متى يجوز الرجوع عن الهبة؟

 

متى يجوز الرجوع عن الهبة؟

أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين

الاستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء 

تتداخل الهبة في الواقع اليمني مع مصطلحات عدة منها (التنازل والوصية والنفقة والخدمة ...الخ) وفي   حالات اخرى لا تكون الهبة محضة وانما ينطوي ضمنها تصرف اخر كالبيع والاجارة اي ان هناك مقابل للهبة, وهذا يفسر ظهور مصطلح الهبة التبرعية والهبة غير التبرعية في اليمن, علاوة على ان الواهب قد يكون له غرض مشروع من الهبة  وقد لايكون له ذلك ؛ كما قد يشترط الواهب شروطا معينة لنفاذ الهبة, فكل هذه المسائل تتعلق بالرجوع في الهبة, ومن العجيب ان قضايا الرجوع عن الهبة كثيرة جدا في الواقع العملي نلاحظها عند تنازل الوارث عن نصيبه في تركة ابنه المتوفي في اثناء حياة ابيه وغير ذلك, ولذلك فان هذه المسألة يكثر السؤال عنها والاحتياج لها, ولذلك اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 19/3/2011م في الطعن المدني رقم (42299) لسنة 1432هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان اشقاء تنازلوا عن نصيبهم الشرعي في منزل مكون من طابقين وقد تضمنت وثيقة التنازل ان يصير الدور الاعلى لشقيقهم المتنازل له وان يصير الدور الارضي لشقيقتيهم المتنازل لها وذلك لغرض ان يسكن الشقيق  والشقيقة في المنزل الا انه بعد حين اختلف الشقيق مع الشقيقة حيث كانت الشقيقة تسعى للاستحواذ على المنزل كاملا وعلى خلفية هذا النزاع غادرت الشقيقة المنزل للإقامة في محافظة اخرى وعلى خلفية هذا النزاع قام الشقيق والشقيقة بعرض المنزل للبيع ؛ وعندئذ تقدم الاشقاء المتنازلون بدعواهم امام المحكمة الابتدائية حيث اعلنوا في الدعوى وصرحوا بانهم قد تراجعوا عن تنازلهم لان الغرض من ذلك التنازل هو المحافظة على روح الاخوة بين جميع الاشقاء وكذا اسكان الشقيق والشقيقة في المنزل وبما ان الشقيق والشقيقة يريدا بيع المنزل والشقيقة لم تعد تسكن في المنزل لذلك فان الاشقاء المتنازلين قد رجعوا عن تنازلهم ويطلبوا من المحكمة تقسيم المنزل المشار اليه بينهم بحسب الفرائض المقررة شرعا فردت الشقيقة على الدعوى بانها غادرت المنزل لانه  ايل للسقوط ؛ وقد حكمت المحكمة الابتدائية بصحة رجوع الاشقاء عن التنازل عن المنزل وتقسيمه بين الورثة بحسب الفرائض الشرعية, وقد جاء في اسباب الحكم الابتدائي (وحيث ان التنازل في هذه القضية يكون حكمه حكم الهبة وحيث ان المدعين قد تنازلوا للمدعى  عليهما وحيث اتضح ان المدعى عليها لا تسكن في المنزل المتنازل عنه وترغب في بيع ذلك المنزل و حيث ان الغاية من التنازل لم تتحقق فان رجوع المدعين عما تنازلوا به ينسجم مع نص المادة (196) احوال شخصية وتتحقق في هذا الرجوع الشروط القانونية المحددة في المادة (197) احوال شخصية والخاصة بصحة الرجوع عن الهبة) وبعد صدور الحكم قامت الشقيقة باستئناف الحكم الابتدائي الا ان محكمة الاستئناف قضت برفض الاستئناف وتأييد الحكم الابتدائي وقد جاء في اسباب الحكم  الاستئنافي (ان المادتين (196و197) احوال شخصية اجازتا الرجوع عن الهبة لعدم تحقق السبب او الباعث للهبة حيث توصلت محكمة اول درجة بان المستأنفة الموهوب لها لا تقيم بالمسكن  وكذا حدوث الخلاف بين الاخوة محل صلة الرحم والتراحم بينهم ولذلك فان الشعبة تجزم بصحة وشرعية رجوع الواهبين عما تنازلوا به بدون عوض مالي ولذلك فان الشعبة تؤيد الحكم الابتدائي) فلم تقبل الشقيقة بالحكم الاستئنافي فقامت بالطعن في النقض بالحكم امام المحكمة العليا التي رفضت الطعن واقرت الحكم الاستئنافي وقد جاء في اسباب حكم المحكمة العليا (والدائرة بعد الرجوع الى الاوراق مشتملات الملف وجدت ان الطاعنة قد نعت على الحكم الاستئنافي المطعون فيه انه خالف القانون حينما اهدر الادلة التي قدمتها الطاعنة؛ والدائرة تجد ان هذه المناعي ليست في محلها وليس لها سند في الاوراق والقانون فالثابت ان محكمتي الموضوع قد ناقشتا كل ما قدمته الطاعنة  وقضت برفض تلك الادلة لان الدعوى منحصرة في طلب الحكم بصحة رجوع المدعين عن تنازلهم للطاعنة دون ان تدفع أي مقابل او تعويض وبذلك فان حكم هذا التنازل يكون هبة, وحيث ان المدعين تنازلوا للمدعى عليها بالمنزل لغرض السكن واتضح ان المدعى  عليها لا تسكن في ذلك المنزل ولأنها ترغب في بيع المنزل وحيث ان الغاية من التنازل لم تتحقق فان رجوع المدعين يوافق المادتين (196و197) احوال شخصية لذلك فان هذا الحكم يوافق القانون, لان عدم تحقق الغرض من الهبة التبرعية يجعل الرجوع عن الهبة التبرعية اذا كانت لغرض ظاهر او مضمر تدل عليه قرائن الحال وتعذر تحقيق الغرض الامر الذي يجعل قضاء الحكم الاستئنافي بتأييد الحكم الاستئنافي موافقا للشرع والقانون لقضائه في حدود طلبات المدعي بإلغاء التنازل وتقسيم المنزل موضع الطلب بحسب الشرع والقانون مما يستوجب رفض الطعن واقرار الحكم المطعون فيه) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب ما هو مبين في الاوجه الاتية :

الوجه الأول : الهبة التبرعية التي يجوز الرجوع فيها :

صرح قانون الاحوال الشخصية وكذا الحكم محل تعليقنا بجواز الرجوع في الهبة التبرعية, وذلك يستدعي معرفة ماهية الهبة التبرعية؛ فالاصل في الهبة انها تبرعية بحسب تعريف القانون للهبة فقد نصت المادة (168) احوال شخصية على ان (الهبة هي عقد تبرعي يملك به مال او تباح به منفعة حال الحياة) وعلى ذلك فالهبة التبرعية هي تمليك مال او منفعةفي اثناء الحياة ؛ وتسمى الهبة في اليمن في حالات كثيرة بالتنازل مثلما حصل في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا, حيث يتنازل بعض الورثة او الشركاء لبعضهم بعضا, واكثر هذه الهبات او التنازلات تنازل الاباء والامهات عن انصبتهم في ميراث ابنائهم المتوفين في اثناء حياتهم, وقد صرح القانون بجواز الرجوع في الهبة التبرعية  حيث نصت المادة (189) على ان (الهبة التبرعية يجوز الرجوع فيها في الاحوال والشروط المنصوص عليها في الفصل الثالث من هذا القانون) وقد بينت المادة (196) حالات الرجوع عن الهبة التبرعية حيث نصت هذه المادة على انه (لا يجوز الرجوع في الهبة الا في الاحوال الاتية : -1- ان تكون الهبة التبرعية لغرض (مصلحة) ظاهر او مضمر تدل عليه قرائن الحال وتعذر تحقيق الغرض -2- ان يكون الواهب ابا او اما للموهوب له -3- ان يكون للواهب عذر تحقق بعد الهبة بان اصبح فقيرا عاجزا عن الكسب مالم يكن الموهوب له قد قبل) وعند تطبيق هذا النص على القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا نجد انه قد تحققت حالة من حالات الرجوع عن الهبة وهي الحالة رقم (1) حيث ان هبة الاشقاء لشقيقتهم كانت لغرض سكنها في المنزل المتنازل عنه والمحافظة على روح الاخوة بين جميع الاشقاء فلما غادرت الموهوب لها المنزل ولم تعد تسكن فيها واختلفت الشقيقة مع شقيقها الموهوب لهما فقد تخلف الغرض الذي ابتغاه الواهبون او المتنازلون عن المنزل وعدم تحقق الغرض من الهبة التبرعية يجيز للواهبين الرجوع في الهبة مطلقا سواء تحققت شروط صحة الرجوع المنصوص عليها في المادة (197) احوال شخصية او لم تتحقق لان هذه المادة قد قررت في بدايتها على انه يجب مراعاة ما ورد في المادة السابقة لها وهي المادة (196) التي اجازت الرجوع اذا كانت الهبة التبرعية لغرض ظاهر او مضمر, فقد نصت المادة (197) على انه (مع مراعاة ما جاء في المادة (196) من هذا القانون يشترط لصحة الرجوع في الهبة التبرعية التي لا غرض فيها ما يأتي) وقد قرر قانون الاحوال الشخصية ان الرجوع عن الهبة يكون من قبيل الفسخ للهبة فقد نصت المادة (198) على ان (الرجوع في الهبة بعد نفوذها يعتبر فسخا) ولذا لاحظنا ان حكم محكمة الموضوع قد قضىت بصحة الرجوع عن الهبة وكأن الحكم القضائي اثبت حالة الرجوع او الفسخ للهبة الصادرة من الواهب, وبما ان الرجوع عن الهبة التبرعية اذا لم يتحقق غرض الواهب يكون الرجوع من قبيل الفسخ فان الواهب في هذه الحالة لا يلزمه دفع ما انفقه الموهوب له في العين الموهوبة وفقا للمادة (199) احوال شخصية التي نصت على انه (يلزم الواهب عند الرجوع تسليم ما انفقه الموهوب له على العين الموهوبة   الا ان تكون الهبة على عوض لم يسلم او غرض لم يتحقق فلا رجوع للموهوب له بالنفقة) .

الوجه الثاني : الهبة بمقابل :

وهي على خلاف الهبة التبرعية السابق ذكرها في الوجه الاول لان الموهوب له يدفع مقابل المال الموهوب وهذا المقابل قد يكون مالا نقديا اوعينيا وقد يكون المقابل منفعة يقدمها الموهوب له للواهب  وقد يكون  الموهوب له  قد قام بالمنفعة اوقدم المال المقابل قبل الهبة؛ فالهبة بمقابل ليست هبة بالمفهوم الشرعي والقانوني الدقيق حيث تصرح المادة (188) احوال شخصية على ان (الهبة على عوض مشترط ان كان مالا او منفعة تأخذ حكم البيع) فالمقابل هو الفارق الجوهري بين الهبةبمقابل والهبة التبرعية  ؛ فاذا كان هناك مقابل فالهبةتكون هبة بمقابل فلا تكون تبرعية وانما يتم تكييفها بحسب الغرض من مقابل الهبة فاذا كان المقابل او العوض مقابل خدمة قام بها الموهوب له للواهب او غيره فإنها تكون من قبيل الاجارة كمن يهب مالا الى الموهوب له الذي قام بخدمته او خدمة ابيه العاجز او ابنه المعوق, بالإضافة الى المقابل كفارق بين الهبةبمقابل والهبة التبرعية  فهناك فارق جوهري اخر وهو عدم  قابلية الهبة بمقابل للرجوع لأنها كما ذكرنا يكون حكمها كحكم البيع او الاجارة وهما تصرفان لازمان لاتراجع فيهما .

الوجه الثالث : الفرق بين الهبة والوصية :

الوصية تصرف لما بعد موت الموصي اما الهبة فإنها تصرف في اثناء حياة الواهب, وهذا هو الفارق الجوهري بين الوصية والهبة, وهناك بعض التشابه بين الهبة بمقابل والوصية بمقابل, ففي بعض الاحيان يقوم الموصي بالوصية لبعض الاشخاص بمال بعد موته براءة لذمته مقابل قيام هولاءالاشخاص بخدمته او النفقة عليه او القيام بأعمال لمنفعته في اثناء حياته، والله اعلم.