إختصاص القضاء اليمني بنظر الجريمة التي في تقع الخارج
مبدأ إقليمية القانون الجنائي من المبادئ التي استقرت في القوانين الجنائية في مختلف الدول ،وقد نص عليه قانون الاجراءات اليمني، ويعني هذا المبدأ: ان القانون الجزائي اليمني لا يتم تطبيقه إلا على
الجرائم التي تقع في الإقليم اليمني ،وتبعاً لذلك فان
القضاء اليمني لايختص
بنظر الجرائم التي تقع خارج اليمن حتى لو كان الفاعل لها او المتهم فيها يمنياً، غير ان هذا المبدأ ليس مطلقاً وانما ترد عليه بعض الاستثناءات الإيجابية التي تقرر
إختصاص القضاء اليمني بنظر الجريمة التي تقع من اليمني خارج اليمن ومنها الحالة محل تعلقينا وهي حالة
عودة الجاني اليمني من الخارج إلى اليمن قبل أن ينال العقوبة المقررة للجريمة في قانون الدولة التي ارتكب الجريمة فيها
حسبما نص عليه قانون الاجراءات الجزائية اليمني، فتطبيق هذا النص
يثير إشكاليات حسبما ورد في الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في
جلستها المنعقدة بتاريخ 26/2/2018م في الطعن رقم (60062) ،وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان يمنياً تم اتهامه بقتل
زوجته اليمنية في إحدى الدول، ولاحقاً عاد الزوج المتهم إلى
اليمن من غير أن تتم محاكمته في تلك الدولة،فقام اولياء الدم
بتقديم شكوى إلى النيابة العامة فدفع المتهم بعدم إختصاص القضاء
اليمني بنظر القضية فأصدرت نيابة الاستئناف قرارا برفض الدفع وإنعقاد الاختصاص للقضاء اليمني، إستناداً إلى تقرير الطب الشرعي في اليمن الذي
دل على أن حادث القتل كان جنائيا ولم يكن عارضا ، فقام المتهم
باستئناف القرار إلا أن الشعبة الجزائية
أقرت قرار النيابة العامة، وقد ورد ضمن اسباب الحكم الاستئنافي (فقد تبين
ان المتهم الطاعن قد عاد إلى اليمن بعد حوالي (...) يوماً من الواقعة وقد نصت
المادة (246) إجراءات على أن تختص المحاكم
اليمنية بمحاكمة كل يمني ارتكب خارج إقليم الدولة فعلاً يعد
بمقتضى القانون جريمة اذا عاد إلى الجمهورية وكان الفعل معاقباً عليه بمقتضى قانون
الدولة الذي وقعت فيها الجريمة،وحيث نصت المادة(78)مرافعات على أن تختص المحاكم
اليمنية بالدعاوى المرفوعة على اليمني ولو لم يكن له موطن أو محل إقامة في اليمن فيما عدا
الدعاوى المتعلقة بعقار واقع في الخارج) وقد
أقرت الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن أسباب حكم
المحكمة العليا (اما من حيث الموضوع فان حاصل ما اثاره الطاعن على قرار محكمة
الاستئناف المؤيد لقرار نيابة
الاستئناف الذي قضى بإنعقاد الإختصاص
للقضاء اليمني في نظر القضية حيث ذكر الطاعن ان ذلك القرار قد خالف
نصوص المواد (446 و 447 و 449) إجراءات، وبعد التأمل تجد الدائرة ان القرار محل
الطعن قد اعمل نصوص المواد ذات العلاقة في القانون مع وقائع هذه القضية إعمالاً
صحيحاً، لان الفعل المنسوب للطاعن معاقب عليه في قانون الدولة التي وقعت فيها الجريمة التي اجرت تحقيقات أولية في القضية
بالإضافة إلى عودة المتهم إلى أراض الجمهورية اليمنية بعد تاريخ الواقعة المشار
اليها، وبالتالي فان الفقرة الأولى من قرار النيابة
المؤيد بالحكم الاستئنافي محل الطعن بإنعقاد الاختصاص للقضاء اليمني بنظر القضية قد جاء موافقاً للقانون) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في
الأوجه الأتية:
الوجه الأول: مبدأ الإقليمية ووظائف الدولة:
تنص قوانين غالبية الدول على مبدأ الإقليمية وهو إختصاص القضاء
الوطني بنظر الجرائم التي تقع في إقليم الدولة أو مياهها او اجوائها او طائراتها
او سفنها او سفاراتها، ويرتبط هذا المفهوم بوظيفة الدولة في حفظ
الأمن العام والصحة العامة والسكينة العامة لكل من يقيم في إقليم الدولة أو ما في
حكمه، فالدولة هي المسئولة عن تحقيق الأمن العام في إقليم الدولة وحفظ الانفس
والأموال والأعراض وغيرها في الدولة ،ولا يتسنى للدولة القيام بذلك إلا اذا قامت بتطبيق احكام العقوبات على المخالفين للقوانين والأنظمة
النافذة في الدولة، ولذلك فان مبدأ الإقليمية يرتبط إرتباطاً جدلياً بوظائف
الدولة.
الوجه الثاني: إختصاص المحاكم
اليمنية بنظر الجريمة التي ارتكبها اليمني خارج البلاد إذا عاد إلى اليمن بعد إرتكاب الجريمة:
فقد نصت المادة (247)إجراءات على أن (تختص
المحاكم اليمنية بمحاكمة كل يمني ارتكب خارج إقليم الدولة فعلاً يعد بمقتضى
القانون جريمة اذا عاد إلى الجمهورية وكان الفعل معاقبا عليه بمقتضى قانون الدولة الذي ارتكبت فيه) فهذا النص يعد استثناء إيجاببا من مبدأ الإقليمية الذي يعني في هذه الحالة أن الاصل أن تتم محاكمة اليمني
امام قضاء الدولة التي وقعت الجريمة في إقليمها غير أنه يستثنى من ذلك المبدا
عودة الجاني اليمني الى اليمن، ويستند هذا الاستثناء إلى مبدأ الشخصية الذي يتيح للدولة التي ينتمي اليها الجاني ان تردعه بتوقيع
العقاب عليه فتتقي بذلك خطره، إذ أن تركها لمجرم يتجول في إقليمها دون
عقاب يهدد امنها (شرح قانون العقوبات، أ.د.محمود نجيب حسني، صـ 161) كما
ان هذا المبدأ يستند إلى ان الدولة التي يحمل جنسيتها
المتهم تتقي بمحاكمته امام محاكمها تتقي بذلك مطالبتها بتسليم مواطنها المتهم إلى
الدولة التي وقعت فيها الجريمة، فمحاكمة الدولة لمواطنها يجنبها تسليم رعاياها إلى الدول الأخرى،ولذلك فهي تقوم بمحاكمة الجاني العائد إليها أمام المحاكم
الوطنية حتى تتجنب المطالبة بتسليمه من الدولة التي وقعت فيها الجريمة، كما ان
سيادة الدولة تقتضي منحها الحق في الزام مواطنيها بالسلوك المطابق لقانونها الوطني اينما وجدوا حتى لو كانوا خارجها مما ينمي الشعور الوطني والهوية
الوطنية ويغرس في قلوب اليمنيين حب وطنهم وإحترام قوانينهم الوطنية.
الوجه الثالث: شروط محاكمة الجاني اليمني العائد أمام القضاء الوطني:
من خلال إستقراء نص المادة (247) إجراءات السابق
ذكره نجد ان هناك شروط لاختصاص القضاء اليمني بمحاكمة الجاني اليمني الذي ارتكب
الجريمة خارج اليمن وبعدها عاد إلى الأراضي اليمنية، ويمكن تلخيص هذه الشروط كما
يأتي:
1-
ان يحمل الجاني
الجنسية اليمنية وقت ارتكابه للجريمة بل حتى لو
اكتسبها بعد ارتكابه الجريمة طالما وهو يحمل الجنسية اليمنية عند تقديم الشكوى به
إلى الجهة المختصة في اليمن، فهذا الشرط هو أساس الاستثناء من مبدأ الإقليمية
حسبما سبق بيانه في الوجه الثاني، فيختص القضاء اليمني في هذه ولو كان الجاني يحمل جنسية أخرى بالإضافة إلى الجنسية اليمنية، ولذلك فقد قضى الحكم محل تعليقنا بإختصاص
القضاء اليمني مع ان المتهم كان يحمل الجنسية ... بالإضافة إلى الجنسية اليمنية.
2-
ازدواج التجريم في
القانون اليمني وقانون الدولة التي ارتكب اليمني الجريمة فيها: أي ان الفعل الذي
يقوم به اليمني يعد جريمة في القانون اليمني وقانون الدولة التي وقع فيها الفعل
مثل القتل حيث لاحظنا ان الحكم محل تعليقنا قد ذكر في أسبابه ان فعل القتل يعد
جريمة في القانون اليمني وقانون الدولة التي حدثت فيها
واقعة القتل، وتبعاً لذلك فلا يختص القضاء اليمني بنظر جرائم الزنا وشرب الخمر اذا
وقعت من اليمني في امريكا لان القانون الامريكي لا يجرم الزنا إلا اذا كان غصباً
أو بمتزوجة أو قاصرة أما شرب الخمر
فلايعاقب عليه الا اذا وقع ذلك
أثناء قيادة السيارة.
3-
ان يعود الجاني إلى اليمن: فقد لاحظنا
ان الحكم محل تعليقنا قد استند في اسبابه إلى هذا الشرط، فقد ورد
في أسباب الحكم أن المتهم قد عاد إلى
اليمن بعد إرتكابه للواقعة لان عودة الجاني إلى اليمن
هي التي تبعده عن يد السلطات الاجنبية، ولذلك ينبغي محاكمته أمام القضاء اليمني حتى لا يتيسر بعد ذلك تسليمه
إلى الدولة الاجنبية التي ارتكب الجريمة في اقليمها.
4-
ان لا تكون الدولة
التي وقعت فيها الجريمة قد حكمت في الجريمة بحكم بات
سواء بالادانة أو البراءة،ولذلك فأن الحكم محل تعلقينا قد اشار إلى ان سلطات الدولة التي وقعت فيها الجريمة قد اكتفت باجراء بعض التحقيقات
الاولية في القضية دون أن تقوم بإحالة
المتهم إلى المحاكمة،وقد ورد هذا الشرط في المادة (250) إجراءات.
الوجه الرابع: تحريك الدعوى الجزائية ضد الجاني في الخارج العائد إلى اليمن:
اشترطت المادة (249) إجراءات لتحريك الدعوى في هذه الحالة ان يتقدم
المضرور من الجريمة بشكوى أو ان تتقدم الدولة
الاجنبية التي وقعت فيها الجريمة ببلاغ رسمي ضد المتهم العائد، حيث تستند النيابة العامة إلى الشكوى أو
البلاغ في تحريك ورفع الدعوى الجزائية، ومقتضى ذلك انه لا
يجوز للنيابة العامة رفع وتحريك الدعوى إلا بموجب شكوى أو بلاغ، والله اعلم.