جريمة الإمتناع عن سداد مستحقات الوقف


جريمة الإمتناع عن سداد مستحقات الوقف

أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

اموال الوقف ملك الله تبارك وتعالى خالدة تالدة لا تباع ولا تشترى حتى يرث الله الأرض ومن عليها هذه العبارة الجليلة نجدها في وقفيات الواقفين في اليمن، فهذه العبارة تظهر خصوصية أموال الوقف التي تميزها عن غيرها من الاموال، ومن مظاهر خصوصية أموال الوقف ان الإمتناع عن دفع مستحقات الوقف يعد جريمة يعاقب عليها الشرع والقانون، في حين ان عدم دفع المستحقات في غير الوقف يكون مسألة مدنية يفصل فيها القضاء المدني فلا يعد ذلك جريمة، وقد اظهر الحكم محل تعليقنا كيفية قيام جريمة الإمتناع عن دفع مستحقات الوقف وكيفية تطبيق عقوبتها، فالحكم محل تعليقنا هو الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 15/7/2018م في الطعن رقم (60457) حيث قضت المحكمة الابتدائية بإدانة المستأجر من الأوقاف بالتهمة المسندة إليه في قرار الإتهام وهي تهمة الإمتناع عن سداد مستحقات الوقف وإلزامه بدفع ما عليه لمكتب الأوقاف وذلك مبلغ... وحبس المدان مدة ثلاثة أشهر تبدأ من تاريخ القبض عليه، وقد ورد ضمن أسباب الحكم الابتدائي (ان الواقعة قد استقام دليلها المتمثل في تقرير إدارة الإيرادات لمكتب الاوقاف والمذكرات  التي اثبتت عدم قيام المتهم بالتسديد لمستحقات الوقف وكذا امتناعه بصفته اجير للوقف عن الحضور لمكتب الأوقاف وكذا امتناعه عن الحضور امام النيابة والمحكمة، وتلك قرائن تدل على تهرب المتهم وامتناعه عن سداد إيجارات الوقف المستحقة بذمته مما يستوجب عقوبته) وقد قضت الشعبة الجزائية بتأييد الحكم الابتدائي وكذا أقرت الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا (حيث ثبت أن الطاعن قد  امتنع عن دفع مستحقات الوقف ولم يحضر إلى مكتب الأوقاف والنيابة ومحكمة أول درجة وحيث أن محكمة أول درجة قد حكمت عليه ورفضت معارضته في الحكم وحيث أنه قد استأنف حكم محكمة أول درجة فرفضت محكمة الاستئناف استئنافه، ولذلك فان دفع مكتب الأوقاف في محله مما يستوجب رفض الطعن وإقرار الحكم الاستئنافي) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :

الوجه الأول : التجريم والعقاب للإمتناع عن سداد مستحقات الأوقاف :

من خلال مطالعة الحكم محل تعليقنا لاحظنا أن الحكم الابتدائي قد ادان المتهم بإرتكاب هذه الجريمة لانه امتنع عن سداد غلال الأرض الزراعية التي استأجرها من الأوقاف وقد أيدت ذلك الحكم الشعبة الجزائية وأقرته الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا،وقد استند الحكم في ذلك إلى الفقرة (ب) بند (5) من المادة (87) مكرر من قانون الوقف الشرعي التي نصت على ان (يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات أو بغرامة لا تزيد على ثلاثمائة الف ريال: 5-كل من امتنع عن سداد مستحقات الأوقاف لمدة تزيد على عام بالنسبة للمعمورات أو أراضي البناء والإستثمار وعامين بالنسبة للأراضي الزراعية) فمجال التجريم   والعقاب وفقا لهذا النص قاصر على الإمتناع عن دفع مستحقات الوقف كالايجار أو مقابل الماذونية عند نقل الوقف من اجير إلى اجير ، فليس لهذا النص نظير فيما يتعلق بمستحقات الافراد ،فمثلا امتناع المستأجرين من الاشخاص  عن سداد الايجار المستحقة للمؤجرين  لايعد جريمة وانما يكون مسألة مدنية تختص بنظرها المحكمة المدنية، وعلى هذا الأساس فان النص خاص بمستحقات الأوقاف إذا امتنع المستأجر عن سدادها.

الوجه الثاني: موقف الفقه الإسلامي من عقوبة إمتناع المستأجر للوقف  عن سداد الاجرة أو حقوق الوقف الاخرى:

يذهب غالبية الفقه الإسلامي إلى جواز حبس الممتنع عن دفع الحق إلى صاحبه مع قدرته على الدفع،فالغرض من الحلي حمل الممتنع  على دفع ما بذمته للغير طالما وهو قادر على الدفع، فالمستأجر للوقف القادر على الدفع اولى بالعقوبة لعظم جراءته على الوقف وعدم خشيته من الله، فان الله يزع بالسلطان من لا يزع بالقران، كما ان الممتنع عن دفع مستحقات الوقف معطل للقربات والمبرات والاعمال الخيرية التي ابتغاها الواقفون ،فقد يكون المستأجر الممتنع مانع لمساجد الله كما جاء في قوله تعالى { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ...} [سورة البقرة 114] فالممتنع عن دفع حقوق الوقف التي تصرف على المساجد يكون مانعاً لها ( احكام الوقف، الشيخ محمد ابو زهرة، صـ154).

الوجه الثالث: بما يتحقق الإمتناع عن دفع حقوق او مستحقات الوقف:

لتطبيق النص السابق ذكره المجرم  لإمتناع المستأجر عن دفع مستحقات الوقف فان ذلك يقتضي وجود حق ثابت بذمة المستاجر للأوقاف امتنع المستأجر أو غيره عن دفع هذا الحق، وهذا الأمر يستلزم ان يكون هناك حقا ثابتا موكدا للأوقاف بذمة المستاجر،فيكون هذا الحق ثابتا بالطرق المقررة قانوناً، ولذلك فقد لاحظنا ان القاضي الابتدائي استند في اسباب حكمه إلى المستندات المقدمة من الأوقاف التي تثبت وجود حق الاوقاف وثبوته بذمة المستاجر ومنها التقارير الصادرة من إدارة الإيرادات بمكتب الأوقاف والمذكرات والإخطارات والتكليفات الموجهة من الاوقاف للمستأجر بدفع الأجرة المستحقة وكذا الإعلانات والإخطارات التي كان مكتب الاوقاف يخاطب بها المستاجر ويكلفه بالحضور إلى المكتب ولكنه كان يتخلف عن ذلك ،بالإضافة إلى ان هذه المحررات قد اثبتت أيضا مقدار الإيجار المستحق للأوقاف بذمة المستاجر وان الأموال المؤجرة له ترد عليه غلال وفيرة وانه قادر على السداد إلا أنه متمرد وممتنع عن الدفع، ولذلك فان فعله يعد جريمة إمتناع عن سداد مستحقات الوقف المقررة في المادة (87) من قانون الوقف السابق ذكرها، والله اعلم.