مظاهر التقاضي الكيدي في اليمن

*مظاهر التقاضي الكيدي في اليمن*

*أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين*
*الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء*

➖➖➖➖➖

*▪️سيظل التقاضي الكيدي مشكلة المشاكل في القضاء اليمني، لان ثقافة المغالطة والتذاكي والشطارة هي السائدة وهي الحاضرة بقوة في أذهان الخصوم، وسوف نشير إلى هذه المسألة في سياق التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 18/7/2009م في الطعن رقم (38355) الذي ورد ضمن أسبابه: ((وحيث أن المدعي المطعون ضده يطالب بتعويضه لكيدية الطعن، حيث ان غرض الطاعن من الطعن تطويل أمد التقاضي، وحيث أن ذلك صحيح، إذ أن البين منذ استهلال الدعوى أمام المحكمة الابتدائية عدم استجابة الطاعن ورفضه استلام إعلانه بالحضور حسبما هو واضح في أصل الإعلان المختوم بختم عاقل الحارة، كما تهرب الطاعن من استلام الإعلان الثاني واستمر في تهربه من حضور جلسات المحاكمة حتى قامت محكمة أول درجة بإصدار الأمر بإحضاره قهراً، وعندما حضر تقدم أمام المحكمة بدفع بعدم اختصاص المحكمة التجارية بنظر النزاع كون النزاع مدنياً وليس تجارياً، لان عقد الإيجار مدني حسبما ورد في ذلك الدفع، الأمر الذي يتبين معه رغبة الطاعن في تطويل أمد التقاضي والتسويف والمماطلة، ومن ذلك الطعن بالنقض إذ أنه رغم تأييد الحكم الاستئنافي للحكم الابتدائي بإختصاص المحكمة الابتدائية التجارية بنظر الدعوى أصر الطاعن على الطعن بالنقض تأكيداً لرغبته في إطالة أمد النزاع والكيد للمدعي، خاصة انه لم يرد على الدعوى حتى الآن مستغلاً للعين المؤجرة المطلوب إخلاؤه لها، حيث استمرت الاطالة في هذه المرحلة اكثر من عامين مما يتعين الحكم بتعويض المطعون ضده عن الطعن الكيدي وفقاً لما نصت عليه المادة (300) مرافعات، وتقدر الدائرة التعويض بخمسين الف ريال)) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية:*
➖➖➖➖➖
*▪️الوجه الأول: ماهية التقاضي الكيدي:*
➖➖➖➖➖

*▪️استعمل قانون المرافعات اليمني مصطلح الكيد في التقاضي في حين استعملت قوانين عربية أخرى مصطلحات مثل (التعسف في استعمال حق التقاضي) ومصطلح (إساءة استعمال حق التقاضي) ومصطلح( الانحراف في إجراءات التقاضي ) ولم يعرف قانون المرافعات مصطلح (الكيد في التقاضي) وترك ذلك للفقه، وقد تعددت تعاريف الفقه للكيد في التقاضي أو إساءة استعمال حق التقاضي.، فالتقاضي الكيدي يتحقق حينما لا يهدف المتقاضي حماية حق او المطالبة به وانما الكيد والارهاق لخصمه في وقته وماله وجهده، وكذا يكون التقاضي كيدياً اذا كان الحق الذي يطلبه المتقاضي او يحميه تافهاً أو عديم الجدوى، وكذا يكون التقاضي كيدياً اذا تعمد المتقاضي إطالة اجراءات التقاضي عن طريق الدفوع والطلبات والطعون التي ليس لها اساس صحيح في القانون أو اذا قصد المتقاضي الاساءة والتشهير أو السب لخصمه أو محاميه في المرافعات، وكذا يكون التقاضي كيدياً اذا قام الخصم برفع دعواه قبل اوانها أو رفعها امام محكمة غير مختصة مكانياً أو نوعياً وهو يعرف المحكمة المختصة أو رفع دعوى سبق الحكم فيها أو التصالح والتحكيم بشأنها وغير ذلك من الامثلة والشواهد التي لا يتسع المجال لذكرها في هذا التعليق الموجز، وقد اشار ابن فرحون في كتابه (تبصرة الحكام) الى التقاضي الكيدي فقال (لو أدعى الصعاليك على أهل الفضل دعاوى باطلة وليس لهم من قصد الا التشهير بهم وايقافهم أمام القضاء ايلاماً وبهتاناً لا تسمع الدعوى ويؤدب المدعي) وقد قضت محكمة النقض المصرية بان (حق التقاضي وان كان من الحقوق العامة التي تثبت للكافة الا انه لا يسوغ لمن يباشر هذا الحق الانحراف به عما شرع له واستعماله كيدياً ابتغاء مضارة الغير وإلا حقت مساءلته والزامه بتعويض الاضرار التي تلحق الغير بسبب اساءة استعمال هذا الحق) وقضت في حكم اخر بان (حق الالتجاء الى القضاء هو من الحقوق التي تثبت للكافة فلا يكون من استعمله مسؤولاً عما ينشأ من استعماله من ضرر للغير الا اذا انحرف بهذا الحق عما وضع له واستعمله استعمالاً كيدياً ابتغاء مضارة الغير) وكذا قضت محكمة النقض المصرية بانه (لما كان حق الالتجاء الى القضاء مقيداً بوجود مصلحة جدية مشروعة فاذا تبين ان المدعي لم يقصد بها الا مضارة خصمه فانه لا يكون قد باشر حقاً مقرراً بمقتضى القانون بل يكون عمله خطأ يجيز الحكم عليه بالتعويض).*
➖➖➖➖➖
*▪️الوجه الثاني: موقف القانون اليمني من التقاضي الكيدي:*
➖➖➖➖➖

*▪️مع ان ظاهرة التقاضي الكيدي سائدة في اليمن ضمن منظومة ثقافة المغالطة والشطارة والفهلوة التي يتباهى بها الخصوم ومحاميهم الا ان موقف قانون المرافعات كان سلبيا حيث اكتفى قانون المرافعات بتقديم الموعظة الحسنة والامنية الطيبة في المادة (18) التي نصت على ان (ممارسة حق التقاضي تقوم على حسن النية) وكذا قصر القانون حق المطالبة بالتعويض على الموكل الذي يطالب محاميه بتعويضه اذا كان محاميه قد تعمد القيام باجراءات غير صحيحة  حيث نصت المادة (260) مرافعات على انه (للموكل حق طلب الحكم بالتعويض على المحامي الذي تعمد مباشرة اجراءات غير صحيحة حكم ببطلانها).*

➖➖➖➖➖
*▪️الوجه الثالث: مظاهر التقاضي الكيدي في اليمن وتوصيتنا للجهات المعنية:*
➖➖➖➖➖

*▪️يتخذ التقاضي الكيدي في اليمن مظاهر عدة على خلاف ماهو سائد في الدول الأخرى بسبب الثقافة المغلوطة السائدة في اليمن عن التقاضي، حيث تكرس هذه الثقافة ظاهرة الكيد في التقاضي وتوسع رقعتها، حيث يسود الاعتقاد عند الخصوم ان الكذب وتغيير الحقائق وحجبها وإغاظة الخصم ومغالطته نوع من الذكاء والمهارة، وان منع الخصوم من الوصول إلى حقوقهم أو تأخيرها مظهر من مظاهر الشطارة وان الصدق والاذعان للحق نوع من الضعف والجبن، وعلى هذا الأساس فإن الكيد في التقاضي في اليمن يتخذ اشكالاً ومظاهرا عدة أكثر بكثير من الدول الأخرى، ومن ذلك:*

*1- اللجوء إلى القضاء مع أن الخصم الآخر ممتثل للوفاء وباذل للحق: حيث نلاحظ انه في حالات أخرى كثيرة يقوم بعض الخصوم برفع الدعاوى أمام القضاء ليس بقصد الحصول على الحق وإنما بقصد اشغال خصمه أو تغريمه، فلا يكون مقصد المدعي في هذه الحالة هو الحصول على الحق وإنما يكون قصده شغلة المدعى عليه ومضارته، ومن الطرائف ان احد الأخوة المتقاسمين قام يوعظ بقية إخوانه الورثة بان تتم القسمة بينهم بالتراضي وانه مفوض لأي من اخوانه للقيام بالقسمة واضاف الأخ الواعظ: بان القسمة الجبرية بنظر المحكمة سوف تضر الورثة وتسبب لهم مشاكل مع المجاورين لأموالهم نتيجة تسليم مستنداتهم إلى المحكمة، فما كان من احد الاخوة المشاغلين بعد ان سمع الموعظة إلا أن بادر برفع دعوى قسمة جبرية أمام المحكمة لمخلف ابيه، وكان من أول طلباته تسليم مستندات تركة والده إلى المحكمة!!!! ففي هذه الحالة يكون التقاضي كيدي، لان الخصم لا يقصد من رفع دعواه إلا الكيد والإضرار بخصومه مع انهم باذلون لحقه، وينطبق على هذه الحالة تعريف التقاضي الكيدي السابق ذكره.*

*2- رفع الدعاوى للمطالبة بحقوق تافهة القيمة: حيث تبلغ مصاريف ومخاسير الدعوى اضعاف الشيء أو الحق المطلوب في الدعوى، وهذا المظهر موجود في اليمن بكثرة، لاسيما عندما تكون هناك أسباباً خفية للخلاف غير الحق المطلوب مثل الكلام الجارح او الاحقاد.*

*3- تقديم دفع من غير وجه: فغالبية الدفوع التي يقدمها الخصوم تستهدف تعطيل إجراءات نظر الدعاوى المرفوعة من الخصم الآخر بصرف النظر عما إذا كان هناك مقتضى للدفع ام لا، فبعض الخصوم يقوم بإعداد الدفع قبل ان يستلم نسخة من صحيفة الدعوى وبعضهم يقوم بإعداد الدفع قبل ان يطالع الدعوى!!! فهو لا يهدف اصلا من الدفع الدفاع عن الحق أو التمسك بحق فهو لا يهدف من دفعه الكيدي إلا تعطيل دعوى خصمه فحسب من غير حق او وجه.*

*4- التلاعب في الإعلانات: فالهدف القانوني للإعلان هو إعلام الخصم بالمواعيد والإجراءات حتى يكون  الخصم المعلن على بينة من أمره ولذلك فإن الانحراف بالإعلانات عن هذا الهدف يعد من قبيل الكيد في التقاضي، حيث نلاحظ إلى أنه في حالات كثيرة لا يتم تنفيذ الإعلان بالطريقة القانونية حيث لايصل الإعلان إلى الشخص المقصود بالاعلان، فكثير من الخصوم تتم مفاجئتهم بالإحضار القهري او الحجز او غيره، لانه تم التلاعب في الإعلانين السابقين!!!.*
 
*5- الغياب المتكرر للخصم اثناء المحاكمة: فيعد هذا مظهراً من مظاهر الكيد حيث يترتب عليه إرهاق الخصم الآخر وإرهاق العدالة حيث تتم إعادة إعلانه في كل مرة يتغيب فيها  وهو بالطبع يتعمد الغياب المتكرر عن حضور جلسة المحاكمة فتطول إجراءات المحكمة.*

*6- المماطلة في تنفيذ قرارات المحكمة في اثناء المحاكمة: وقد اشار الحكم محل تعليقنا إلى هذا المظهر، حيث تكلف المحكمة الخصوم بموافاتها ببعض المستندات أو غيرها فيتعمد الخصم المماطلة فتطول الإجراءات ويضار الخصم الآخر.*
 
*7- الكيد في الطلبات العارضة: يتعمد بعض الخصوم الكيد بخصومهم عن طريق طلبات الحجز والحراسة والمنع من السفر...إلخ، حيث تتركب القضايا وتتعقد، فلا يهدف الخصم من طلبه العارض إلا إرهاق خصمه والإضرار به فعندئذ يكون الطلب كيديا.*

*8- الكيد في الطعون: ففي حالات كثيرة يتأكد للخصوم الحق والباطل في المرحلة الابتدائية لدى محكمة أول درجة حيث يتصالح بعض الخصوم قبل الحكم عندما يظهر لهم الحق، وفي حالات أخرى يظهر الحق والباطل بصدور الحكم الابتدائي فيقنع بعض الخصوم بما قضى به الحكم الابتدائي، غير أن بعض الخصوم يقوم بالطعن في الحكم بالاستئناف أو النقض وهو يعلم علم اليقين ان الطعن غير مجد إلا أنه يفعل ذلك بقصد الإضرار بخصمه، وقد اشار الحكم محل تعليقنا لهذا المظهر من مظاهر التقاضي الكيدي.*

*توصيتنا للجهات المعنية: حاولت التعديلات الأخيرة في قانون المرافعات الحد من ظاهرة بطء إجراءات التقاضي إلا أنها لم تفلح في ذلك بسبب انها لم تعالج مظاهر التقاضي الكيدي السابق ذكرها، ولذلك فأننا نوصي  بدراسة مظاهر التقاضي الكيدي التي ترجع إلى الخصوم والسابق ذكرها ووضع المعالجات المناسبة لها في قانون المرافعات، والله اعلم.*