لا يجوز للشعبة المدنية نظر دعوى البطلان الجزائية
أ.د. عبد المؤمن
شجاع الدين
الاستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء
انفرد قانون
التحكيم اليمني بجواز التحكيم في المسائل الجزائية خلافا للقوانين العربية التي لا
تجيز التحكيم في المواد الجزائية ؛ ولا شك ان هناك اعتبارات واسانيد عرفية وواقعية
جعلت القانون اليمني يخالف القوانين المماثلة في موقفه من هذه المسألة, ولكن
القانون اليمني حينما اجاز التحكيم في المسائل الجزائية لا يعني ذلك انه قد اهدر
مبدأ الاختصاص النوعي في المراحل التالية لحكم التحكيم في المسائل الجزائية, ولذلك
فقد انبرت المحكمة العليا للدفاع عن الاختصاص النوعي في المسائل الجنائية باعتباره
من النظام العام حيث قررت المحكمة عدم جواز نظر دعوى البطلان في حكم التحكيم
الجزائي من قبل الشعبة المدنية, وموقف المحكمة العليا في هذه المسألة ظاهر من خلال
التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة
بتاريخ 15/1/2011م في الطعن المدني رقم (41784) لسنة 1432هـ وتتلخص وقائع القضية
التي تناولها هذا الحكم ان شابا وضع مسدسه عند صديقه كي يتوضأ وبعد الوضوء اراد
الصديق المزاح بالمسدس حيث صوب المسدس جهة المجني عليه فانطلقت منه رصاصة
اصابته بمقتل فمات منها, فأدعى اولياء
الدم ان القتل كان عمدا لان الالة قاتلة كما ان الجاني قد صوبها باعترافه جهة
المجني عليه وضع يده على الزناد فانطلقت الرصاصة القاتلة؛ اما الجاني فقد
دافع بالقول : ان كل القرائن تدل على انه
لم يتعمد الفعل او النتيجة ومن تلك القر العلاقة التي تربطه بالمجني عليه اضافة
الى ان الواقعة كانت مشهودة تدل ان فعله قد تم على سبيل الخطأ وانه كان يمازح
المجني عليه عندما صوب المسدس الى جهته, وبدلا من احالة القضية الى النيابة فقد قام اولياء الدم والجاني بتحكيم عالمين
فاضلين للفصل في هذه القضية طالما وقانون التحكيم اليمني قد اجاز التحكيم في
المسائل الجنائيةحبث طلب اولياء من المحكمين الحكم لهم بالقصاص ؛ ومن خلال استماع
المحكمين للدعوى والرد عليها وادلة الواقعة فقد تأكد لهما ان الواقعة هي جناية قتل
خطأ فحكما بدية قتل الخطأ بالإضافةالى مبلغ يساوي ثلث دية القتل الخطأ مقابل اغرام
لأولياء الدم مع ان اولياء الدم كانوا قد طلبوا في دعواهم امام المحكمين
القصاص,ولذلك فقد قام اولياء الدم برفع دعوى بطلان حكم التحكيم امام محكمة
الاستئناف التي احالت الدعوى الى الشعبة المدنية بالمحكمة التي نظرت في دعوى
البطلان فقامت الشعبة برفض دعوى البطلان لعدم توافر حالة من حالات البطلان
المذكورة في المادة (53) تحكيم اضافة الى ان الطاعن وهو والد القتيل المجني عليه
لم يكن لديه توكيل من بقية الورثة, فلم
يقبل والد القتيل بالحكم الاستئنافي فبادر الى الطعن فيه بالنقض امام المحكمة
العليا التي قبلت الطعن ونقضت الحكم الاستئنافي لأنه صدر عن الشعبة المدنية وهي
غير مختصة نوعيا بالقضية ؛ وقد جاء في اسباب حكم المحكمة العليا (اما من حيث
الموضوع فان الدائرة بعد رجوعها الى الاوراق مشتملات الملف وجدت ان ما ينعي به
الطاعن ان الحكم الاستئناف قد بني على مخالفة القانون وعلى خطأ في تطبيقه وتأويله, وحيث ان سلطة
المحكمة العليا تختص في مراقبة الحكم
المطعون فيه من حيث تطبيق القانون وعدم مخالفته للنظام العام, وحيث الثابت من
اوراق القضية ان موضوع الدعوى امام المحكمين كانت جنائية وهي دعوى اولياء الدم وطلبهم الحكم بالقصاص الشرعي من المدعى عليه ومن ثم فان قضاء
الشعبة المدنية الاستئنافية في دعوى بطلان حكم التحكيم يكون باطلا لمخالفته قواعد
الاختصاص النوعي للمحكمة؛ ذلك ان النظر في دعوى البطلان ضد حكم التحكيم الصادر في
هذه القضية يكون منعقدا للشعبة الجزائية
الاستئنافية وهو اختصاص نوعي متعلق بالنظام العام الذي لا يجوز مخالفته
وتقضي به المحكمة من تلقاء ذاتها ولو لم يطلب الخصوم ذلك) وسيكون تعليقنا على هذا
الحكم بحسب ما هو مبين في الاوجه الاتية :
الوجه الأول : الاعتبارات التي جعلت القانون اليمني يجيز التحكيم في المسائل الجزائية :
ذكرنا فيما سبق ان
قانون التحكيم اليمني قد انفرد في تقريره جواز التحكيم في المسائل الجزائية, في
حين ان قوانين التحكيم في الدول الاخرى لا تجيز التحكيم في المسائل الجنائية؛ لان
المسائل او القضايا الجنائية بحسب نوعها وطبيعتها تحتاج الى تحقيق تجريه جهة مختصة
ومؤهله وذات خبرة ودراية في هذه القضايا وهي النيابة العامة التي تقوم بدراستها والتصرف فيها وفقا للقانون ؛ فاذا
وجدت اكتمال اركان الجريمة وادلتها قامت بإحالتها الى القاضي الجزائي المختص نوعيا ذي الخبرة
النوعية, اضافة الى ان القضايا الجزائية لها خطورة من حيث مساسها بحقوق وحريات
اطراف القضايا الجزائية, ولذلك لا ينبغي جواز التحكيم فيها في الدول كلها, اما في
اليمن فقد اجاز قانون التحكيم اليمني التحكيم في المسائل الجنائية عدا الحدود
واللعان ولا ريب ان هناك اسانيد واعتبارات جعلت القانون اليمني يتجه الى هذه
الوجهة, ومن اهم هذه الاسانيد مراعاة الاعراف القبيلة السائدة التي يتم عن طريقها حسم قضايا جنائية
كثيرة وكليرة بسرعة, بالإضافة الى ميزة العدالة الجنائية التصالحية التي يوفرها
التحكيم في المواد الجنائية, اضافة الى ان هذا التحكيم يقلل من القضايا الجنائية
المحالة على النيابة العامة لا سيما مع شحة الكوادر والامكانيات التي يعاني منه
جهاز النيابة العامة, علاوة على ان التحكيم في القضايا الجنائية يقلل من الطعون في
الاحكام لا سيما عندما يقوم الخصوم بتشريف احكام التحكيم في القضايا الجنائية.
الوجه الثاني : الوضعية العامة للمحكمين في القضايا الجنائية في اليمن :
من خلال مطالعة
احكام المحكمين في القضايا الجزائية نجد ان المشائخ والواجهات الاجتماعية تحتل
نسبة تصل الى 90% من المحكمين في القضايا الجنائية .وعلى هذا الاساس فان هؤلاء لهم
دراية ومعرفة بالأعراف والعادات الاجتماعية ولكن خبرتهم النوعية الشرعية
والقانونية تكون ضعيفة وفي افضل الاحوال متوسطة كما ان اجراءات هذا التحكيم تتسم
بالسرعة حيث يتم الفصل في بعض القضايا من قبل هؤلاء المحكمين خلال ايام قليلة ,
ففي بعض الاحيان يصدر المحكمون الاحكام
خلال يوم او يومين او ثلاثة ويخشى ان يعتري الخلل والقصور هذه الاحكام مما يستوجب
ان ينظرها عند الادعاء ببطلانها قضاة متخصصون لهم الخبرة النوعية لاستدراك اوجه القصور الجوهرية في القضايا التي
تندرج ضمن حالات قبول دعوى بطلان التحكيم .
الوجه الثالث : الخبرة النوعية في القضايا الجنائية :
من المسلم به ان
الخبرة النوعية في القضايا الجنائية متشعبة ومتعلقة باختصاصات ومجالات عدة ؛
يلاحظها كل من يطالع الاحكام الجنائية داخل اليمن وخارجها من حيث اختصاصات النيابة
العامة وصلاحياتها في هذه القضايا ومن حيث
صلاحية المحكمة الجزائية في التصدي ومن حيث الجوانب الموضوعية المتعددة بتعدد
الجرائم سواء في قانون الجرائم العام او في القوانين العقابية الخاصة بالإضافة الى
مأموري الضبط القضائي والمحاضر والاستدلالات التي يقوم بها علاوة على اعمال الخبرة
الجنائية التي لا تكاد تخلو منها قضية
جنائية, وكذا الطبيعة الخاصة لإجراءات التقاضي في المواد الجزائية حيث خصص
لها المشرع قانونا خاصا وهو قانون
الاجراءات الجزائية اعترافا بنوعية وخصوصية المسائل الجزائية, ومن هذا المنطلق
ينبغي ان تكون الشعبة التي تنظر في احكام التحكيم في المواد الجنائية هي الشعبة
الجزائية وليس المدنية او غيرها .
الوجه الرابع : لماذا يتم النظر في احكام التحكيم الجزائية من قبل الشعبة او الدائرة المدنية:
دول العالم المختلفة لا تجيز قوانينها التحكيم في
المسائل الجنائية حسبما سبق ذكره ولذلك فان التحكيم يقتصر على المواد المدنية
والتجارية حتي ان بعض الدول تطلق على قانون
التحكيم اسم التحكيم المدن والتجاري
ولذلك في هذه اادول ان تحال دعاوى
البطلان الى الشعبة المدنية او التجارية في دعاوي البطلان
لأن احكام التحكيم صادرة في مواد مدنية او
تجارية ولذلك فانه حينما نطالع كتب
التحكيم التي تتناول دعاوي البطلان نجد انها تفرد حيزا كبيرا لتناول الجهة المختصة
بنظر دعوى البطلان حيث تشير الى ان الشعبة المختصة هي المختصة نوعا اما ان تكون
التجارية او المدنية فلا تشير هذه القوانين وتلك المراجع الى الشعبة او الدائرة
الجزائية لعدم وجود هذه الاحكام اصلفي تلك الدول
.
الوجه الخامس : امكانية الحكم بالقصاص في حكم التحكيم :
عند التأمل
والدراسة في قانون التحكيم اليمني نجد انه قد حدد القضايا التي لا يجوز فيها
التحكيم وهذا يعني جواز التحكيم في غير
المسائل التي قرر القانون عدم جواز التحكيم فيها حيث نصت المادة (5) من ذلك
القانون على انه (لا يجوز التحكيم في الحدود واللعان وفسخ عقود النكاح ورد القضاة
ومخاصمتهم والمنازعات المتعلقة بإجراءات التنفيذ جبرا وسائر المنازعات التي لا
يجوز فيها الصلح وكل ما يتعلق بالنظام العام) ومن خلال المطالعة لهذا النص نجد انه
لم ينص على القصاص ضمن المسائل التي لا يجوز التحكيم فيها وهذا يعني انه يجوز
التحكيم في مسائل القصاص, وبالفعل فانه يتم التحكيم في القصاص ولكن التحكيم يكون
في الافعال الموجبة للقصاص وهو فعل القتل بمعنى ان المحكم ينظر في الفعل الموجب
للقصاص ولكنه لا يحكم بالقصاص؛ لان القصاص وان كان حقا لأولياء الدم لكن الحكم به
واستيفائه محصور بالدولة او القضاء العام لعظم هذه العقوبة وجسامتها ولأنه لا يؤمن
سلامة وصحة الحكم بها عن طريق التحكيم ولذا لاحظنا كيف ان المحكمين لم يحكموا بها
في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا وقد اشار حكم المحكمة العليا بان ذلك من
النظام العام, وهذا يعني ان طلب اجراء عقوبة القصاص لا يجوز طلبه من المحكم ولا
يجوز للمحكم ان يحكم به لأنه من مسائل النظام العام الذي ذكر قانون التحكيم عدم
جواز التحكيم فيها, علما بانه كانت في اليمن تصدر احكام محكمين بالقصاص في فترات
مختلفة من التاريخ اليمني لكن هذا الامر كان يتم عندما كان سلطان الدولة يختفي او
يضعف، والله اعلم.