تقديم الدولة للخدمات
بين الإلزام والجواز
أ.د/ عبدالمؤمن
شجاع الدين
الأستاذ بكلية
الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
تقديم الدولة للخدمات إلى رعاياها يتعلق بمصالح عامة ضمن الوظائف الرئيسية للدولة في حفظ الامن العام والصحة العامة والسكينة
العامة ،ولذلك فان الدولة هي التي تقدر وتحدد اجراءات واساليب تقديم الخدمات المختلفة لمواطنيها،كما تحدد الدولة الجهات الحكومية المختصة التي تتولى تقديم الخدمات العامة للمواطنين، ولذلك فان الدولة توفر للجهات
الحكومية الخدمية الامكانيات والخبرات والكفاءات اللازمة
لتقديم الخدمات للجمهور حيث تراعي هذه الجهات عدم إلحاق الضرر بالمواطنين واموالهم وهي التي تستطيع
معرفة مدى وجود ضرر مصاحب لتقديم الخدمة من عدمه،
وقد تناول هذه المسألة المهمة الحكم الصادر عن
الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها
المنعقدة بتاريخ 3/3/2013م في الطعن رقم (47841)، وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم : أن مجموعة من المواطنين منعوا مؤسسة المياه والمجاري من إيصال شبكة المجاري إلى منازلهم عن طريق الشارع الضيق المؤدي إلى منازلهم بحجة ان
المنازل قديمة وسوف تتضرر من الحفر وتسرب مياه المجاري، فقامت مجموعة أخرى من المواطنين الواقعة بيوتهم على الشارع المشار اليه قامت برفع دعوى أمام المحكمة الابتدائية طلبت
هذه المجموعة من المحكمة إلزام المجموعة المعترضة على المشروع بعدم معارضة المشروع وتمكين مؤسسة المجاري من إيصال خدمة شبكة المجاري إلى بيوتهم، وقد توصلت المحكمة الابتدائية
إلى الحكم (بلزوم ربط خدمة الصرف الصحي للدور المذكورة في قرار المهندسين وعلى
المدعى عليهم عدم المعارضة ولهم حق إختيار مهندسين
للإشراف على سلامة الربط ودقته وإجادته) وقد ورد في
أسباب الحكم الابتدائي (وحيث تضمن قرار المهندسين ان تمديد شبكة المجاري عن طريق الشارع يخدم جميع المنازل بأقل كلفة وان ذلك لا يشكل أي ضرر على جدران البيوت وان تفقد خط المجاري وصيانته ممكنة وسهلة لمنع أية اضرار محتملة قد تحدث، وحيث لا
مبرر لمعارضة المدعى عليهم سوا توقعهم الاحتمالي بوقوع ضرر التسرب
والروائح الكريهة وهذا يمكن الاحتياط له بإجادة الربط ودقته تحت إشراف مهندسين
مختارين من المدعى عليهم أو من غيرهم) قد أيدت محكمة الاستئناف الحكم الابتدائي
واقرته لاحقاً الدائرة المدنية بالمحكمة العليا ،حيث ورد ضمن أسباب حكمها (فما اثاره الطاعنون عبارة عن جدل في الوقائع والأدلة التي سبق لمحكمتي الموضوع مناقشتها تفصيلاً
بأسباب سائغة مؤيدة بالأدلة ومنها تقرير المهندسين
المختصين الذي تضمن عدم حصول أي ضرر بالدور الواقعة على الشارع جراء ربط شبكة
المجاري إلى الدور الواقعة على الشارع ،وفي هذا ما يكفي
للجزم برفض الطعن) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية:
الوجه الأول: تقديم الدولة للخدمات بين الوجوب
والجواز:
أساس الخلاف الذي اشار اليه الحكم محل تعليقنا هو مدى جواز ان يقوم بعض المواطنين بمنع الدولة من تقديم خدماتها لهم أو لغيرهم مثل خدمة المجاري،
ولبيان هذه المسألة فانه ينبغي النظر إلى نوع الخدمة فاذا كانت الخدمة تحسينية كالهاتف والنت وما شابهه
ذلك فان إيصال أو تقديم الدولة للخدمة إلى المواطنين في هذه الحالة لا يكون واجبا أو ملزما بالنسبة للمواطنين غير أنه يكون واجبا بالنسبة للدولة
إذا طلب المواطن ذلك، اما اذا كانت الخدمة ضرورية او متعلقة بالمصلحة العامة كالمحافظة على
الصحة العامة والنظافة وحماية البيئة من التلوث كخدمة المجاري فان تقديم
الخدمة يكون واجباً على الدولة من جهة ومن جهة ثانية يكون واجباً على المواطن فلا
يجوز له الامتناع عن إيصال الخدمة إلى داره كما
لا يجوز له ان يمنع تقديمها لغيره، ويستند هذا الوجوب بالنسبة للخدمات الضرورية الى وجوب قيام الدولة بوظائفها الرئيسية في حماية الصحة العامة والسكينة
العامة والأمن العام، فمثلاً خدمة المجاري تتعلق بوظيفة من أهم وظائف الدولة وهي
تحقيق الصحة العامة والمحافظة عليها حيث يوجب الدستور والقوانين واللوائح المختلفة على الدولة حماية الصحة العامة والبيئة
العامة، ومن ذلك قانون الصحة العامة وقانون
البيئة وقانون البناء وقانون التخطيط الحضري وقانون المياه فكل هذه القوانين
وغيرها تستهدف حماية الصحة العامة والمحافظة عليها، ولا شك ان إمتناع بعض الأشخاص عن إيصال خدمة المجاري إلى منازلهم أو منع
وصولها إلى بيوت غيرهم مضر بالصحة العامة وبالبيئة ولذلك يجب حمله على القبول بالخدمة.
الوجه الثاني: رجحان المصلحة العامة على المصلحة الخاصة في تقديم الخدمات الضرورية كخدمة المجاري وما شابهها:
من خلال المطالعة للحكم محل تعليقنا نجد أن جانبا من الخلاف كان بشأن ظن بعض اصحاب المنازل الواقعة على الشارع بان تمديد المجاري عن طريق الشارع مضر بجدران منازلهم المطلة على الشارع وخيفتهم من تسرب مياه
المجاري إلى تحت المنازل وكذا خشيتهم من انبعاث الروائح الكريهة من غرف التفتيش ،وقد تكون هذه الخشية حقيقية او وهمية، ومع هذه الخشية فقد رجح الحكم محل تعليقنا المصلحة العامة المتمثلة في
حفظ الصحة العامة عن طريق ربط المنازل بالمجاري العامة رجح هذه المصلحة العامة على
المصلحة الخاصة لبعض سكان الشارع المعارضين لربط المجاري لاسيما انه بالإمكان مراعاة
المصلحة الخاصة لبعض السكان عن طريق تنفيذ عملية الربط بصورة سليمة ومتقنة لتحاشي أية اضرار محتملة قد تنجم عن ربط المجاري إلى البيوت.
الوجه الثالث: حجية تقرير مهندسي المجاري:
مهندسوا مؤسسة المياه والمجاري هم اصحاب الخبرة والدراية والاختصاص في
مجال تقييم الاضرار المحتملة التي قد تلحق بالمواطنين ومنازلهم من ربط المجاري ولذلك فقد اعتمد الحكم محل تعليقنا على التقرير المرفوع من
اللجنة الهندسية المختصة بمؤسسة المياه والمجاري التي خلصت في تقريرها إلى ان
التمديدات الصحية او ربط المجاري إلى
البيوت لن يلحق الضرر بالبيوت كما أنه من المتوقع ان لا تنبعث منه روائح كريهة لان المواصفات الفنية للمشروع تمنع ذلك حسبما ورد
في تقرير المهندسين الذي استند اليه الحكم محل تعليقنا،والله اعلم.