كيفية تقدير سن المتهم.
أ.
د. عبد المؤمن شجاع الدين
كلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء
الحكم
محل تعليقنا هو الحكم الصادر من الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها
المنعقدة بتاريخ 7/3/2007م وخلاصة وقائع هذا الحكم أن واقعة قتل حدثت في إحدى محافظات
الجمهورية فقامت سلطة الضبط القضائي بالقبض على المتهم وإحالته إلى النيابة العامة
المختصة و بعد أن فرغت النيابة من التحقيق الابتدائي في الواقعة قامت بإحالة
المتهم إلى المحكمة المختصة حيث باشرت النيابة العامة إجراءات رفع الدعوى الجزائية
أمام المحكمة في مواجهة المتهم بواقعة القتل حيث طلبت النيابة من المحكمة الحكم
على المتهم بالإعدام ، كذلك قام أولياء الدم بمطالبة المحكمة بإعدام المتهم قصاصاً
واستندت النيابة والمدعون بالحق الشخصي إلى إقرار المتهم وشهادات الشهود ومحاضر جمع
الاستدلالات والتحقيقات التي أجرتها النيابة العامة ، وفي مواجهة ذلك دفع المتهم
بـأنه كان في حالة دفاع شرعي وبأنه لم يبلغ سن الثامنة عشرة وقت ارتكابه للفعل
وبعد المرافعة والمدافعة خلصت المحكمة الابتدائية إلى الحكم بإعدام المتهم لثبوت
التهمة المنسوبة له وانتفاء حالة الدفاع الشرعي ولأن الظاهر بلوغ المتهم سن
المسؤولية الجنائية فما كان من المحكوم عليه إلا الطعن بالحكم الابتدائي أمام
محكمة الاستئناف المختصة حيث تمسك في استنئافه بما سبق له الدفع به أمام محكمة أول
درجة وذلك بأنه كان في حالة دفاع شرعي وبأنه لم يبلغ سن المسؤولية الجزائية وقت
حدوث الفعل وبعد المرافعة والمدافعة أمام محكمة الاستئاف وبعد المداولة بين رئيس
وأعضاء الشعبة الجزائية حكمت محكمة الإستئناف بتأييد الحكم الابتدائي ، فما كان من
المحكوم عليه إلا الطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي أمام الدائرة الجزائية
بالمحكمة العليا التي قضت بنقض الحكم الاستئنافي المطعون فيه وإعادة القضية إلى
محكمة الاستئناف كي تجري تحقيقاً موضوعياً لتقدير سن المحكوم عليه ، وبعد إحالة
القضية إلى محكمة الاستئناف قامت المحكمة بإحالة المتهم إلى الطبيب الشرعي لتحديد
سن المتهم عند ارتكابه للجريمة ، وبعد أن قام الطبيب بفحص المتهم أصدر الطبيب
تقريره الذي تضمن أن المتهم لم يبلغ سن الثامنة عشرة عند ارتكابه للجريمة استناداً
إلى سنه يوم إجراء الكشف عليه ، واستناداَ إلى هذا التقرير حكمت محكمة الاستئناف على
المتهم في حكمها الثاني بالعقوبة المقررة في المادة (31) عقوبات وهي السجن لأربع
سنوات بدلاً عن عقوبة الإعدام باعتبار المحكوم عليه لم يبلغ سن المسئولية
الجزائية.
وبمجرد
صدور الحكم الاستئنافي الثاني في القضية قام أولياء الدم بالطعن بالنقض في الحكم، وهذا
الطعن بالنقض هو للمرة الثانية في القضية حيث أستند الطاعن في طعنه إلى أن محكمة
الاستئناف لم تجر التحقيق المطلوب منها وفقاً لحكم المحكمة العليا السابق حيث
اكتفت بالتقرير الطبي فقط.
وبعد
الدراسة والمداولة أصدرت الدائرة الجزائية حكمها الثاني محل تعليقنا والذي قضى
بقبول الطعن شكلاً وموضوعاً ( ونقض حكم محكمة الاستئناف بجميع فقراته وإعادة القضية
من جديد إلى محكمة الاستئناف كي تقوم المحكمة بنفسها بإجراء تحقيق موضوعي جدي
منتجاً لتحديد سن المحكوم عليه بتاريخ ارتكابه جريمة قتل المجني عليه للتأكد مما
إذا كان المتهم قد أتم حينها سن الثامنة عشرة من عمره أم لم يتم ذلك ثم الفصل في
القضية على ضوء نتائج ذلك التحقيق في حينه ووفقاً للقانون) وقد استند هذا الحكم محل تعليقنا حسبما ورد في أسبابه إلى
أن :
(سن المحكوم عليه الذي قدره الطبيب الشرعي في
تقريره هو سنه يوم وتاريخ إجراء الكشف الطبي عليه في حين كان ينبغي على الطبيب
تقدير سن المتهم يوم وتاريخ ارتكابه الجريمة وبالتالي لا يصح التقرير في ذاته
سبباً لتقدير سن المتهم في تاريخ ارتكابه الجريمة الذي هو المعتبر قانوناً وتبعاً
لذلك فإن الحكم المطعون فيه قد بٌني على مجرد الافتراض و الترجيح لا على القطع و اليقين لان تقدير الطبيب الشرعي لسن
المحكوم عليه لا يؤدى حتماً من حيث قوته التدليلية إلى ما حكمت به المحكمة كما لا
يكفي التقرير الطبي للنتيجة التي توصلت إليها محكمة الموضوع من دون أن تجرى في
الموضوع تحقيقاً موضوعياً جدياً على النحو الذي حدده القانون وعلى النحو الذي
حددته المحكمة العليا في حكمها السابق , وبالتالي فقد ثبت أن محكمة الاستئناف لم
تجر تحقيقاً موضوعياً جدياً في المسألة
المعادة إليها من المحكمة العليا طبقاً للقانون مما يستوجب نقض حكمها , وبناءً على
ذلك فإن محكمة الاستئناف قد خالفت في حكمها المطعون فيه صريح وصحيح القانون في
المادة (452) إجراءات التي أوجبت عليها ان تتبع حكم المحكمة العليا حيث نصت المادة
المذكورة صراحة على انه ( إذا كان نقض الحكم مبنياً على مسألة قانونية وجب على
محكمة الموضوع التي أعيدت إليها الدعوى ان تتبع حكم محكمة النقض في هذه المسألة )
وهو ما لم تتقيد أو تلتزم به محكمة الاستئناف , فكان حكمها مستحقاً للنقض ) وتبعاً
لذلك فالحكم معيب ظاهر البطلان ومبعث ذلك مخالفة الحكم للقانون وقرار المحكمة
العليا ولما كان الأمر كذلك فيتعين القول بأن طعن الطاعن سديد وفي محله مما يستوجب
نقض الحكم المطعون فيه).
وللتعليق
على هذا الحكم أوجه كثيرة أهمها:-
أولاً:-
أن الطعن بالنقض أمام الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا قد كان للمرة الثانية ومع
ذلك لم تفصل الدائرة في الموضوع كما هو الحال في الطعون المدنية والتجارية عندما
يكون الطعن بالنقض للمرة الثانية وذلك مسلك سديد للدائرة ، فما كان لها أن تفصل في
الموضوع، لأن قانون الإجراءات الجزائية لا يخول لها ذلك بخلاف قانون المرافعات
المدنية والتجارية الذي ينص على أن المحكمة العليا تفصل في الموضوع إذا كان الطعن
بالنقض للمرة الثانية لأن هناك اختلاف جوهري بين المصالح التي تحميها الدعاوى
الجزائية وتلك المصالح التي تحميها الدعاوى المدنية والتجارية ولا مجال لبيان ذلك في هذا التعليق الموجز.
ثانياً:-
من أسباب نقض الدائرة الجزائية للحكم
الاستئنافي المطعون فيه هو عدم اتباع المحكمة الاستئنافية لتوجيهات الدائرة التي
تضمنها حكمها السابق التي أوجبت على محكمة الاستئناف الالتزام بها , وهذا أيضاً
مسلك سديد حيث كان يجب على محكمة الموضوع الالتزام بتوجيه المحكمة العليا الوارد
ضمن حكمها بإحالة القضية إلى محكمة الموضوع , وهذا ما استقر عليه الفقه والقضاء في
العالم وقد نصت عليه كثير من قوانين الإجراءات بما فيها القانون اليمني – فإذا ما
خالفت محكمة الموضوع توجيهات المحكمة العليا فإن حكمها يكون عرضةً للنقض.
ثالثاً:-
من أسباب نقض الدائرة للحكم الاستئنافي أن تقرير الطبيب الشرعي قد اقتصر على بيان
سن المتهم في تاريخ قيام الطبيب بإجراء الكشف الطبي على المتهم وليس في تاريخ
ارتكابه للجريمة- وهذا تسبيب غير سديد- حيث ان الطبيب عند إجرائه الكشف الطبي يجب
عليه إبداء النتائج التي يتوصل في وقت إجراء الكشف وفي ذلك التاريخ ، وهذا ما صنعه
الطبيب الشرعي في هذه القضية حينما أفاد في تقريره بسن المتهم في تاريخ إجراء
الكشف عليه، وكان على الدائرة الجزائية استنتاج سن المتهم يوم ارتكابه للجريمة عن
طريق إجراء عملية حسابية بسيطة ليست من المسائل الفنية التي تستدعي إعادة المهمة
إلى الطبيب الشرعي مرة أخرى.
رابعاً:-
من أسباب الحكم محل تعليقناً ان محكمة
الموضوع اكتفت بإحالة المتهم إلى الطبيب الشرعي ولم تجر تحقيقاً موضوعياً جدياً
بنفسها في مسألة دفع المتهم بأنه لم يبلغ سن المسئولية الجنائية الكاملة وفقاً للقانون
عند ارتكابه الجريمة – وهذا التسبيب سديد حيث كان ينبغي على محكمة الموضوع ألا
تكتفي بتقرير الطبيب الشرعي عملاً بمبدأ تساند الأدلة فكان من اللازم عليها وفقاً
لذلك المبدأ الوقوف على الوثائق التي تتضمن سن المتهم كبطائق الهوية أو العمل أو الوظيفة أوالبطاقات الحزبية وكذا
الشهادات الدراسية وغيرها من الوثائق التي تتضمن السن والتي لا يتسع المجال
للإشارة إليها هنا كما كان ينبغي على محكمة الموضوع الاستماع إلى إفادات بعض
الجهات المختصة في المنطقة التي ولد ونشأ فيها المتهم وكذا شهادات الأشخاص الذين عاش
المتهم في محيطهم وغير ذلك لا سيما وأن المادة (216) إجراءات قد نصت على أنه ( لا
يكون تقرير الخبير ملزماً للنيابة العامة أو المحكمة ولكن قرار عدم الموافقة على
التقرير يجب أن يكون مسبباً ويجوز طلب تقرير إضافي من الخبير نفسه أو من خبير أخر
إذا احتوى التقرير الأول على أوجه نقص كما يجوز طلب تقرير جديد من خبير أخر إذا
ثار شك حول صحة التقرير الأول ووفقاً لهذا
النص ينبغي على محكمة الموضوع طلب الخبير الطبيب باستيفاء أوجه القصور إن وجدت ،
كما أنه من المعلوم أن إحالة المتهم واجبة إلى الطب الشرعي لتحديد سنه إذا ما ادعى
المتهم عدم بلوغه سن المسئولية الجنائية طبقاً للمادة (208) إجراءات التي نصت على
أنه ( يكون طلب تقرير الخبير وجوبياً في الأحوال الآتية : - د – لبيان سن المتهم
في حالة ما يكون ذلك مهماً للقضية ولا توجد مستندات تثبت سنه ) والنص واضح في أن
الإحالة إلى الطبيب لا تكون عند عدم توفر مستندات تثبت السن والمستندات المذكورة في النص عامة لا تقتصر على شهادات الميلاد حيث
تندرج ضمن هذه المستندات بطاقات الهوية وشهادات الدراسة وغيرها من المستندات وبغض
النظر عن الهدف من إنشاء هذه المستندات ، ولو أرشدت المحكمة العليا محكمة الموضوع
تفصيلاً إلى ما ينبغي عليها استيفائه وبصفة تفصيلية لما طال الأخذ والرد والتجاذب
في هذه القضية بين محكمة الموضوع والمحكمة العليا ولحقق ذلك مبدأ الاقتصاد في
إجراءات التقاضي , وفي هذا الشأن كان يتوجب على المحكمة العليا أن ترشد قاضي
الموضوع إلى ذلك في حكمها المتضمن إحالة القضية إلى قاضي الموضوع حسبما هو متبع في
محكمة النقض بمصر وفرنسا وإيطاليا.
خامساً:-
لم تطمئن المحكمة العليا في حكمها محل تعليقنا إلى ما تضمنه تقرير الطبيب الشرعي
بشأن سن المتهم , وحقٌ لها ألا تطمئن لأسباب شتى منها ان الطبيب الشرعي فرد أو
واحد ، وشهادة الواحد لا تقبل إلا إذا
ساندتها أدلة أخرى , ولو اتبعت النيابة العامة و القضاة الجزائيون في اليمن طريقة
إحالة المواضيع التي تحتاج إلى خبرة طبية إلى لجنة طبية تضم ثلاثة أشخاص على الأقل
وهم الطبيب المختص ورئيس القسم المختص و المسؤل الإداري عن الإدارة أو المستشفى
كما هو متبع في مصر وفرنسا وغيرها , لأطمئن القضاء إلى إفادات الطب في مسائل الخبرة التي تحال إلى
الأطباء.
سادساً:- الحكم محل تعليقنا لا يخلو من القسوة , فالمتهم
مهدد بالإعدام و التقرير الطبي يفيد بأنه لم يبلغ سن المسئولية الجزائية عند
ارتكابه للجريمة و الظروف التي تمت فيها الجريمة كل تلك المسائل تثير شكوكاً كان
يتوجب على هذا الحكم أن يفسرها لمصلحة المتهم الذي يشبه في كونه حدثاً غير البالغ
عملاً بقاعدة ( الشك يُفسر لمصلحة المتهم ) – لاسيما وأحكام الإعدام على الأشخاص
الذين يشتبه في أنهم أحداث تسبب للقضاء
خاصة ولليمن عامة حرجاً بالغاً أمام المنظمات الدولية المعنية
بالطفولة و العدالة وهذا الأمر غير خافٍ على أحد , وعلى كل حال فهذا اجتهاد
من القضاء نحترمه وان كنا نخالفه.
,,, والله من وراء القصد,,,