عفو اولياء الدم اذا بينهم قاصر

 

عفو اولياء الدم اذا بينهم قاصر

في حالات كثيرة يكون من بين اولياء الدم قاصر كالطفل فيقوم البالغون  بالعفو المطلق عن الجاني من غير دية حسبةً لله سبحانه وتعالى، ولا شك ان في العفو تنازل، والتنازل عن القاصر  لا يجوز لأن التنازل اسقاط فهو ضرر محض، ولذلك فقد اخترنا الاشارة إلى هذه المسألة في سياق التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 2/1/2018م في الطعن رقم (60036) ،وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان ثلاثة حراس للقات كانوا سامرين في المحراس وقبل انتهاء السمرة اراد احدهم الانصراف من المحراس وترك السمرة فاراد أحدهم  التعبير عن إمتعاضه لانصراف صديقه المجني عليه من السمرة فقام  بضرب كعب البندقية على الأرض فانطلقت منها طلقة قتلت الراغب بالانصراف على الفور، وقد شك اولياء الدم في أن واقعة القتل كانت عمدا فتقدموا إلى النيابة  التي قامت بتحريك الدعوى الجزائية ثم طلب اولياء الدم القصاص إلا أن المحكمة الابتدائية حكمت بدية القتل الخطا، وكذلك أيدت الشعبة الجزائية الحكم الابتدائي، واثناء نظر الدائرة الجزائية للطعن المقدم من اولياء الدم عفى اولياء الدم عفوا مطلقاً عن المتهم من غير دية وكان من بين اولياء الدم الطفل القاصر ابن القتيل، وقد قضت الدائرة الجزائية بموجب هذا التنازل  بسقوط الطعن المرفوع من قبل اولياء الدم  واعتباره سنداً تنفيذياً بما تضمنه حسبما في منطوق الحكم، وقد ورد ضمن اسباب حكم المحكمة العليا (واثناء نظر الدائرة للقضية عرض عليها تنازل اولياء دم المجني عليه عن القاتل لمؤرثهم وذلك التنازل محرراً بخط... وقد ذكر فيه حضور ورثة المجني عليه المذكور وهم والدته... وزوجته... وابنه القاصر... بتاريخ... وجاء في محرر التنازل ان الورثة قد قصدوا بالتنازل وجه الله تعالى وقد التزم الورثة بالإضافة إلى اخوان المجني عليه بدفع نصيب القاصر من الدية في حالة  بلوغه ومطالبته بنصيبه من دية والده، وقد انتقل امين سر محكمة استئناف محافظة... إلى قرية المتنازلين وهي قرية... حيث اقروا أمام امين السر بما تضمنه التنازل، وقد قام أمين السر بأخذ إقرارهم بصحة ماورد في تنازلهم وموافقتهم عليه) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الاتية:

الوجه الأول: تأثير عفو اولياء الدم على حق الصغير القاصر في القصاص:

من المعلوم شرعاً ان القصاص لا يتجزا ولذلك فهو يسقط بعفو  او  تنازل احد اولياء الدم مهما كان نصيبه من تركة القتيل ولذلك فان عفو البالغين من اولياء الدم عن القاتل يمس حق القاصر في طلب القصاص حينما يبلغ لأن حقه في القصاص يسقط بمجرد عفو أحد اولياء الدم البالغين، ولكن الشريعة الاسلامية رغبت وحبذت العفو فقد قال تعالى(فمن عفى واصلح فأجره  على الله ) كما أن فضيلة العفو في الشريعة الإسلامية فضيلة اجرها عظيم والنصوص الشرعية في هذا الباب كثيرة ،كما أن الفقه الاسلامي متفق على انه  لا يلحق بالعافين باذن الله اثم بتفريطهم بحق الطفل في طلب القصاص، ففي القضية التي تناولها الحكم محل تعلقينا ثبت من صيغة عفو او تنازل اولياء الدم انهم عفووا عن قاتل مؤرثهم إبتغاء وجه الله أي اجر من احيا النفس التي كانت ستقتل قصاصا وهي المذكورة  في قوله تعالى {..وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا...} [سورة المائدة 32] انظر (التشريع الجنائي الإسلامي، أ.د.عبدالمؤمن شجاع الدين، صـ142).

الوجه الثاني: تأثير عفو بعض اولياء الدم على حق القاصر في الدية:

الدية بخلاف القصاص حق قابل للتجزئة والتبعيض، ولذلك فان حق الطفل القاصر لا يسقط بتنازل بعض اولياء الدم عن حقهم في دية مؤرثهم ،فالدية تتوزع على اولياء الدم بحسب الفرائض الشرعية، ولذلك فإن عفو بعض اولياء الدم وان كان مسقطا للقصاص إلا أنه غير مسقط لحق الآخرين في الدية بمن فيهم القاصر.

الوجه الثالث: وقت إستحقاق القاصر لنصيبه من دية مؤرثه وعدم جواز دفع نصيب القاصر إلى يده:

يستحق الطفل القاصر نصيبه الشرعي في دية مورثه وقت تسليم الجاني للدية إلا أن الطفل الصغير بإعتباره قاصرا غير أهلا التصرف في المال فلا يجوز دفع نصيبه الشرعي من الدية إلى يده  طالما وهو لا زال قاصرا لم يبلغ فليس له الأهلية اللازمة للتصرف بالمال فهو ممنوع من التصرف في المال لانه  لا يحسن إدارة المال وتصريفه.

الوجه الرابع: إيداع نصيب القاصر من دية مؤرثة في بنك غير ربوي أو إستثماره بأذن المحكمة واشرافها ورقابتها:

نظراً لعدم جواز تسليم الطفل نصيبه من دية مؤرثه كونه غير أهلاً  للتصرف بالاموال  وادارتها فإن نصيب الطفل من الدية تتم ادارته بإشراف المحكمة المختصة مكانياً التي تتولى الإشراف والرقابة على كيفية إدارة الولي أو الوصي  أو المنصب على الطفل لأمواله ومن ضمنها نصيبه من دية مؤرثه ،ولذلك يجب إستثمار مال الطفل القاصر في مشاريع استثمارية مشروعة مضمونة الارباح لاتتضمن المخاطرة بأموال الطفل   على أن يتم ذلك بإشراف ورقابة المحكمة المختصة مكانياً، (رقابة القضاء على اموال القاصرين، أ.د.عبدالمؤمن شجاع الدين، بحث محكم منشور في مجلة الدراسات الشرعية، جامعة الازهر، صـ19).

الوجه الخامس: حق الصغير في مطالبة من التزم بدفع نصيبه من دية مؤرثه ،وكيفية إحتساب مقدار نصيب القاصر ،هل يحتسب بحسب مقدار الدية في تاريخ إستلام البالغين للدية ام في تاريخ الدفع   إلى الطفل بعد بلوغه:   

من خلال مطالعة الحكم محل تعليقنا نجد ان البالغين من اولياء الدم واعمام الطفل القاصر قد التزموا بموجب وثيقة العفو عن قاتل مؤرثهم التزموا بدفع نصيب الطفل القاصر من دية أبيه اذا ما بلغ الطفل وطالب حينها بالدية، وعندئذ يثور التساؤل عن كيفية تقدير نصيبه من الدية لاسيما وان الدية في القانون اليمني مقدرة بالعملة الوطنية الورقية التي تتدهور قيمتها باستمرار، فالرأي المناسب في هذه المسالة ان يتم تقدير نصيب القاصر في هذه الحالة  بحسب مقدار الدية يوم إستحقاق الصغير لها وليس بحسب مقدارها في تاريخ سداد نصيب الصغير بعد بلوغه ويجب استثمار المبلغ حتى لاتستهلكه الزكاة وتقل قيمته بمرور الوقت  ،وبالنسبة للقضية التي  تناولها الحكم محل تعلقينا فقد لاحظنا أن  عفو البالغين قد كان من غير مقابل أي من غير دية، فالورثة البالغون محسنون بالعفو، والله يقول في

كتابه { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [سورة التوبة 91]والله اعلم.

أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء