لا يجوز الاجبار على استكمال اجراءات البيع والشراء
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الاستاذ بكلية الشريعة والقانون –
جامعة صنعاء
العقود
تقوم على قاعدة الرضاء فلا يجوز اجبار احد الاطراف على التعاقد،هذه المسألة مفهومة
لا تحتاج إلى تعليق أو تنويه ،لكن نطاق الرضاء في التعاقد هو الذي يثير إشكاليات
تحتاج إلى تنويه وتعليق، مثل الوعد بالتعاقد ومباشرة الإجراءات التمهيدية للتعاقد
كالمفاوضات وتبادل المذكرات أو خطابات النوايا فيما بين المتعاقدين وتوريد البضاعة
إلى مخازن الراغب بالشراء قبل الاتفاق النهائي على الثمن مثلما حصل في القضية التي
تناولها الحكم محل تعليقنا، وهو الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا
في جلستها المنعقدة بتاريخ 19/1/2014م في الطعن رقم (53723) وتتلخص وقائع القضية
التي تناولها هذا الحكم ان مؤسسة حكومية تفاوضت مع شركة خاصة بشأن شراء أدوات
ومواد لازمة لنشاط المؤسسة الحكومية عن طريق الأمر المباشر، وفي اثناء المفاوضات
لم يتم حسم امر ثمن البضاعة المراد شراؤها فقامت الشركة الخاصة بتوريد البضاعة
المطلوبة إلى مخازن المؤسسة الحكومية حيث قامت الادارة المختصة بالموسسة بفحص
البضاعة بموجب محضر رسمي وبعدها تم ايداع البضاعة في مخازن المؤسسة الحكومية بموجب
محضر رسمي تم التوقيع عليه من قبل المختصين في المؤسسة الحكومية، وبعد ذلك نشب
الخلاف فيما بين المؤسسة العامة والشركة الخاصة، وقد توصلت المحكمة الابتدائية إلى
الحكم بالزام المؤسسة العامة بدفع قيمة البضاعة الموردة إلى مخازنها باعتبارها
بضاعة مستعملة وذلك بما يقدره خبيران
عدلان وفقاً لسعر السوق في زمان ومكان توريدها والزام المؤسسة بتسليم تلك القيمة للشركة المذكورة بالإضافة إلى دفع مبلغ قدره ثمانون الف ريالا
للشركة الخاصة، وقد ورد ضمن اسباب الحكم الابتدائي (بل ان هذه المحكمة ترى ان اساس النزاع هو سعر السوق بالنسبة للبضاعة
الموردة الى مخازن المؤسسة وذلك منذ بداية الخلاف فيما بينهما لان البضاعة مستعملة
وقيام الشركة بتوريدها إلى مخازن المؤسسة المدعى عليها بعد ان تم فحصها ورفع اكثر
من تقرير وقيام المؤسسة بعد الفحص بايداعها مخازنها من دون اتفاقهما على الثمن،
فهذه الظروف والقرائن تدل دلالة واضحة على ان ارادتهما المشتركة قد اتجهت الى
اعتماد سعر السوق لمثل تلك البضاعة الموردة) فقامت المؤسسة العامة باستئناف الحكم
الابتدائي حيث قامت الشعبة التجارية بتعديل فقرة واحدة من الحكم الابتدائي وهي
الخاصة بتحديد ثمن البضاعة وعدم تعليقه بتقرير الخبراء حيث كلفت الشعبة احد
الخبراء بتثمين البضاعة قبل ان تصدر حكمها حتى لا يكون الحكم معلقاً على تقرير الخبير المثمن، فلم تقبل المؤسسة
العامة بالحكم الاستئنافي فقامت بالطعن فيه بالنقض فقبلت الدائرة التجارية الطعن
ونقضت الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن اسباب حكم المحكمة العليا (وحيث ان محكمة أول
درجة قد توصلت إلى أن النية المشتركة للطرفين قد اتجهت الى أن البيع والشراء
للبضاعة كان بالأمر المباشر وان البيع قد انعقد ولم يبق الا تحديد ثمن البضاعة
الذي كان محل خلاف بين الطرفين وان ارادتهما قد اتجهت أيضاً إلى تقديره بحسب سعر
السوق وحيث ان الحكم الابتدائي قد حكم بالزام المؤسسة بدفع قيمة البضاعة بحسب ما
يقدره خبيران عدلان وحيث ان الشعبة الاستئنافية قد قامت بتعيين خبير عدل لتثمين
البضاعة وبموجب ذلك حكمت الشعبة للشركة بالمبلغ الذي توصل اليه الخبير العدل، إلا
أن الدائرة تجد أن عقد البيع من العقود الرضائية له اركانه وشروطه (تجارة عن تراض)
فكان على الشعبة امعان النظر والتحقق من توافق ارادة الطرفين من خلال دراسة
مرحلة التفاوض بين الطرفين للوقوف
على ارادتهما التي سبق لهما التعبير
عنها وان نيتهما المشتركة قد اتجهت إلى تحديد ثمن البضاعة بحسب سعر السوق واستناد الحكم الى ذلك،اما استدلال الحكم
المطعون فيه بالمادة (512) من القانون المدني على ان نية الطرفين قد اتجهت الى سعر
السوق فغير مستساغا فقد ابان كل طرف عن ارادته في تحديد الثمن بما لا يستساغ معه
اللجوء الى استنتاج ارادة الطرفين خلافاً لارادتهما الظاهرة إضافة إلى انه لا يمكن
اللجوء إلى سعر السوق إلا عندما تكون البضاعة جديدة غير مستعملة مما يتعذر معه
الرجوع إلى معيار سعر السوق واعمال المادة المذكورة، فاللازم المزيد من بذل الجهد
والتحري لتطبيق احكام القانون على واقع النزاع) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب
ماهو مبين في الأوجه الأتية :
الوجه الأول : حكم مقدمات العقد والتفاهمات والمفاوضات السابقة على العقد :
العقد هو التقاء
ارادتين عن طريق صيغة البيع التي تتحقق عن طريق الايجاب والقبول المتطابقين
الصادرين ممن تتوفر فيهما الشروط الشرعية والقانونية للتصرف حيث يكون العقد نافذا
أو ناجزاً بتمام الصيغة المعتبرة للبيع، حيث يكون العقد ملزماً لطرفيه يجب عليهما
الوفاء بالالتزامات التي يرتبها هذا العقد على طرفيه وذلك بقيام البائع بتسليم
المبيع والمشتري بتسليم الثمن المتفق عليه، فاذا اخل احدهما بالتزامه فيجوز حمله
على القيام به عن طريق القضاء لالزامه على تنفيذ التزامه العقدي، هذا بالنسبة لعقد
البيع متى اكتملت اركانه وشروطه، اما الاجراءات والمفاوضات والتفاهمات السابقة على
العقد فهي عبارة عن مقترحات وتوصيات وخطابات نوايا او تفاهمات ومفاوضات تمهيدية
لإبرام العقد فلا تكون الاراء فيها جازمة حتى يتم التعويل او الاعتماد عليها، غير
انه اذا اسفرت تلك المفاوضات والمذكرات المتضمنة خطابات النوايا عن وعد بالتعاقد
فيحق للموعود ان يطالب بتعويضه اذا لم يتم
التعاقد معه بدون مسوق مقبول هذا في القانون، اما في الشريعة الاسلامية فان الوعد
بالعقد غير ملزم عند غالبية الفقه الاسلامي مع انه علامة من علامات المنافق، وعند
تطبيق هذا المفهوم على القضية التي تناولها
الحكم محل تعليقنا نلاحظ ان الاجراءات التي كانت تتم فيما بين المؤسسة
الحكومية والشركة الخاصة هي عبارة عن خطابات نوايا وابداء رغبات بشأن شراء المؤسسة
من الشركة مواد او بضاعة غير ان توريد البضاعة الى مخازن المؤسسة وقبولها رسمياً
بذلك قد جعل العملية اكثر من مجرد تفاهمات او مفاوضات، ولذلك قضى الحكم الابتدائي
بانعقاد البيع عن طريق قبول المؤسسة البضاعة لان الارادتين قد التقيا عن طريق
الايجاب والقبول والمعبر عنه في قبول المؤسسة للبضاعة فلم يبق من وجهة نظر الحكم
الابتدائي إلا تحديد سعر البضاعة حيث قضى الحكم بان يتم تحديده عن طريق خبراء عدول
وبحسب سعر السوق لأن ارادة الطرفين قد اتجهت إلى تحديد سعر البضاعة بحسب السعر
السائد في السوق إلا ان الحكم الابتدائي كان معلقاً على الثمن الذي سوف يحدده
الخبراء العدول، ولذلك قررت الشعبة التجارية ندب خبير لتثمين البضاعة والزام
المؤسسة بدفع الثمن الذي حدده الخبير،في حين ذهب حكم المحكمة العليا إلى نقض الحكم
الاستئنافي لانه قد أوجب على المؤسسة شراء البضاعة بالثمن الذي توصل اليه الخبير
حيث صادر الحكم الاستئنافي خيارات وفرص على المؤسسة في الحصول على سعر يناسبها.
الوجه الثاني : صدور التراضي في عقد البيع :
من خلال العرض السابق في الوجه الأول وتحديداً الاجراءات التمهيدية السابقة للعقد نجد ان حرية المتعاقد تكون مطلقة فهو حر في الشراء من أي شخص يشاء وبالسعر الذي يريد، وان كانت هذه الحرية مطلقة للشخص الطبيعي الا انه بالنسبة للجهات الحكومية تكون حرية المتعاقد في المرحلةالسابقة للعقد ايضا غير مطلقة فهذه الجهات مقيدة باتباع اجراءات معينة قبل اتمام البيع والشراء (المزايدة والمناقصة) حيث تكون الجهات الحكومية ملزمة قبل التعاقد باتباع اجراءات قانونية صارمة بمقتضى قانون المزايدات والمناقصات وغيره ( لجان، ومحاضر، ومناقصات، ...الخ) وكذلك فأن الشركات النظامية الخاصة تضع لوائح ونظم خاصة للبيع والشراء وعندئذ يجب على موظفيها اتباع هذه الاجراءات قبل التعاقد اما الافراد الطبيعيون فهم احرار حرية مطلقة في اجراء المساومات والمفاوضات مع البائعين للحصول على السعر المتوازن الذي يرضي البائع والمشتري وهو ما عبر عنه الله تعالى بقوله { إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ } [سورة النساء 29] وهي الآية التي استدل بها حكم المحكمة العليا، اما بعد ابرام العقد فتتقلص حرية المتعاقدين حيث يصير العقد ملزماً لطرفيه مرتبا لاثاره ،فيتحمل كل طرف مسئولية الاخلال بالتزاماته العقدية مع مراعاة انه في الشريعة الاسلامية والقانون اليمني تظل للارادة بعض مظاهر الحرية حتى بعد تمام العقد وذلك عن طريق تطبيق الخيارات كخيار العيب والشرط وغيرهما.
الوجه الثالث : تحديد الثمن عند الاختلاف بشأنه :
كان جانب من الخلاف فيما بين المؤسسة العامة والشركة الخاصة في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا بشأن مدى صحة البيع في حالة اختلاف الطرفين بشأن الثمن مع اتفاقهما على تحديد أسس لتقدير الثمن حيث كانت المادة (512) مدني مثار النقاش والبحث في الأحكام الثلاثة الابتدائي والاستئنافي والعليا، لان المادة (512) قد قررت بان عقد البيع لايتم اذا لم يتفق الطرفان على تعيين الثمن أو لم يتفقا على الاسس التي يتم اعتمادها لتقدير الثمن، وبناءً على ذلك فقد ذهب الحكمان الابتدائي والاستئنافي إلى صحة البيع لان المؤسسة والشركة وان لم تتفقا على تعيين الثمن بمبلغ معين الا انهما قد اتفقا على الاسس التي يتم بموجبها تقدير ذلك الثمن وهو سعر السوق السائد وقت التوريد إلى مخازن المؤسسة، في حين ذهب حكم المحكمة العليا إلى ان تحديد الثمن على أساس سعر السوق غير ممكن في هذه القضية لان البضاعة كانت مواد مستعملة والمواد التي تباع في السوق جديدة وتبعاً لذلك لا تنطبق المادة (512) مدني على النزاع حيث تنص هذه المادة على أنه (يجوز ان يقتصر تقدير الثمن على بيان الاسس التي يحدد بمقتضاها كسعر السوق في مكان وزمان تسليم المبيع او السعر المتداول في التجارة أو السعر الذي جرى عليه التعامل بين المتعاقدين واذا لم يحدد المتعاقدان الثمن وتبين من الظروف انصراف نيتهما المشتركة إلى سعر بذاته كسعر السوق أو السعر المتداول في التجارة أو السعر الذي جرى عليه التعامل بينهما صح البيع على هذا الأساس) إضافة إلى أن حكم المحكمة العليا يقرر أن هذه المادة لاتنطبق على النزاع، لأن نية كل من الموسسة والشركة المتنازعتين لم تتجه الى تحديد الثمن على أساس الثمن السائد في السوق حيث كان الثمن محل خلاف بينهما فكان كل طرف يحدد الثمن بطريقة مختلفة تماما عن طريقة الطرف الآخر فلم تظهر نيتهما المشتركة على تحديد اسس ثمن البضاعة فلم يظهر ذلك من خلال المرحلة السابقة للعقد، ولذلك فقد أرشد حكم المحكمة العليا محكمة الموضوع بدراسة خطابات النوايا السابقة على العقد للوقوف على النية المشتركة الطرفين، والله اعلم.