دعوى إكراه الزوج لزوجته على التنازل عن القصاص

*دعوى إكراه الزوج لزوجته على التنازل عن القصاص*

*أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين*
*الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء*

➖➖➖➖➖

*▪️في حالات كثيرة تتنازل الزوجة وحدها عن حقها في القصاص من قاتل مورثها ، ويترتب على تنازلها سقوط القصاص عن القاتل وسقوط حق الورثة الآخرين في القصاص، لأن القصاص لا يتبعض أو يتجزأ ، وعندئذ تتعرض الزوجة المتنازلة لمخاطر وضغوط كثيرة من أقاربها الذين سقط حقهم بسبب تنازلها، وكذا تعاني الزوجة المتنازلة من زوجها وعشيرته، وفي خضم هذه الضغوط تتراجع الزوجة عن تنازلها عن حقها في القصاص وتدعي بأنها قد اكرهت على ذلك من قبل زوجها ، وفي هذه الظروف والملابسات الملازمة لتنازل الزوجة عن القصاص من قاتل مورثها تكون هناك شبهة الإكراه للزوجة غير انه اذا ادعت الزوجة ان زوجها اكرهها على التنازل فيجب عليها إثبات ذلك، لان الادعاء بالإكراه دعوى يجب على المدعي ان يثبته ، وقد اشار إلى هذه المسألة الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 11-3-2015م في الطعن رقم (56582)، الذي ورد ضمن أسبابه: ((فإن الدائرة بعد الرجوع إلى الأوراق مشتملات الملف تجد بأن الطاعن قد نعى على الحكم المطعون فيه مخالفته الشرع والقانون والخطأ في تطبيق القانون ، وحيث أن ما نعاه الطاعن في محله إذ لم يرد دليل من جهة المدعية المطعون ضدها لمدعاها انها تنازلت عن القصاص من الجاني القاتل لمورثها والدها وانها كانت مكرهة على ذلك إكراهاً مادياً ومعنويا من قبل زوجها، حيث أن كلما عللت به محكمة الاستئناف في حيثيات حكمها مجرد كلام مرسل لا يستند إلى دليل ولا إلى وجه قانوني، إذ المقرر شرعاً أن العفو عن القصاص أي التنازل عنه يكون بلا مقابل أو مطلقاً أو بشرط الدية، والمعلوم أن التنازل صدر من الزوجة بعد الحكم بالقصاص، ومعلوم أن العفو عن القصاص ممن يملكه أفضل من استيفائه لقوله تعالى {..فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ..}[178سورة البقرة] وقوله {..فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ..}[45سورة المائدة] ، وقد تضمن المحرر المؤرخ... بقلم... ان الزوجة حضرت إلى  منزل الكاتب.... مختارة من دون اجبار ولا إكراه وهي بكامل الأهلية المعتبرة شرعاً وقانوناً وتنازلت عن طلب القصاص من قاتل والدها  الذي صدر بحقه حكم القصاص، وكان التنازل من المذكورة بصفتها احد أولياء الدم، وهذا المحرر في لفظه ومدلوله صريح بأن التنازل عن القصاص كان مطلقاً تسري عليه أحكام العفو المطلق بعد صدور الحكم وهو برضاء المتنازلة واختيارها وهي بكامل الأهلية، فعند مواجهة المذكورة من قبل الشعبة الاستئنافية وتلاوة التنازل على المذكورة اجابت انها اكرهت على التنازل من قبل زوجها الذي هددها بقتل اولادها وطلاقها إذا لم تتنازل، وقالت أن ذلك التهديد كان قبل حضورها إلى بيت الكاتب للتنازل بيومين ، وقالت انها لا تنكر ذلك التنازل ولكنه صدر منها تحت طائلة الإكراه المادي، والدائرة تجد أنه لا دليل للمذكورة على دعواها بالإكراه وقد دلت شهادة كاتب التنازل المدونة في الجلسة التي حضرت فيها المتنازلة دلت شهادة الكاتب على أن المذكورة حضرت إلى منزله ومعها زوجها ومعها اطفال صغار ومجموعة من الناس من خمسة إلى ستة وتنازلت أمامه عن طلب القصاص، وقال الكاتب أنه بناء على ذلك قام بكتابة التنازل، وأنه بعد كتابته للتنازل قام بتلاوته عليها فأقرته، وقال: أنه لم يظهر أمامه أي إكراه وأنه لم يلاحظ  على الزوجة أي إكراه بالإضافة إلى أن شهادات شهود وثيقة التنازل قد أكدت ما ورد في شهادة الكاتب، وقد ذكر الكاتب انه عند خروج  الزوجة من منزل الكاتب دفع لها احد اقرباء المحكوم عليه مبلغ.... فأخذته وقالت له: مبروك. أما ما عللت محكمة الاستئناف بأن: المتنازلة قد تراجعت عن تنازلها فلا يصح الرجوع في مثل ذلك، فالمقرر شرعاً أنه إذا تعدد الورثة للقصاص وعفى أحدهم نفذ تنازله وانتج أثره، لأن القصاص لا يتبعض، فالمتنازلة من ورثة القتيل، والشعبة ذهبت إلى أن الزوجة تنازلت بالإكراه المادي والمعنوي من غير دليل على ذلك)) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الأتية:*

➖➖➖➖➖
*▪️الوجه الأول: ماهية تنازل الزوجة عن طلب القصاص من قاتل مورثها كالأب وخلافه:*
➖➖➖➖➖

*▪️ذهب الحكم محل تعليقنا إلى أن تنازل الزوجة عن القصاص من قاتل مورثها يكون عفواً منها عن القاتل، ويترتب على هذا التنازل سقوط القصاص كلية، أي أنه يترتب على عفو الزوجة ابنة القتيل سقوط القصاص بالنسبة لجميع ورثة القتيل، لأن القصاص لا يتبعض أو يتجزأ حسبما قضى الحكم محل تعليقنا، وعلى هذا الأساس يظهر الأثر البالغ والخطير لتنازل المرأة عن حقها في المطالبة بالقصاص من قاتل مورثها.*
➖➖➖➖➖
*▪️الوجه الثاني: التركيز على النساء في التنازل أو العفو عن القصاص بعد الحكم به، ومحنة النساء اليمنيات:*
 
➖➖➖➖➖

*▪️من الملاحظ أن اقارب القاتل حينما يتم الحكم على القاتل بالقصاص ويستنفذ الحكم طرق الطعن يتم البحث عن طرق أخرى لاسقاط القصاص، حيث يتجه أقارب الجاني إلى الحلقة الأضعف بين ورثة المجني عليه القتيل، وغالباً ما تكون المرأة الوارثة هي المستهدفة للحصول على التنازل أو العفو منها عن القصاص، لأن النساء في اليمن هن الحلقة الاضعف وفقا للبنية الاجتماعية اليمنية، حيث يسهل التأثير عليها  للتنازل أو عفوها عن القصاص، وعندما تقوم المرأة بالتنازل يسقط القصاص كلية ، فعندئذ تثور ثائرة أهل المرأة المتنازلة، فتقع المرأة بين السندان والمطرقة سندان أهل زوجها الذي حملها على التنازل ومطرقة أهلها وعشيرتها الذين اضاعت دم مورثهم حيث يناصبونها العداء لأنها تسببت في ضياع حقهم في القصاص من قاتل مورثهم، وقد اشار الحكم محل تعليقنا إلى جانب من هذه الإشكالية التي وقعت فيها المتنازلة.*
➖➖➖➖➖
*▪️الوجه الثالث: حجية تنازل النساء عن حقوقهن:*
 
➖➖➖➖➖

*▪️سبق لنا التعليق على حكم قضى بأن تنازل النساء لأقاربهن في الاموال فاسد مالم تقبض المرأة العوض الذي يتم تقديره بواسطة خبراء عدول، وذكرنا أن القضاء اليمني قد استقر على هذه القاعدة منذ 1942م حينما قضى الأمام يحيى حميد الدين رحمه الله بأن تصرف النساء لأقاربهن باطل لمظنة الخوف حيث ان الغالب في النساء انها تخشى بطش اقاربها إَضافة إلى مظنة الخجل والحرج إذ أن الغالب في النساء التحرج من اقاربهن والاستجابة لطلباتهم وكذا مظنة الجهل فالغالب في النساء بحكم العادات والتقاليد الاجتماعية انها لا تعرف بعض المسائل الاجتماعية خارج البيت وآثارها سيما عندما تكون هذه المسائل غير متعلقة بالمرأة كالبيع والشراء وغيرهما، وقد استقر القضاء اليمني على هذه القاعدة حتى الأن، وقد كانت المرأة في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا  تراجعت عن تنازلها بعد أن ادركت المخاطر والآثار البالغة الخطورة على تنازلها، واشارت المرأة أنها تعرضت للإكراه من زوجها وأنه هددها بالقتل والطلاق...إلخ، ولاحظنا أن الحكم محل تعليقنا قد اعتمد تصرف المرأة أو تنازلها عن حقها في القصاص، لأن تنازل المرأة عن القصاص بصرف النظر عن صحته فأنه يورث الشبهة، وقد اجمع الفقه على أن القصاص يدرأ بالشبهة مثله في ذلك مثل الحدود نظراً لجسامة عقوبة القصاص وتعذر تدارك الخطأ فيها، فلو كان تنازل المرأة قد تعلق بحق غير القصاص لتغير وجه الرأي في القضية.*
➖➖➖➖➖
*▪️الوجه الرابع: الإكراه دعوى يجب على مدعيها إثباتها:*

➖➖➖➖➖

*▪️صرح الحكم محل تعليقنا بأن من يدعي الإكراه يجب عليه أن يثبت ذلك، لان الظاهر ان المرأة ذكرت ان الدافع لها على التنازل هو تهديد زوجها وذكرت ان التهديد لها كان في منزلها قبل ذهابها إلى منزل الأمين لكتابة التنازل بيومين ، وقد اعتمد الحكم محل تعليقنا ان التهديد المعتبر والمؤثر هو الذي يظهر ساعة ووقت التصرف اي  وقت التلفظ بالتنازل أو غيره ، لان التصرف لايكون له وجود قبل ذلك ، وإذا كان الإكراه سابق على التصرف وادعى المكره ان الإكراه السابق هو الدافع له على التصرف أو التنازل فعلى من يدعي ذلك ان يثبته حسبما قضى الحكم محل تعليقنا.*
 
➖➖➖➖➖
*▪️الوجه الخامس: حكم التراجع عن العفو عن القصاص:*
➖➖➖➖➖

*▪️قضى الحكم محل تعليقنا بأن التراجع عن القصاص غير مؤثر فلايصح، لان الإقرار في هذه الحالة قد تعلق به حق الغير،وفي هذه المسألة يختلف القصاص عن الحدود، فالاقرار في الحدود يجوز التراجع عنه لتعلق الحدود بحق الله الغفور الرحيم، والله اعلم.*