الحيلة تبطل الوقف
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون –
جامعة صنعاء
الوقف
من أهم القرب التي يتقرب بها العباد إلى الخالق تبارك وتعالى، فينبغي ان يكون غرض
الواقف من الوقف هو التقرب إلى الله إبتغاء رضاء الله ومغفرته، ولذلك فإن الحيلة
تتنافى مع القربة إلى الله ، وبناءً على ذلك إذا ظهر أن مقصود الواقف من الوقف هو
الحيلة على بعض الورثة أو الحيلة على الدائنين أو الحيلة على الدولة اوغير ذلك من
الحيل فإن الوقف يبطل، ومن اهم مظاهر الحيلة في الوقف ان يقوم الشخص بوقف كل
ماله وليس ثلث ماله حسبما هو مقرر في الشرع
والقانون وحسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها
المنعقدة بتاريخ 22-12-2014م في الطعن رقم (46045)، حيث قضى الحكم الابتدائي (بان
الوقفية باطلة، لأن الواقف قد أوقف ماله كله لولده الذكر ولم يذكر الواقف مصرف
الوقف ووجه القربة ، وإنما اكتفىالواقف بأن ذكر أن ولده هو الناظر على الوقف وهو الموقوف
عليه، وفي الوقت ذاته ذكر الواقف في الوقفية بأن ابنتيه إذا طالبتا بالإرث فيكون
لهما الحق في الوقف اثناء حياتهما فقط)، وقد قضى الحكم الاستئنافي بتأييد الحكم الابتدائي،
وعند الطعن بالنقض أقر حكم المحكمة العليا الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن أسباب
حكم المحكمة العليا: ((ان ما ورد في الطعن غير مؤثر، وان الحكم الاستئنافي صحيح
وموافق للشرع والقانون لما علل به وأستند إليه))، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم
حسبما هو مبين في الأوجه الأتية:
الوجه الأول: السند الشرعي والقانوني للحكم بأن الحيلة تبطل الوقف:
سبق
القول بأن الوقف قربة يتقرب بها العبد إلى ربه، فالله تعالى طيب لا يقبل إلا الطيب
من الأعمال، فالعمل والتصرف الذي ينطوي على حيلة لا يكون طيباً بل أنه خبيث لان
الحيلة محرمة في الشريعة الإسلامية ، فلشريعة تحرم الحيل مطلقاً عملاً بقول النبي صلى الله
عليه وآله وسلم {ولا تكونوا كاليهود فتستحلوا ما حرم الله بأدنى الحيل}، بل ان
الفقه الإسلامي كله عدا بعض الحنفية قد ذهب إلى تحريم الحيل حتى لو كان الغرض منها
إحقاق حق أو إبطال باطل، ولذلك فإن الحيل محرمة مطلقا ، فلا يكفي ان يكون الغرض
مشروعاً بل يجب ان تكون الوسيلة للوصول إلى الغرض مشروعة أيضاً، فلا تعرف الشريعة
الإسلامية المفهوم الغربي الغاية تبرر الوسيلة، (تفسير آيات واحاديث الأحكام، أ.د.
عبدالمؤمن شجاع الدين، ص215)، وعلى هذا الأساس فإن الشريعة الإسلامية تحرم الحيلة
في الوقف، فإذا انطوى الوقف على حيلة بطل
الوقف، وقد اقتفى قانون الوقف الشرعي اليمني أثر الفقه الإسلامي، حيث صرح بأن
الوقف لايكون صحيحاً إذا انطوى على حيلة اي ان الوقف يكون باطلا ، وفي هذا المعنى نصت
المادة (16) من قانون الوقف على أنه (لا يصح الوقف فراراً من دين أو شفعة ولا
بحيلة كالتحايل على أحكام الإرث).
الوجه الثاني: الحيلة مطلقا تبطل الوقف:
صرحت المادة (16) من قانون الوقف بأن الحيل
بمختلف انواعها وصورها تبطل الوقف، لأن صيغة الحيلة في المادة المشار إليها صيغة
عامة تفيد العموم في الحيل كافة، فالتحايل على أحكام الإرث المذكورة في المادة
المشار إليها هو مثال للحيل التي تبطل الوقف، إضافة إلى ان المادة (16) قد صرحت
ببطلان الوقف إذا انطوى على حيلة، وذلك ظاهر من صيغة النص، وهو قوله (لا يصح
الوقف) إذا انطوى على حيلة، فذلك يعني عدم صحة الوقف إذا انطوى على حيلة أي ان
الوقف يكون باطلاً في هذه الحالة، وبما ان الحيل عامة تبطل الوقف فإن هذه الحيل
تتنوع إلى أنواع شتى منها الحيلة على بعض الورثة كأن يقوم الواقف بوقف بعض ماله
لبعض الورثة دون غيرهم من غير قربة، فالواقف في هذه الحالة لا يهدف إلى التقرب إلى
الله ببعض ماله وإنما يقصد الاحتيال بالوقف على بعض الورثة وحرمان البعض الآخر،
كذلك إذا قام الواقف بوقف كل ماله على الذكور من ذريته من غير قربة كالضعف
والمسكنة أو المعيشة، فإن ذلك حيلة على الورثة من النساء مثلما وقع في القضية التي
قضى فيها الحكم محل تعليقنا حيث كان الواقف قد أوقف كل تركته على ولده الذكر وحده وحرم بناته من تركته نهائيا، الواقف كان قد افصح
في الوقفية أنه قد أوقف كل ماله لولده الذكر، فقصده من الوقف هو حرمان بناته من
الإرث وإيثار الولد الذكر بكل التركة من
غير ان يحدد القربة في الوقف لقراءة القرآن أو الدعاء للواقف أو العلم أو الفضل أو الضعف أو
المسكنة أو الفقر، علما بأنه المتبع في
اليمن ان يقوم كثير من الأشخاص بالوقف على ذرياتهم من الذكور شريطة ان يكون في ذلك
قربة يفصح الواقف عنها في وقفيته، وقد ذهب جمهور العلماء الى جواز الوقف على
الذرية حسبما سبق بيانه في تعليق سابق، فالحكم
محل تعليقنا قضي ببطلان الوقف، لان الواقف كان قد أوقف كل تركته على ولده
الذكر في حين الشرع والقانون يشترطا في الوقف ان لايزيد على الثلث، كما قد تظهر
الحيلة في الوقف في صور كثيرة كالإضرار بالورثة أو الأقارب، وكذا الوقف بقصد
الإضرار بالدائنين أو هروباً من الدين أو هروبا من الشفعة حسبما ورد في نص المادة
(16) وقف السابق ذكرها.
الوجه الثالث: بطلان الوقف للحيلة وآثاره:
صرحت بذلك المادة (16) وقف السابق ذكرها التي نصت
على أن الوقف لا يصح إذا انطوى على حيلة أي ان الوقف يكون في هذه الحالة باطلا ،
وهذا يعني ان المال لا يخرج من ذمة الواقف ولا يدخل ضمن أموال الوقف، فلا تسري
عليه أحكام الوقف لانه باطل ، فيتم تقسيم المال بين الورثة إذا كان الواقف قد مات،
ويرجع سبب بطلان الوقف للحيلة إلى أن
الواقف لا يقصد من وقفه لماله التقرب إلى الله وإنما منع حقوق الغير أو الإضرار بهم، حسبما قضى الحكم
محل تعليقنا، والله اعلم .