لذلك فقد قضت محكمة النقض بأنه (لما كان الثابت من المفردات المضمونة أن كل ما صدر عن النيابة العامة إنما هو اتهامها أربعة غير المطعون ضده بارتكاب الجريمة دون أن تذكر شيئا عنه سوى أنها كانت قد قررت طلبه ثم أنهت التحقيق دون سؤاله فإن ذلك لا ينطوي حتما وبطريق اللزوم العقلي على أمر ضمني بأنه لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية قبله تحول دون تحريكها بعد ذلك بالطريق المباشر)، (الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية، الدكتور عادل عامر). 

 الوجه الثاني: تسبيب القرار بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجزائية:

أوجب القانون  حسبما سبق بيانه تسبيب القرار بألا وجه لإقامة الدعوى الجزائية، ويعد تسبيب القرار بألا وجه لإقامة الدعوى يعد بمثابة ضمانة لحسن سير العدالة، فهو دليل على تريث المحقق في تمحيص وقائع الدعوى وإعمال حكم القانون فيها بتبصر ورؤية، ولما كان القانون قد أجاز الطعن في هذا القرار فإن التسبيب هو السبيل الوحيد لبسط محكمة الطعن رقابتها على سلامة القرار ومدى موافقته للقانون والواقع ومدى إحاطة مصدر القرار بالوقائع إحاطة سليمة فضلا عن مراقبة تطبيق القانون.

ومن مقتضيات تسبيب القرار بألا وجه لإقامة الدعوى أنه يتعين على النيابة العامة أن تكيف الوقائع المعروضة عليها التكييف القانوني السليم، وذلك بإتباع الوصف القانوني الوارد في قانون الجرائم والعقوبات، ويكفي أن يشتمل القرار على أسبابه وفي حدود ما ينبئ عن مضمونه باعتباره قرارا غير فاصل نهائيا في الدعوى الجزائية، بمعنى أنه لا يلزم أن يصدر القرار مشتملا على أسباب تفصيلية ودقيقة مثل أسباب الحكم الصادر عن المحكمة، وعلى ذلك فإنه يكفى أن يكون التسبيب بالقدر الذي يقتضيه المقام في الدعوى الجزائية وفي حدود وظيفة النيابة العامة باعتبارها جهة تحقيق لا جهة حكم، (ضوابط تسبيب الأحكام الجنائية، المستشار عمرو عيسى الفقي،ص 87).

 الوجه الثالث: إعلان القرار بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجزائية: 

إن الإعلان إجراء أساسي ينبغي إتباعه بشان كافة الأحكام والأوراق القضائية، ومن بينها القرار بألا وجه لإقامة الدعوى الجزائية،  ليكون أطراف الخصومة على دراية وعلم بمصير القضية التي تحقق فيها النيابة ، وحتى يتمكن اطراف القضية من مباشرة  حقهم في الطعن في القرار المقرر قانونا، وتبدو أهمية الإعلان بوصفه إجراء شكلي أنه ينبغي عليه تحديد بدء ميعاد الطعن في القرار، وقد أوجب القانون  إعلان الخصوم بالقرار بألا وجه لإقامة الدعوى الجزائية حسبما سبق بيانه، ( البراءة وعدم العقاب، د. عبد الحكم فودة، ص286).

الوجه الرابع: حجية القرار بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجزائية أمام القضاء المدني:

 في هذا الشأن نصت المادة (219) إجراءات على أن(الأمر الصادر بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجزائية يمنع من العودة إلى التحقيق إلا إذا ظهرت دلائل جديدة قبل انتهاء المدة المقررة لعدم سماع الدعوى و يعد من الدلائل الجديدة شهادة الشهود و المحاضر و الأوراق و الأخرى التي لم تعرض على النيابة ويكون من شأنها تقوية الدلائل التي وجدت غير كافية أو زيادة الإيضاح المؤدي إلى ظهور الحقيقة)  فمما لاجدال بشانه أن التحقيق الابتدائي اختصاص قضائي محض، وتبعا لذلك فإن النيابة العامة عندما يعهد إليها بهذا الاختصاص إنما تباشر التحقيق وفقا لقانون الإجراءات  فأعضاء النيابة العامة يستمدون اختصاصهم من قانون الإجراءات الجزائية ، فالنيابة العامة بمقتضى قانون  الإجراءات لها  سلطة مباشرة إجراءات التحقيق أو التصرف في التحقيق بالإحالة أو  القرار بألا وجه لإقامة الدعوى  الجزائية  الذي يصدر من المحقق في نهاية التحقيق الابتدائى، إذ تثبت لهذا القرار حجية خاصة ،  فلهذه الحجية خصائص معينة من حيث كونها حجية مؤقتة وليست نهائية وكذلك تكون نسبية، وبيان ذلك كما يأتي:

أولاً:  للقرار بألا وجه حجية مؤقتة:

إن القرار بألا وجه لإقامة الدعوى الصادر في نهاية التحقيق الابتدائي من شأنه أن يضع المتهم خارج حالة الملاحقة القضائية ولا يمكن الرجوع فيها إلا بشرط أن تتغير حالة الدلائل التي كان قد صدر القرار بناء عليها وقت التصرف في التحقيق، وعلى هذا النحو فإن هذا الأمر يحوز حجية خاصة، فهي حجية مؤقتة غير نهائية، إذ يجوز العدول عن هذا القرار والعودة إلى التحقيق متى ظهرت دلائل جديدة حتى لو استنفذ القرار طرق الطعن المقررة قانونا، وهذا ما يفرق حجية القرار بألا وجه لإقامة الدعوى عن حجية الشيء المحكوم فيه نهائيا والتي تحول دون الرجوع إلى الدعوى مهما ظهرت من أدلة فيها، ولذلك يجوز العدول عن القرار بألا وجه والعودة إلى التحقيق متى ألغى النائب العام هذا القرار خلال مدة الأربعة الاشهر التالية لصدور القرار من أحد أعضاء النيابة العامة ، ويتضح مما سبق أن حجية الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى دائما ذات طبيعة مؤقتة وليست نهائية.

ثانياً: الأمر بألا وجه له حجية نسبية:

كما سبق وأن ذكرنا أن حجية الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى مؤقتة وليست نهائية، فضلا عن ذلك فإن حجية هذا الأمر كحجية الأحكام من حيث كونها نسبية، فلا يستطيع التمسك بها إلا المتهم الذي تم التحقيق  معه وصدر القرار بشأنه وبالنسبة للواقعة التي حقق معها بشأنها.

ويترتب على هذه الحجية النسبية أنه لا يجوز لأحد المتهمين التمسك بالأمر الصادر لمصلحة متهم آخر مساهم معه في  الجريمة ذاتها متى كان الأمر مبنيا على أسباب شخصية مثل امتناع مسئولية المتهم أو امتناع عقاب، لأن الأسباب الخاصة بأحد المتهمين لا يستفيد منها سواه، أما إذا كان الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى مبنى على أسباب عينية مثل عدم صحة الواقعة أو توافر الإباحة أو انقضاء الدعوى بالتقادم أو العفو الشامل أو التنازل عن الشكوى اوالطلب فيستفيد منه الآخرين المساهمين في الجريمة.

ثالثاً: حجية الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى أمام القضاء الجنائي:

الحجية المؤقتة للأمر بألا وجه قاصرة على الدعوى الجزائية التي صدر فيها، وطالما كان الأمر قائما لم يلغى ظل متمتعا بالحجية بحيث تمتنع العودة إلى التحقيق وإذا رفعت الدعوى يتعين الحكم بعدم جواز نظرها والدفع بعدم جواز نظر الدعوى لصدور أمر بألا وجه لإقامتها يتعلق بالنظام العام، فيجوز إبداؤه في أي حالة تكون عليها الدعوى ولو أول مرة أمام محكمة النقض ويجوز للمحكمة أن تقضى به من تلقاء نفسها، ولكن يشترط في ذلك وحدة السبب والموضوع والخصوم بين الدعويين.


رابعا: حجية القرار بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجزائية أمام القضاء المدني:

يذهب غالبية الفقه الجنائي إلى  أن القرار بألا وجه لإقامة الدعوى الجزائية  ليس له أدنى حجية على الدعوى المدنية التي يرفعها المضرور من الجريمة أمام القضاء المدنى، أو النزاع المدني لان هذا القرار لايفصل في النزاع المدني، فيحق للخصم ان يرفع دعوى ابتدائية موضوعية بشأن الموضوع المدني محل النزاع وان يطالب بحقه أمام المحكمة المدنية المختصة حسبما قضى الحكم محل تعليقنا، )الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية، الدكتور عادل عامر، ص 20)، والله اعلم.