إستظهار الحالة العقلية للمتهم من خلال أقواله
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون –
جامعة صنعاء
من
ضمن أساليب الخصوم للإفلات من المسائلة الجزائية عن الأفعال الجنائية التي
يرتكبوها عند ثبوت نسبة تلك الأفعال إليهم الإدعاء بأن المتهم
يعاني من مرض نفسي مؤثر على حالته العقلية، مع أن هناك فروق جوهرية بين المرض
النفسي والمرض العقلي( الجنون )، ويمكن استظهار الحالة العقلية من خلال أقوال المتهم فإذا دلت اقوال المتهم أنه كان
عند إرتكابه للفعل بكامل قواه العقلية،
فعندئذ لاتكون احالة المتهم وجوبية إلى الخبير لتحديد حالته العقلية،
فلا تكون الإحالة وجوبية إلا إذا ساورت
المحكمة الشكوك بشأن حالة المتهم العقلية من خلال أقواله وافعاله، حسبما قضى الحكم
الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 8-1-2013م
في الطعن رقم (47925)، الذي ورد ضمن
أسبابه : ((أن إعترافات الطاعن التفصيلية وشرحه للأفعال السابقة للواقعة وشرحه
للواقعة ذاتها وتحديده للمسدس وعدد الطلقات التي أطلقها ثم شرحه لكيفية إخفاء المسدس أداة الجريمة بعد إرتكابه
للجريمة وتطابق أقوال المتهم الطاعن مع الأدلة الفنية وأقوال الشهود، فذلك يدل على
حالة المتهم وأنه لا يعاني من مرض أو عاهة مؤثرة على قدراته العقلية وإدراكه وقصده
للفعل والنتيجة، كما أنه لا يلزم محكمة الموضوع الإستجابة لطلب محاميه إحالته إلى
مستشفى الأمراض العقلية والنفسية للتثبت من حالته النفسية التي ادعاها محاميه حيث
ذكر المحامي أن المتهم الطاعن يعاني من مرض إنفصام الشخصية، لأن المادة (208)
إجراءات لا توجب على محكمة الموضوع إحالة المتهم لفحصه من الناحية العقلية إلا إذا
ثارت الشكوك بشأن الحالة العقلية للمتهم))، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو
مبين في الأوجه الأتية:
الوجه الأول: المرض العقلي (الجنون) هو الذي يفقد الإنسان الوعي والإدراك بخلاف المرض النفسي الذي لا يفقد المصاب القدرة على ادراك الأفعال ونتائجها :
استقر
قضاء المحكمة العليا في اليمن على التمييز بين المرض النفسي والمرض العقلي
(الجنون)، فالمرض العقلي: هو الجنون بتعبير الفقهاء، فالجنون بتعبير الفقهاء: آفة تصيب العقل فتعطل قدراته
على التمييز والإدراك للافعال التي يقوم
بها والنتائج المترتبة عليها، فهذه الآفة تجعل المصاب بالجنون بخلط بين الأقوال
والأفعال والصور، فيسمع المجنون اصوات ويرى اشياء لا يسمعها العقلاء ويقول ويفعل مالايقوله
أو يفعله العقلاء، إضافة إلى أن المجنون يخلط في كلامه ويفعل أفعالاً لا يفعلها
العقلاء، فالفقه الإسلامي يستظهر الجنون من الاعراض التي تظهر على المصاب بالجنون
وتلازمه طوال حياته أو لفترات دورية متقطعة ، اما المرض النفسي :فهو الذي يجعل سلوك
المصاب به سلوكاً غير سوي لكنه لا يعدم حس المصاب وإدراكه وقدراته على التمييز بين
الأفعال والتصرفات ، ولذلك فإن الفقه الإسلامي قد وضع معياراً منضبطاً للتفرقة بين
الجنون والمرض النفسي، ولا ريب أن المحكمة العليا في قضائها قد استندت الى الفقه
الإسلامي في التفرقة بين المرض العقلي( الجنون ) والمرض النفسي مثلما هو ظاهر في الحكم محل تعليقنا.
الوجه الثاني: إستظهار الحالة العقلية للمتهم من خلال أقواله :
سبق
القول ان الفقه الإسلامي يعرف الجنون بأنه: آفة تصيب عقل الإنسان فتجعله يخلط في
كلامه فيقول أقوال غير منتظمة أو غير مفهومة أو غير متسقة لا تعبر عن الاشياء أو
الأفعال التي يسأل عنها المصاب، وذكرنا فيما سبق أيضاً أن الفقه الإسلامي يستظهر
الجنون من الأعراض التي تظهر من المجنون، ومن ذلك أقوال المجنون المضطربة أو غير
المفهومة، وبناءً على ذلك فقد استظهر الحكم محل تعليقنا حالة المتهم العقلية من
خلال أقوال المتهم الذي كان يجيب على الاسئلة الموجهة إليه في مرحلة جمع الإستدلال
ثم مرحلة التحقيق ثم أمام محكمة الموضوع بإجابات تدل على فهمه للسؤال الموجه إليه،
فيجيب عليها بإجابات مفهومة وعلى قدر السؤال، فقد ذكر المتهم في اجاباته السبب
الذي دفعه إلى إطلاق النار على المجني عليهما ثم ذكر وقت ومكان إرتكابه لواقعة
القتل وذكر المتهم نوع السلاح الذي اطلق منه النار على المجني عليهما، كما ذكر
أيضاً عدد الطلقات التي أطلقها من سلاحه الناري ثم ذكر المكان الذي اخفى فيه السلاح
أداة الجريمة بعد ارتكابه لها، إضافة إلى أن أقوال المتهم أو اجاباته عن الاسئلة
في كافة المراحل كانت متطابقة مع بعضها منذ مرحلة الإستدلال حتى مرحلة المحاكمة،
علاوة على أن أقوال المتهم كانت متطابقة مع الأدلة الأخرى كشهادات الشهود
والتقارير الفنية، فالتطابق والاتساق في أقوال المتهم دليل على أن المتهم كان عند
إرتكابه لواقعة القتل في كامل العقل والعلم والإدراك والوعي بالفعل الذي قام به
وهو قتل المجني عليهما، ومن خلال اقوال المتهم يظهر أنه لم يثور لدى المحكمة اي شك
بشأن حالة المتهم عند إرتكابه للفعل،فالثابت من خلال أقواله أنه كان بكامل وعيه وقواه
العقلية وأنه كان مدركا لفعله.
الوجه الثالث: إذا أظهرت أقوال المتهم ودلت على سلامة قواه العقلية فلا يقبل طلبه الإحالة إلى مستشفى الأمراض العقلية لفحصه والإفادة عن حالته العقلية:
قضى
الحكم محل تعليقنا بأن الإحالة الوجوبية لفحص الحالة العقلية للمتهم لا تكون إلا
إذا دلت القرائن من أقوال وتصرفات المتهم أنه يعاني من الجنون وشكت المحكمة في
حالة المتهم العقلية ، أما إذا دلت أقوال وتصرفات المتهم على أنه يعي ويفهم ويدرك
الأقوال التي يتلفظ بها أو الأفعال التي يفعلها، فإن واقع الحال يكذب إدعاء المتهم
الجنون أو المرض النفسي، فعندئذ لا يجب على محكمة الموضوع إحالة المتهم إلى الخبير
أو مستشفى الأمراض العقلية للإفادة عن حالته العقلية حسبما قضى الحكم محل تعليقنا
الذي أستند إلى المادة (208) إجراءات التي نصت على أنه ( يكون طلب تقرير
الخبير وجوبياً في الأحوال الآتية: -أ- لبيان سبب الوفاة و طبيعة الإصابة
الجسمانية.ب- لتحديد الحالة النفسية للمتهم عندما يثور شك أثناء القضية حول قدرته
على إدراك ماهية أفعاله وإدارتها. ج- لتحديد الحالة النفسية أو الجسمانية للشاهد
حينما يقوم شك على قدرته على المشاهدة الصحيحة للأحداث و رؤيتها بما يطابق
الواقع. د- لبيان سن المتهم أو المجني عليه في حالة ما يكون ذلك مهماً للقضية و لا
توجد مستندات تثبت سنهما)، فهذا النص صرح بأن الإحالة الوجوبية تكون عندما يثور الشك لدى المحكمة
اثناء نظر القضية، فمحكمة الموضوع عند نظرها للقضية التي تناولها الحكم محل
تعليقنا لم تلاحظ من أقوال المتهم ما يشككها في قدراته العقلية، والله اعلم .