جواز الحكم بالهجر
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون –
جامعة صنعاء
يثير
الحكم بالهجر جدلاً واسعاً في اليمن، حيث اختلف الفقهاء المتقدمين والمتأخرين بشأن
شرعية الحكم بالهجر الذي يتم الحكم به في أحكام التحكيم، وقد قضى الحكم محل
تعليقنا بأن الحكم بالهجر جائز وأنه لا يكون محرماً إلا إذا كان فيه معنى القربة
لغير الله، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها
المنعقدة بتاريخ 20-6-2012م في الطعن رقم (45882) الذي ورد ضمن أسبابه: ((ولما كان
الطعن بالنقض للمرة الثانية فإن القانون قد خول المحكمة العليا سلطة التدخل في
الموضوع المحكوم به وفقاً لأحكام المادة (300) مرافعات، ومن ثم فأن الدائرة تضيف
إلى ما ساقه الحكم المطعون فيه من أسباب بشأن ما اثاره الطاعنان بأن حكم التحكيم
قضى بأن يسرح الطاعنان للمجني عليهما المطعون
ضدهما ثور وتوابعه، وهذا مخالف للشرع...إلخ ماذكره الطاعنان ، فالدائرة تجد
أن هذا النعي بحاجة إلى مناقشة لإزالة اللبس الذي يثيره بعض الخصوم حول هذه
المسألة للتخلص من حق تقرر عليه أو للكيد كما هو الحال في هذه القضية، ومن ثم فإن
ما اثاره الطاعنان بأن ما قضى به الحكم في هذه الجزئية مخالف للشرع غير مسلم به
إلا إذا كان الغرض من الهجر القربة لغير الله أو تعطيل حكم من أحكام الشرع، وهذا
المحذوران منتفيان فيما نحن بصدده، فالهجر أو الغلاق كما يسميه البعض في العرف
الشائع هو عقوبة عينية ومالية بالنسبة للجاني أو المخطئ، وهو رد للإعتبار وتطييب
للنفس بالنسبة للمجني عليه أو الذي وقع عليه الخطأ، فالمقصود الرئيسي من هذه
الوسيلة هو إصلاح ذات البين بين المتخاصمين، وكما هو معلوم ان الإصلاح بين الناس
مقصد من مقاصد الشرع بل قربة من اعظم القربات إلى الله، ومن ثم فان نعي الطاعنين
في غير محله))، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الأتية:
الوجه الأول: ماهية الهجر:
للهجر
مسميات عدة حسبما أشار الحكم محل تعليقنا منها (الغلاق، الوصلة، القصد..إلخ) وهو
عبارة عن قدوم الجاني مع كبار عشيرته مصطحبين معهم ثور أو جمل أو خروف إلى مكان
المجني عليه بقصد الإعتذار له وعشيرته عن الخطأ الذي صدر من الجاني للمجني عليه،
وقد يقبل قوم الجاني وعشيرته ذبح الهجر وقد يقبلوا الهجر ولكنهم لا يذبحوه، وعن
طريق الهجر تحسم قضايا كثيرة ويتم احتواء كثير من النزاعات والخلافات بين القبائل
والجماعات.
الوجه الثاني: طبيعة الهجر:
اختلف
الفقهاء بشأن طبيعة الهجر، فهناك من يذهب إلى ان الهجر عبارة عن: إعتذار علني من
الجاني وعشيرته للمجني عليه وعشيرته، وان وجود جمل أو ثور مع هؤلاء لا يعني ان ذبح
الهجر ارضاء للمجني عليه دائماً، فالقصد من
اصطحاب الثور أو غيره إشهار الإعتذار وإعلانه عن طريق الوليمة، مثل الهجر
في ذلك مثل أية وليمة الغرض منها اشهار الحادث المقصود كالزواج والموت وغيرها،
وهناك من يذهب إلى أن الهجر عبارة عن: ذبح لغير الله بقصد ارضاءً المجني عليه
وعشيرته حتى يسامح المجني عليه الجاني عما بدر منه من خطأ أو عيب بشأن المجني
عليه.
الوجه الثالث: الهجر في الفقه الإسلامي:
اختلف
الفقهاء بشأن الهجر عن قولين: الأول: أنه جائز لأنه عبارة عن اعتذار علني وان
الذبح ليس لغير الله، ولأن الهجر وسيلة محمودة لتسوية خلافات ونزاعات وإخماد فتن
عظيمة بين المسلمين عن طريق الصلح بين الجاني والمجني عليه، وهذا ما ارشدت إليه
الشريعة الإسلامية السمحاء، وقد اخذ الحكم محل تعليقنا بهذا القول، اما القول
الثاني: فقد ذهب إلى تحريم الهجر، لأنه ذبح لغير الله، واستدلوا بقوله تعالى {وما
أهل به لغير الله}، ويعترض على إستدلال القول الثاني بهذه الآية بأن الاهلال لغير
الله هو التقرب بالذبح لغير الله، وهذا غير حاصل بالنسبة للهجر حسبما قضى الحكم
محل تعليقنا.
الوجه الرابع: الهجر والعرف:
اشار
الحكم محل تعليقنا بأن الهجر معتبر في العرف اليمني ووسيلة لتسوية الخلافات التي
تقع بين الأفراد، فمصدر الهجر العرف، والهجر بمسمياته المختلفة منتشر في كافة
المناطق اليمنية بل أنه شائع في مناطق الجزيرة العربية وبادية الشام وشرق العراق
بين القبائل والعشائر العربية التي تعارفت عليه منذ أمد بعيد.
الوجه الخامس: الهجر والقانون اليمني:
سبق
القول أن المواطنين اليمنيين قد تعارفوا واعتادوا على تسوية المنازعات التي تنشأ
فيما بينهم عن طريق الهجر في الحالات التي تستدعي الهجر، والقانون المدني وهو من
القوانين الأساسية نص صراحة على أن العرف
معتبر اي يتم العمل بمقتضاه ، وفي هذا الشأن نصت المادة (1) من القانون المدني على
أنه: (يسري هذا القانون المأخوذ من أحكام الشريعة الإسلامية على جميع المعاملات
والمسائل التي تتناولها نصوصه لفظا ومعنى، فإذا لم يوجد نص في هذا القانون يمكن تطبيقه
يرجع الى مبادئ الشريعة الإسلامية المأخوذ منها هذا القانون،فاذا لم يوجد حكم
القاضي بمقتضى العرف الجائز شرعا فاذا لم يوجد عرف فبمقتضى مبادئ العدالة الموافقة
لاصول الشريعة الاسلامية جملة, ويستانس براي من سبق لهم اجتهاد من علماء فقه
الشريعة الاسلامية ويشترط في العرف ان يكون ثابتا ولا يتعارض مع مبادئ الشريعة
الاسلامية والنظام العام والاداب العامة)، فهذا النص يصرح بأنه يتم العمل بموجب
العرف الذي لا يخالف الشريعة الإسلامية أو النظام العام، وقد سبقت الإشارة إلى ان
الهجر لا يخالف الشريعة عند غالبية الفقهاء، وكذلك أكد القانون على أن العرف
المشروع معتبر ويعمل به حيث نصت المادة (12) مدني
على أن (الاصل في المعاملات وانواعها وكيفيتها ما اقره الشرع ثم ما جرى به عرف
الناس وتراضوا عليه ما لم يخالف حكم الشرع من تحليل حرام او تحريم حلال واذا اجتمع
التحليل والتحريم غلب جانب التحريم وكل حكم مبني على عرف او عادة يتغير بتغير ذلك العرف
ويزول بزوال تلك العادة)، والله اعلم .