سلطة القاضي في الاستدلال بإعتراف المتهم

*سلطة القاضي في الاستدلال بإعتراف المتهم*

*أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين*
*الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء*
➖➖➖➖➖

*▪️من المقرر قانوناً وفقهاً وقضاءًا ان لمحكمة الموضوع السلطة التقديرية في إستنباط ما تراه من أقوال المتهم حتى لو تراجع عنها كما ان لمحكمة الموضوع الأخذ بمضمون أقوال المتهم فليست مقيدة بالنصوص والعبارات الواردة حرفيا في أقوال المتهم لأن الإعتراف يختلف عن الاقرار حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 13/12/2017م في الطعن رقم (59918)، الذي ورد ضمن أسبابه ((والمعلوم قانوناً انه لا يلزم ان تكون الأدلة التي اعتمد عليها الحكم كل دليل يكفي وحده لقيام الحكم عليه، إذ أن الأدلة في المواد الجزائية متساندة يكمل بعضها بعضاً ومنها جميعاً تتكون عقيدة القاضي، فلا ينظر إلى دليل بعينه على حدة دون باقي الأدلة بل يكفي ان تكون الأدلة في مجموعها كوحدة واحدة مؤدية إلى ما قصده الحكم منها ومنتجة في اكتمال اقناع المحكمة واطمئنانها إلى ما انتهت إليه، ولمحكمة الموضوع سلطة مطلقة في الأخذ بإعتراف المتهم في حق نفسه وعلى غيره من المتهمين في اية مرحلة من مراحل التحقيق ولو رجع عنه بعد ذلك متى اطمأنت إلى صحته ومطابقته للحقيقة والواقع، فمحكمة الموضوع ليست ملزمة عند اخذها بإعتراف المتهم ان تلتزم حرفيا بظاهر اقوال المتهم أو إعترافه بل لها ان تستنبط منه ومن غيره من الادلة الاخرى الحقيقة بطريق الاستنتاج وكافة الممكنات العقلية ما دام استنتاجها سليماً متفقاً مع حكم العقل والمنطق)) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية:*
➖➖➖➖➖
*▪️الوجه الأول: تكييف إعتراف المتهم:*
➖➖➖➖➖

*▪️اشار الحكم محل تعليقنا إلى أن من حق المحكمة ان تأخذ من اعتراف المتهم ما تراه لازماً وفقاً لمبدأ تساند الادلة، وللمحكمة ان تأخذ بأقوال المتهم سواء ادلى بها في أي مرحلة من مراحل التحقيق وللمحكمة ان تأخذ بمفهوم أقوال المتهم وليس نصها الحرفي حسبما ورد في أسباب الحكم محل تعليقنا، وذلك يستدعي الاشارة بإيجار إلى تكييف اعتراف المتهم، فإعتراف المتهم دليل من أهم أدلة الإثبات بل هو سيد الأدلة حسبما يطلق عليه، ومع ذلك فان الإعتراف له مراتب فهناك اعتراف قضائي وهو الذي يتم الادلاء به أمام جهة قضائية كالمحكمة والنيابة، وهناك إقرار يتم الادلاء به أمام مأمور الضبط القضائي كالشرطة والأمن، وهناك اعتراف يتم الادلاء به خارج نطاق القضاء ومأمور الضبط القضائي وهناك اعتراف صريح وهناك اعتراف ضمني، وهناك أقوال للمتهم غامضة ولا شك ان دلالات الإعتراف تختلف بحسب إختلاف مراتب الإعتراف ونوعه.*
➖➖➖➖➖
*▪️الوجه الثاني: الفرق بين الإقرار والإعتراف:*
➖➖➖➖➖

*▪️الاعتراف يكون أمام القضاء في حين ان الإقرار قد يقع خارج نطاق القضاء كما ان الإعتراف يكون أكثر تفصيلاً من الإقرار، كما ان الإعتراف يختلف عن الإقرار من حيث الاحتجاج به فالإعتراف يجوز الأخذ ببعضه وطرح بعضه بخلاف الإقرار الكتابي الذي ينص قانون الإثبات على عدم جواز تجزئته والأخذ ببعضه دون البعض الآخرى، كما أن الإقرار يكون مدنيا اي إقرار خصم لخصمه بالحق الذي يدعيه مقرراً نتيجته قاصداّ إلزام نفسه بمقتضاه، أما الإعتراف فهو مصطلح ذو طابع جنائي وتترتب عليه مسئولية المعترف أو بما يشددها فهو إعتراف على النفس بما يضرها،وهناك أوجه شبه بين الاقرار والاعتراف تتمثل في أن كلاً من الإعتراف والإقرار حجة على المعترف والمقر فقط ولا يتعدى أثرهما إلى الغير ومع ذلك فان القاضي يستطيع الاستدلال بالاعتراف على غير المتهم مثلنا اشار الحكم محل تعلقينا على أساس أن ماورد في الإعتراف يكون بمثابة شهادة من المعترف على غيره حتى في هذه المسالة يختلف الإعتراف عن الاقرار حيث ان أوجه الإختلاف بين الاقرار والاعتراف كثيرة جدا سبقت الإشارة إلى بعضها ويضاف إلى ذلك ماياتي: -1- في الإقرار المدني تتجه نية المُقر إلى تحمل الإلتزام وترتيب آثاره القانونية في حين أن نية المتهم في الإعتراف لا دخل ولا أهمية لها، لأن القانون هو الذي يرتب الآثار القانونية على هذا الإعتراف ولو لم تتجه نية المعترف إلى حصولها، فمثلاً اذا اعترف المتهم بالتهمة ظناً منه أن هذا الإعتراف سوف يجنبه العقاب فإن ذلك لا يحول دون ترتيب آثار الاعتراف القانونية -2- يعتبر الإقرار سيد الأدلة في المسائل المدنية وهو حجة قاطعة على المقر ويعفى المدعى من إقامة الدليل على دعواه ولا يستطيع المقر العدول عن إقراره إلا لخطأ في الوقائع أو لعيب من عيوب الإرادة وعليه أن يثبت ذلك، ولا يملك القاضي أن يطلب من الخصم الذي كان الإقرار لمصلحته تقديم دليل اضافي ولا يستطيع أن يرفض القضاء له بحقه.، أما الإعتراف الجنائي فهو ليس حجة في ذاته وإنما يخضع دائماً لتقدير المحكمة، ولا يعفي النيابة من البحث عن باقي الأدلة ولا يمنع القاضي من الاستمرار في نظر الدعوى وللمتهم أن يعدل عنه في أي وقت دون أن يكون ملزماً بأن يثبت صحة الاعتراف الذي عدل عنه، فالإعتراف مجرد دليل إثبات خاضع لمبدأ الإقتناع القضائي وهو غير ملزم للمحكمة فلها أن تأخذ به أو أن تطرحه، -3- الإقرار المدني غير قابل للتجزئة ويعتبر دليلاً قانونياً يجب على القاضي الأخذ به وعدم طرحه، فالإقرار المدني لا يتحزأ على صاحبه إلا إذا انصب على وقائع متعددة وكان وجود واقعة منها لا يستلزم حتماً وجود الوقائع الأخرى،أما الإعتراف الجنائي فهو على خلاف الإقرار المدني إذ هو قابل للتجزئة حيث أن الأمر متروك لسلطة القاضي وتقديره في الاقتناع به فله الأخذ بما يطمئن إليه وترك ما عداه دون أن يكون القاضي ملزماً ببيان ذلك. -4- الإقرار المدني يمكن أن يكون صريحاً ويمكن أن يكون ضمنياً فيعتبر الإمتناع أو السكوت إقراراً ضمنياً في بعض الأحوال، أما الإعتراف الجنائي فيشترط أن يكون صريحاً دون أي لبس أو أي غموض. -5- الإقرار المدني لا يصح صدوره إلا ممن اكتملت أهليته أي أن يكون للمقر أهلية التصرف فيما أقر به، فإقرار القاصر غير مقبول في الإثبات ولا يحتج به قبل المقر، أما الإعتراف الجنائي فلا يتقيد بسن الرشد. -6- في الإقرار المدني يعتبر إقرار المحامي عن موكله الصادر أثناء المحاكمة إقراراً قضائياً وملزماً لموكله، بينما في الإعتراف الجنائي فلا يعتبر إعتراف محامي المتهم صحيحاً ولا يعتد به لأن الاعتراف يجب أن يصدر عن المتهم شخصياً وليس عن موكله.*
➖➖➖➖➖
*▪️الوجه الثالث: الإعتراف ومبدأ تساند الأدلة:*
➖➖➖➖➖

*▪️يعتمد مبدأ تساند الأدلة على فكرة تفاوت الأدلة من حيث قوة دلالتها إضافة إلى أن كل دليل على حدة يشوبه الضعف ولا يكفي وحده لإثبات الفعل وإسناده إلى المتهم، وان المقاصد الشرعية عندئذ سوف تضيع نتيجة العجز عن إثبات الجرائم الماسة بتلك المقاصد إذا تم الاستدلال بطريقة الاستدلال بكل دليل على حدة، ولذلك ابتكرت القوانين الجزائية مبدأ تساند الأدلة حتى تقوي الادلة بعضها البعض في إثبات الجنايات وصون الدماء والاعراض وغيرها من المقاصد الشرعية، ،وصرح قانون الإجراءات الجزائية بان القاضي يبني عقيدته وفقاً لمبدأ تساند الأدلة حيث يبني القاضي قناعته في المسائل الجنائية وفقاً لهذا المبدأ، لان الأدلة المجتمعة ولو كان كل دليل منها ضعيف على حدة إلا انها عندما تتساند وتتظافر وتتضامم مع بعضها نكون قوية توفر لدى القاضي القناعة بوقوع الفعل الجرمي وصحة نسبته إلى المتهم، حيث يكون الاعتراف من ضمن الأدلة التي يبني القاضي قناعته عليها، فالاعتراف قد يكون ضمنياً كما قد يكون ضعيفاً لا يكفي لوحده لتكوين قناعة القاضي كما قد يكون الاعتراف قد تم أمام مأمور الضبط أو خارج نطاق القضاء كما قد يتراجع المتهم عنه، ومع ذلك يحق للقاضي في هذه الحالة الاستدلال بإعتراف المتهم ضمن الأدلة الاخرى التي تتساند مع الاعتراف في إثبات وقوع التهمة وصحة نسبتها للمتهم، فالقاضي حينما يأخذ بإعتراف المتهم في هذه الحالة ليس بإعتباره الدليل الضعيف وإنما لأن هناك أدلة اخرى تساند الاعتراف وتقويه في إثبات وقوع الفعل ونسبته للمتهم.*
➖➖➖➖➖
*▪️الوجه الرابع: الإستنتاج القضائي من الاعتراف وضوابطه:*
➖➖➖➖➖

*▪️اشار الحكم محل تعليقنا إلى انه يحق للقاضي ان يستنتج من أقوال المتهم ولا يتقيد بحرفية أقوال المتهم وعباراته الواردة في اعترافه، لان استنتاج القاضي عبارة عن نتائج يستخلصها القاضي من دراسته وفحصه لأقوال المتهم، فهذه النتائج نتائج بحث القاضي فليست نقلاً لأقوال المتهم كما هي مثبتة في اعترافاته، غير ان الاستنتاج القضائي ينبغي ان لا يكون مخالفاً لجماع أقوال المتهم الواردة في اعترافاته كما ينبغي ان تكون النتائج التي يستخلصها القاضي معبرة تعبيراً صادقاً واميناً عما ورد في أقوال المتهم واعترافاته حتى لا تقول النتائج المتهم مالم يقل كما ينبغي ان تكون النتائج منطقية متسقة مع أقوال المتهم غير مناقضة لها، والله اعلم.*
تعليقات