معنى القربة في الوقف
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء.
القربة في الوقف هي: العلامة الفارقة بين الوقف وغيره من التصرفات الشرعية كالوصية والهدية والهبة والعطية ، فلا يكون التصرف وقفاً إذا انتفى فيه معنى القربة، علاوة على ان البحث عن معنى القربة عند الخلاف بشأن تحديد نوع التصرف ليس أمراً يسيراً، فضلا ان معنى القربة في الوقف يجب أن يكون حاضرا في أفعال وتصرفات من يدير الوقف، لان القربة لله تعالى هي عماد الوقف وصفة تلازمه منذ نشوء الوقف حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وقد اشار إلى القربة في الوقف وأثر انعدامها الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 14-9-2015م في الطعن رقم (57039)، فقد ورد ضمن أسباب الحكم الابتدائي (وما دام الأمر كذلك، فهل القربة موجودة في الوصية ؟ حيث تنص المادة (35) من قانون الوقف الشرعي على ان: اسناد النظر على الوقف لأحد الورثة أو لأحد الذرية أو لغيرهم دون قربة صريحة أو ظاهرة إذا قصد به التصرف له فهو غير صحيح، وكذلك منع قانون الوقف الوقف في درس) وقد ايد الحكم الاستئنافي الحكم الابتدائي، وعند الطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي اقرت المحكمة العليا الحكم الاستئنافي، وجاء ضمن أسباب حكم المحكمة العليا: ((فما ورد في الطعن هو إعادة سرد للوقائع الموضوعية والأدلة التي عرضت على محكمة الموضوع، فقامت بمناقشتها وتحقيقها، وحققت في المستندات وابدت وجه الرأي فيما طرح أمامها ولا معقب عليها في ذلك، لأن المحكمة العليا محكمة قانون))، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الأتية:
الوجه الأول: معنى القربة في الوقف:
القربة: هي ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى من اعمال البر والطاعة، فالقربة كل ما يتقرب به كالطاعة ونحوها واصلها من القرب وهو الدنو، وتطلق القربة على الاقتراب، ولذلك سمى العمل الصالح قربة، لأن العبد يقصد بعمله الاقتراب من الله تعالى. (لسان العرب، مادة قرب)، وعلى هذا الأساس فإن معنى القربة في الوقف ان يكون قصد الواقف من وقفه هو التقرب من الله تعالى (أحكام الوقف، الشيخ محمد ابو زهرة، ص46).
الوجه الثاني: التعرف على القربة في الوقف:
تتعلق القربة في الوقف بالنية ، لأن إرادة فعل الخير أو القربة أمر باطني خفي، إلا أنه من الممكن التعرف على القربة عن طريق معرفة الغرض من الوقف أو معرفة مصرف الوقف الذي حدده الواقف ، فإذا كان الموقوف عليهم أو مصرف الوقف يندرج ضمن اعمال البر والإحسان والأعمال الصالحة التي تحث عليها الشريعة الإسلامية فقد تحقق معنى القربة في الوقف، مثل الوقف على بناء المساجد والمدارس والمستشفيات والملاجئ والجامعات والمعاهد وإطعام الفقراء والمساكين وعابري السبيل، ولذلك فقد قضى الحكم محل تعليقنا بأن الوقف على احد الأولاد دون سواه يعد وصية وليس وقفا لانعدام القربة في هذا التصرف، ولان المال الموقوف للولد وليس لله، كما أن غلال ذلك المال للولد وليس لله، إضافة إلى أنه لا ينطبق وصف الفقير أو المسكين أو طالب العلم أو غيرها من أعمال البر، علاوة على أن الولد الموقوف عليه ليس عاجزا أو أعمى أو اشل، فالوقف على احد الابناء دون غيره في الحالة التي اشار إليها الحكم محل تعليقنا يوجد ويؤجج الصراع والحقد بين الاخوة على خلاف مقصود الشارع.
الوجه الثالث: القربة في قانون الوقف الشرعي:
لأهمية القربة في الوقف فقد تناولها قانون الوقف في نصوص عدة مؤكداً على ان القربة معتبرة في الوقف فهي عماد الوقف وركيزته ، فقد نصت المادة (2) من قانون الوقف على ان (الوقف هو حبس مال والتصدق به بمنفعته لقربة تأبيداً)، فالقربة معتبرة في هذا النص الذي عرف الوقف، واشار هذا النص إلى ان القربة: هي صرف حاصلات الوقف في الأعمال الصالحة واعمال البر والإحسان، وفي هذا السياق نصت المادة (5) من قانون الوقف على انه (يكون الوقف بايجاب من الواقف يقف به مالا معيناً منقولاً أو غير منقول مملوكاً له ويتصدق بمنفعته أو ثمرته على معين شخصاً كان أو جهة عامة أو خاصة، ويجب أن يقترن الايجاب بنية القربة إلا أنه في غير الصريح لابد من دلالة يظهر بها مراد الواقف )، وقد اشترطت هذه المادة ان يحدد الواقف اوجه البر والإحسان التي تصرف عليها عائدات الوقف حتى تكون القربة في الوقف ظاهرة أو يتم الإستدلال من خلالها نية القربة، وكذا اشترطت المادة (7) من قانون الوقف في الوقف بالفعل ان تكون القربة ظاهرة في هذا الوقف كنصب جسر للمارة أو انشاء سد ماء لشرب الناس والدواب، واجازت المادة (33) من قانون الوقف الوقف على بعض الورثة إذا تحقق فيهم معنى القربة، كالوقف على الضعفاء والمساكين من ذرية الواقف أو الوقف على العاجز منهم كالأعمى والاشل أو طالب العلم او المنقطع للعبادة، ولذلك فقد قضى الحكم محل تعليقنا بمنع الوقف على احد الورثة وهو ولد من اولاد الواقف لأنه لم يكن عاجزاً أو اشلاً أو مشغولا بطلب علم او عبادة- أي ان القربة منتفية في الوقف لأحد الأولاد دون غيره في هذه الحالة، بل أن الوقف في هذه الحالة يتضمن معصية لما فيه من إثارة الفرقة والنفور والوحشة بين الأولاد، ومن هذا المنطلق فإن التصرف وان اطلق عليه الواقف مسمى الوقف إلا أنه حيلة تختفي في جنباته الوصية لوارث، وهو تصرف ممنوع في الشرع والقانون.
الوجه الرابع: حضور معنى القربة في تصرفات من يدير الوقف:
سبق القول بأن القربة في الوقف هي عماد الوقف وركيزته، لان غرض الواقف من الوقف التقرب إلى الله تعالى بماله إبتغاء مرضاة الله تعالى واستعمال الوقف واستثمار في المجالات التي تكون بحد ذاتها قرب لله تعالى، ولذلك يجب أن تكون الأولوية في الإنتفاع بأموال الوقف للفقراء والمساكين ومن في حكمهم، ويجب أن تنفق حاصلات الوقف وعائداته على أعمال البر والإحسان، وينبغى ان يتحلى من يدير الوقف بالتدين والتقوى والاستقامة والشرف والنزاهة وان يبتعد عن الخصال الذميمة التي تتنافى مع معنى القربة في الوقف، وكذا يجب على من يدير الوقف عدم الاستعانة بالسفهاء والاوغاد والطغام. (الوقف، أ. د. الناجي لمين، ص104)، والله اعلم.