وجوب تقديم الدعوى مكتوبة
إلى المحكم
أ.د/ عبدالمؤمن
شجاع الدين
الأستاذ بكلية
الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
مبدأ المواجهة من أهم المبادئ التي استقرت في العمل القضائي قبل ان يتم
تقنينها في قوانين المرافعات، ومقتضى هذا المبدأ أنه يجب على الخصم مواجهة خصمه بالدعوى والأدلة وغيرها في جلسة المحاكمة
وان تتم هذه المواجهة في وقت يستطيع فيه الخصم إتخاذ الإجراءات اللازمة للرد والتعقيب والمناقشة وإبداء الملاحظات، والكتابة من أهم
الوسائل التي يعبر بها الخصوم عن دعاويهم ودفوعهم وردودهم حيث يتم إعداد وصياغة
المرافعات المكتوبة بتدبر وعناية، ومن جانب آخر فان
الكتابة تمكن الخصم الآخر من دراسة دعاوى خصمه ومرافعاته المكتوبة وفهم مقصوده ومن ثم الرد أو التعقيب على تلك الدعاوى
والطلبات بطريقة واضحة ومرتبة، إضافة إلى أن الدعاوي والمرافعات المكتوبة تسهل للقاضي والمحكم الاحاطة والالمام بتفاصيل النزاع من جوانبه المختلفة ومعرفة وجهات نظر
الخصوم في القضية التي ينظرها القاضي أو المحكم،
ويثور النقاش داخل اليمن وخارجها بشان خصوصية إجراءات التحكيم ومدى ما اذا كانت هذه الخصوصية تسمح باستثناء هيئة التحكيم من الزام الخصوم بتقديم دعاويهم مكتوبة، وكذا يتسع هذا النقاش بشأن ما اذا كان النص الوارد في قانون التحكيم
الذي اشترط ان يقدم المدعي دعواه مكتوبة - ما اذا كان هذا النص نصا امراً ،وكذا تتسع شقة النقاش حتى تصل إلى الجزاء المترتب على مخالفة المحكم لهذا النص، لا ريب ان هذه
المسائل لها اهميتها التي تقتضي الإشارة إليها في سياق التعليق على الحكم الصادر
عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 11/1/2016م في
الطعن رقم (57079) ،وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا
الحكم : ان المحكم اكتفى بالاستماع إلى دعاوي الخصوم
ووجهات نظرهم ومن خلال ذلك فهم المحكم جوهر الخلاف واساسه، وبناءً على ذلك
قام المحكم بتكليف لجنة للمعاينة لتطبيق بصائر الطرفين على الارض محل الخلاف بحضور العدول المختارين من الطرفين وشهود التروية،وبموجب محضر المعاينة اصدر المحكم حكمه ،وعقب ذلك قام احد المحتكمين بتقديم دعوى بطلان حكم المحكم أمام المحكمة
الاستئنافية التي رفضت دعوى البطلان، فقام المدعي
بالبطلان بالطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي،حيث قبلت الدائرة المدنية الطعن ونقضت الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن
أسباب حكم المحكمة العليا (وحيث ان الحكم الاستئنافي المطعون فيه قد خالف المادة
(55) فقرة (ب) من قانون التحكيم والمادة (32) من قانون التحكيم التي نصت على أنه
يجوز لاطراف التحكيم الاتفاق على الإجراءات التي تقوم بها لجنة التحكيم مع عدم الاخلال
بأحكام قانون المرافعات التي تعتبر من النظام العام كما ان المحكم قد خالف المادة
(35) تحكيم التي تنص على أنه على الطرف المدعي ان يرسل بياناً مكتوباً إلى كل عضو
من اعضاء لجنة التحكيم إضافة إلى مخالفة الحكم للمادة (103) مرافعات التي تنص على أن ترفع الدعوى كتابة وكذا مخالفته
للمادة (104) مرافعات التي نصت على ان ترفع الدعوى بعريضة اصلية وصور تكون بعدد
المدعى عليهم...الخ، وحيث لم تجد الدائرة في حكم المحكم الذي
أيده الحكم الاستئنافي المطعون فيه لم تجد فيه الدائرة دعوى من المحتكمين وبدون طلبات اطراف التحكيم أو ادلتهم، ولذلك فان ما
قضى به الحكم المطعون فيه من تأييد حكم المحكم يعد باطلاً بطلاناً مطلقاً لمخالفته
النظام العام) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية:
الوجه الأول: المرافعة بين الشفوية والكتابية:
الأصل أن المرافعات تتم أمام
القضاء بطريقة شفوية أي بصوت مسموع يسمعه الحاضرون في الجلسة بإعتبار ذلك مظهراً
من مظاهر علنية الجلسات،
فتتحقق الشفوية بمجرد تلفظ الخصم أو قوله العلني عند تقديمه للمذكرات المكتوبة في الجلسة فيتلفظ
بصوت مسموع بمسمى المذكرة المقدمة ومضمونها وطلباته،فقد صارت في العصر الحاضر المرافعات
المكتوبة هي الاصل فلاتكون المرافعة شفوية الا عند مناقشة الخصوم في الجلسة في مسائل تكون حاضرة في اذهانهم من غير حاجة إلى رجوعهم إلى وثائق او غير ذلك ،كما تتم المرافعات
شفاهة عند الاجابة على الاستفسارات
العابرة التي تظهر في أثناء جلسة المحاكمة، ومع ان مبدا شفوية المرافعات ضارب اطنابه في القضاء إلا أن المرافعات
الكتابية صارت هي السائدة في العصر الحاضر حيث يتم تحقيق مبدا الشفوية في حالة تقديم المذكرات والمرافعات المكتوبة عن طريق قيام الخصوم
أو محاميهم بتلاوة او املاء اسم المذكرة المقدمة وخلاصتها وطلباتها شفوياً في الجلسة ويتم إثبات ذلك في محضر الجلسة.
الوجه الثاني: مزايا المرافعات المكتوبة:
ذكرنا في الوجه الأول أن
المذكرات المكتوبة صارت السمة الغالبة للمرافعات التي يتم تقديمها امام المحاكم في العصر الحاضر وانه يتم تطبيق الشفوية عن طريق تلاوة خلاصة شفوية للمذكرات
المكتوبة المقدمة في الجلسة على النحو السابق بيانه، وقد اتجه القضاء إلى الركون إلى المرافعات المكتوبة
بدلاً عن المرافعات الشفوية التي كان يرتجلها المحامون او
الخصوم شفاهة في جلسات المحاكمة لما للمرافعات المكتوبة من
مزايا كثيرة :منها ان الخصوم يقوموا بإعدادها بعناية بالغة ويستندون في ذلك الى النصوص القانونية
والسوابق القضائية والشروح الفقهية والأدلة المادية، كما انهم يقومون بترتيب مفرداتها بعناية واهتمام، كما ان وجودها مكتوبة في ملف القضية ضمن أوراق القضية وبتوقيع الخصوم
يجعلها صحيحة النسبة للخصم ومعبرة تعبيراً اميناً وصادقا عن مواقفهم وطلباتهم بخلاف المرافعات الشفوية التي يتولى أمين
السر تدوينها في محضر الجلسة بصورة موجزة وملخصة تثير في غالب الاحيان شكوك الخصوم في اليمن الذين يعبرون بصراحة بان
تلك المرافعات التي يتم اثباتها في محاضر جلسات
المحاكمة لاتطابق ماقالوه في الجلسة،فهذه المسألة تثير جدلا واسعاً في اليمن
ليس محله تعليقنا الموجز ،كما ان المرافعات المكتوبة تسهل للقاضي
الرجوع والمطالعة لأقوال الخصوم المثبتة في المذكرات المكتوبة المقدمة
والصادرة منهم والموقعة من قبلهم ،حيث يعتمد القاضي ويستند على ما ورد فيها، فضلاً عن ان المرافعات المكتوبة تمكن الخصوم من الإطلاع والإحاطة بوجهات
نظر بعضهم البعض وطلباتهم وادلتهم في متسع من الوقت وعرضها على محاميهم ومستشاريهم، كما ان المرافعات المكتوبة تعين محكمة
الطعن على الرقابة على مدى سلامة احاطة القاضي بتفاصيل القضية عن طريق المقارنة بين ماورد في مذكرات الخصوم وماورد في أسباب الحكم من مناقشات وكذا تتمكن محكمة الطعن من التاكد مما إذا
كانت المحكمة التي اصدرت الحكم قد اغفلت أو تجاهلت طلبات الخصوم أو دفاعهم أو دفوعهم، علاوة على ان
المرافعات المكتوبة من اهم وسائل الاسراع في إجراءات التقاضي.
الوجه الثالث: المرافعات الكتابية في اليمن:
كان قانون المرافعات اليمني القديم يجيز تقديم الدعوى شفاهة حيث كان المدعي يمليها في محضر الجلسة إلا أن قانون
المرافعات النافذ قد احسن صنعاً
حينما عدل عن تلك الوجهة التي كانت تزيد من حدة النزاعات وتزيدها غموضاً، فقد صرح
قانون المرافعات النافذ في المادة (103) على أن (ترفع الدعوى كتابية) وفي السياق
ذاته تنص المادة (104) مرافعات على أن (ترفع الدعوى بعريضة أصلية وصور تكون بعدد
المدعى عليهم ويجب ان تتضمن العريضة البيانات الأتية...الخ) فالعريضة تكون مكتوبة،
فوفقاً لهذين النصين الصريحين لا تقبل الدعوى إلا اذا كانت مكتوبة، ومن صيغة هذين
النصين يظهر انهما نصان آمران، ولذلك فهما من
النظام العام في قانون المرافعات الذي لا يجوز مخالفته، وقد قضى بذلك الحكم محل
تعليقنا، وبما ان هذين النصين من النظام العام فانه يجب على المحكم وحكم التحكيم
احترام ما ورد في هذين النصين عملاً بالمادة (32) تحكيم التي نصت على أنه (يحق
لطرفي التحكيم ان يتفقا على الإجراءات التي يتعين على لجنة التحكيم اتباعها فاذا
لم يوجد أي اتفاق فانه يجوز للجنة ان تتبع ما تراه ملائماً من الإجراءات مع ضرورة
مراعاة أحكام هذا القانون وعدم الإخلال بأحكام قانون المرافعات التي تعتبر من
النظام العام) فبموجب هذا النص لا يجوز للخصوم المحتكمين الاتفاق على عدم تقديم دعاوى كتابية كما لا يجوز للمحكم الحكم
إلا اذا كانت هناك دعوى مكتوبة لان ذلك من النظام العام حسبما ورد في المادة (32)
تحكيم السابق ذكرها وكذا يجب على المحكم أن يضمن في حكمه ملخصا
موجزا لدعاوي الخصوم حسبما قضى الحكم محل تعليقنا، وتأكيداً لقاعدة
وجوب تقديم الدعوى إلى المحكم كتابة فقد نصت المادة (35) تحكيم على أن (على الطرف
المدعي ان يرسل بياناً مكتوباً بدعواه على الطرف المدعي وإلى كل عضو من اعضاء لجنة
التحكيم...) بل ان قانون التحكيم قد توسع في قاعدة الكتابية حيث نص على ان على المدعى عليه في خصومة التحكيم ان يقدم رده كتابة على الدعوى حسبما هو
مقرر في المادة (35) تحكيم، وفيما عدا الدعوى والرد
عليها فلم يشترط القانون تقديم المذكرات الأخرى مكتوبة إلا ان غالب القضاة في
اليمن وفي العالم يلزموا الخصوم بتقديم
مرافعاتهم كتابة لما لذلك من أهمية
حسبما سبق بيانه في الوجه الثاني من هذا التعليق.
الوجه الرابع:جزاء عدم تقديم الدعوى كتابة وعدم
ذكر ملخص الدعوى في الحكم:
قضى الحكم محل تعليقنا بأن حكم التحكيم الذي
يصدر من غير أن تكون هناك دعوى مكتوبة يكون باطلا بطلانا مطلقا حسبما ورد في الحكم
محل تعليقنا، لأن ذلك يخالف النصوص الآمرة المتعلقة بالنظام العام السابق ذكرها،واشار الحكم إلى بطلان حكم التحكيم
إذا لم يتضمن ملخصا لدعاوي الخصوم.
الوجه الخامس: المرافعات
الكتابية في التحكيم العرفي في اليمن:
مع ان التحكيم العرفي في اليمن يتم بنظر مشائخ ورجال عارفين بالعرف إلا أن الكتابية قد استقر في التحكيم العرفي حيث يوجب
المحكم على اطراف التحكيم ان يقدموا دعاويهم كتابة ثم يقوم المحكم بتبادل الدعاوى المكتوبة بين الخصوم للرد عليها، بل ان قاعدة الكتابية تدل ملازمة لإجراءات التحكيم العرفي حتي يقوم المحكم في النهاية قبل أن يحجز
القضية للحكم بتكليف اطراف الخصومة بتقديم ما يسمى في العرف اليمني (رقم الاستكمال)
أي ان الخصم قد استكمل كل ما لديه من دعاوى وطلبات وردود وادلة وبراهين، وفي بعض الحالات يسمى (قطع المقال) أي انه لم يعد للخصم ما يقوله، وقد لاحظت
هذا مشاهدة ومعاينة بمناسبة قيامي بصياغة أحكام التحكيم العرفي للكثير من مشائخ
اليمن ورجالاتها حيث تتضمن أحكامهم عرض الإجراءات التي
تمت أمام المحكم حتى النطق بالحكم، كما أن غالبية الأحكام العرفية السابقة كانت
تنهج هذا النهج، وقد ذكرت هذا لان بعض الباحثين قد ذكر ان الأحكام التي يصدرها الأشخاص بمقتضى العرف لا يلزم ان تكون الدعوى فيها مكتوبة،والله اعلم.