متى لا يرد المحكم بسبب القرابة؟

 

متى لا يرد المحكم بسبب القرابة؟

أ.د.عبدالمؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء

 من المعلوم أن المحكم يرد بما يرد به القاضي، ومن المؤكد أن القرابة سبب من أسباب رد القاضي، ولكن للتحكيم خصوصيته التي تميزه عن القضاء وتميز المحكم عن القاضي، ومن مظاهر هذه الخصوصية أن المحتكم إذا كان قد قام بإختيار المحكم وهو يعلم أنه قريب لخصمه فلا يحق له أن يطلب رده بعدئذ بذريعة أنه قريب لخصمه وان القرابة سبب من أسباب  رد القاضي وأن المحكم يرد بما يرد به القاضي هذه القاعدة الإجتهادية قررها الحكم محل تعليقنا وهو الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 29/1/2011م في الطعن التجاري رقم (42278) لسنة 1432ه وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم أن شخصين اختلفا بشأن تنفيذ عقد مقاولة على بناء عمارة وتشطيبها وتسليمها جاهزة لمالكها وبالفعل تم تنفيذ عقد المقاولة كاملاً بإستثناء بعض الأعمال ووقتئذ اختلف الطرفان صاحب العمارة والمقاول بشأن الأعمال الإضافية التي قام بها المقاول وبعض الأعمال التي لم ينفذها وقد ادعى المقاول أنه مازالت هناك مبالغ مالية بذمة مالك العمارة من قيمة الأعمال التي نفذها، وعندما اشتدت حدة الخلاف بين الطرفين قاما بتحكيم الشيخ شقيق صاحب العمارة  حيث قدم الطرفان دعواهما الأصلية والمقابلة وسارت الإجراءات أمام الشيخ المحكم بطريقة نظامية حتى توصل المحكم إلى النطق بحكمه متضمناً الإجراءات التي تمت وأسباب الحكم ومنطوقه ، فلم يقبل المقاول حكم المحكم حيث قام بتقديم دعوى بطلان  حكم التحكيم أمام محكمة الإستئناف المختصة ، مضمناً عريضة استئنافه أسباباً عدة أهمها أن الشيخ المحكم هو أخو صاحب العمارة وأنه قد انحاز في حكمه لصالح أخيه وأن القرابة من موجبات رد القاضي وأن المحكم مثل القاضي ويرد بما يرد به القاضي، وأن هذه المسألة من النظام العام التي يجوز إثارتها في أية مرحلة من مراحل التقاضي وانها تجعل حكم التحكيم منعدم وانه يتوجب على شعبة الإستئناف التصدي له من تلقاء ذاتها حسبما ورد في عريضة استئناف المقاول، فرد المستأنف ضده صاحب العمارة على الاستئناف : بأن حالة التنحي أو الرد بسبب القرابة بالنسبة للقاضي لا تنطبق على المحكم الذي تم اختياره بمحض إرادة طرفي التحكيم ولذلك لا يجوز بأي حال من الأحوال قبول دعوى رد المحكم من قبل الطرف الذي اختاره فالطاعن كان على علم كامل أن المحكم المختار من الطرفين قريب للمطعون ضده من خلال مقارنة اسم المحكم بإسم صاحب العمارة، وقد خلصت الشعبة الإستئنافية إلى الحكم برفض دعوى البطلان وتأييد حكم المحكمة وقد ورد في أسباب الحكم الإستئنافي( أما بالنسبة للسبب الأول من اسباب الإستئناف وهو قرابة المدعى عليه للمحكم وأنه أخوه فيرد عليه بأن المحكم هو اخو المدعى عليه وصحيح ان المحكم يرد بما يرد به القاضي ولكن تختلف اسباب وإجراءات الرد بالنسبة للقاضي عن المحكم ، فالقاضي معين من قبل السلطة التي تملك تعيينه بخلاف المحكم الذي يتم اختياره من قبل اطراف التحكيم وعليه فإنه لا يقبل من أطراف التحكيم التقدم بطلب رد المحكم  إلا إذا ظهرت في الحكم أسباب لم يعلمها طرف التحكيم وقت اختياره للمحكم وان ظهرت اسباب الرد بعد ذلك وهذا حسبما نصت عليه المادة (23) تحكيم فالمدعي  يعلم علم اليقين أن المدعى عليه أخو المحكم أو أنه يفترض به العلم بذلك بمقارنة بسيطة أو الإطلاع على اسم ابي المحكم وابي المدعى عليه وكذلك لقب المحكم ولقب المدعى عليه المدون في وثيقة التحكيم وفي كافة الوثائق التالية لذلك)، فلم يقبل المقاول بالحكم الإستئنافي حيث قام بالطعن فيه بالنقض أمام المحكمة العليا ومن خلال مطالعة عريضة الطعن يلاحظ أنها جاءت من حيث مضمونها مشابهة لدعوى بطلان حكم التحكيم السابق للمقاول تقديمها امام محكمة الاستئناف الا أن الدائرة التجارية رفضت الطعن وأقرت الحكم المطعون فيه؛ وقد جاء في أسباب حكم المحكمة العليا أنه ( بعد الرجوع إلى الأوراق مشتملات الملف وجدت الدائرة أن ما ينعى به الطاعن على الحكم المطعون فيه وقوله بإنعدامه لتوفر حالة من حالات التنحي لأن المحكم أخو المحتكم، والدائرة تجد أن هذا النعي ليس في محله لأن ما أثاره الطاعن بالنسبة لقرابة المطعون ضده للمحكم فقد ناقشت الشعبة الإستئنافية هذا السبب بقولها  أنه صحيح أن المحكم يرد بما يرد به القاضي الا ان  القاضي معين من قبل السلطة التي تملك تعيينه بخلاف المحكم الذي يتم اختياره من قبل اطراف التحكيم وعليه فإنه لا يقبل من أطراف التحكيم التقدم بطلب رد المحكم  إلا إذا ظهرت في الحكم أسباب لم يعلمها طرف التحكيم وقت اختياره للمحكم وان ظهرت اسباب الرد بعد ذلك وهذا حسبما نصت عليه المادة (23) تحكيم  والطاعن يعلم بتلك القرابة وحيث ورد في قانون التحكيم المادة (3) التي عرفت التحكيم بأنه ( اختيار الطرفين برضاهما شخصاً آخر أو أكثر  للحكم بينهما دون المحكمة المختصة) فأختيار المحكم من قبل الطرفين كان برضاهما واختيارهما ) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب الأوجه الآتية :

الوجه الأول: السند القانوني للحكم محل تعليقنا:

من خلال المطالعة للحكم محل تعليقنا نجد أن الحكم الإستئنافي وحكم المحكمة العليا قد استندا في تقريرهما بأن القرابة لا تكون سبباً موجباً لرد المحكم إذا كان المحتكم يعلم أن المحكم قريب للمحتكم الآخر وكان هذا العلم عند اختيار المحكم، وسند الحكم محل تعليقنا في ذلك هو نص المادة (23) تحكيم التي نصت على أنه ( يجوز رد المحكم للأسباب التي يرد بها القاضي أو يعتبر بسببها غير صالحاً للحكم وإذا تبين عدم توفر الشروط المتفق عليها أو التي نصت عليها أحكام هذا القانون ويشترط أن تكون هذه الأسباب قد حدثت أو ظهرت بعد تحرير اتفاق التحكيم إلا أنه لا يجوز بأي حال من الأحوال لأي من طرفي التحكيم رد المحكم الذي عينه أو اشترك في تعيينه ما عدا للأسباب التي تتبين بعد التعيين وفي كل الأحوال يجب على الشخص حين يفاتح بقصد احتمال تعيينه محكماً أن يصرح لمن ولاه الثقة بكل الظروف التي من شأنها أن تثير شكوكاً حول حيادته واستقلاله) ومن خلال  مطالعة هذا النص  نجد أنه يقرر قاعدة عامة مفادها أنه لا يجوز طلب رد المحكم إلا بالنسبة للأسباب التي تظهر بعد التوقيع على وثيقة التحكيم أو للأسباب التي تتبين بعد تعيين المحتكم للمحكم، ومقتضى ذلك أنه لا يجوز رد المحكم من المحتكم الذي سبق له أن عينه أو أختاره وهو يعلم في ذلك الوقت أن المحكم قريب للمحتكم الآخر؛ فهذا السبب (القرابة) كان معلوماً للمحتكم عند اختياره للمحكم وبناءً على ذلك لا يجوز له بموجب هذا النص أن يطلب رد المحكم لهذا السبب ، لأن النص القانوني قد حصر أسباب الرد في الأسباب التي تبينت أو تحدث بعد تحرير وثيقة التحكيم أو تعيين المحكم، فقد قضت محكمة النقض المصرية بأن( وجود  قرابة بين المحكم المنفرد وأحد الأطراف لا يعتبر سبباً من أسباب بطلان حكم التحكيم طالما كان الأطراف على علم بتلك الصلة عند اختيارهم للمحكم لأن حالات دعوى بطلان حكم التحكيم محددة في قانون التحكيم وحيث أن الجهة المدعية بالبطلان تدعي أن المحكم تجاوز موضوع النزاع فإنه هو من قام بتنظيم العقد بين الأطراف بنفسه وتوجد بينه وبين أحد الأطراف صلة قرابة وحيث أن محكمتنا من خلال العودة إلى أوراق القضية تبين لها أن المدعية بالبطلان كانت تعلم يقيناً بهذه القرابة حين اختيارها المحكم فلا يجوز لها بعدئذ أن تطلب رد ذلك المحكم).

الوجه الثاني: الفرق بين رد القاضي ورد المحكم بسبب القرابة:

أشار الحكم محل تعليقنا إلى ذلك حينما ذكر بأن الخصوم بالنسبة للقاضي لم يقوموا بإختياره أو تعيينه للفصل في النزاع القائم بينهم وإنما قامت بتعيين القاضي السلطة القضائيةالمختصةوهي مجلس القضاء الأعلى فليس هناك أدنى علاقة للخصوم بإختيار وتعيين القاضي فهو ليس  مفوض  منهم للفصل في خصومتهم ولا علاقة لهم او  صلة بمدى صلاحية القاضي لنظر القضايا التي تعرض عليه كما أن القاضي قد يكون معيناً في الغالب قبل حدوث النزاع بين الخصوم ولذلك عندما يتم رفع القضية أو إحالتها إلى قاض تربطه رابطة قرابة لأحد الخصوم فإنه يتوجب عليه أن يتنحى كما يجب على الخصوم إن لم يتنحى بنفسه ان يقوموا برده لأن القرابة وهي سبب الرد قد ظهرت منذ رفع الدعوى أو إحالتها إلى القاضي،  وهذا كله يختلف بالنسبة (للمحتكم) الذي له اليد في اسناد ولاية الفصل في الخصومة للمحكم والذي لا شك أنه قد تأكد من حياد ونزاهة وصلاحية المحكم عند تعيينه للمحكم حتى وإن كان قريباً للطرف الآخر في الخصومة وانه إذا لم يتأكد من ذلك فإنه مقصر في الإستعلام ولذلك لا يحق له عندئذ أن يطلب رد المحكم بعد تحرير وثيقة التحكيم وتعيين المحكم، إضافة إلى أن القرابة قد تكون محل اعتبار عند اختيار المحكم بخلاف القاضي الذي يجب رده بسبب القرابة سواءً أكان هذا السبب متحققاً فيه قبل أو أثناء نظره للقضية.

الوجه الثالث: القرابة وتأثيرها على حياد القاضي والمحكم:

ينص الدستور اليمني صراحةً على أن السلطة القضائية مستقلة وان القضاة مستقلون ، وهذا النص الدستوري يقرر قاعدة عامة ومجردة تعني أن القاضي مستقل عن أية مؤثرات أو ضغوط سواء أكانت من القضاة الآخرين  داخل السلطة القضائية أو من كبار الموظفين في السلطة التنفيذية للدولة أو من المشائخ أو أعضاء مجلس النواب أو من المؤثرات الأسرية كتأثير أقارب القاضي  ويتسع مفهوم استقلال القاضي حتى يشمل عدم خضوعه لأي مؤثرات نابعة حتى من نفسه مثل  الجوع أو العطش أو المرض أو الغضب أو حتى تضايق القاضي من ضيق حذائه أو لباسه ولذلك قرر الفقهاء قاعدة انه  ( لا يقضي القاضي وهو غاضب أو جائع أو حاقن  أو حازق) فالقاضي وعاء العدالة وصائغها فيجب أن يكون عمله القضائي بعيداً عن أية  مؤثرات بما فيها مؤثرات القرابة وضغوطها ولذلك وجب على القاضي أن يتنحى عندما تصله بأي من أطراف الخصومة صلة قرابة حتى يكون بمنأى عن المؤثرات والشبهات ، أما المحكم فالحال يختلف بالنسبة له فأحيان تكون القرابة باعثاً على اختيار المحكم  كما أن المحكم يعلم علماً يقيناً أن قرابة المحكم للطرف الآخر لن يكون لها أدنى تأثير على حياد واستقلالية المحكم فالإعتبارات الشخصية لها اعتبار بالنسبة لقرابة المحكم بخلاف القاضي.

الوجه الرابع: وجوب إفصاح المحكم لمن يعينه بالظروف والمؤثرات التي قد تؤثرعلى حيادته واستقلاله:

قررت المادة (23) تحكيم السابق ذكرها هذا الوجوب ، وهذا يعني أنه يجب على المحكم عندما يعرض عليه الخصم تعيينه  كمحكم أن يفصح له عن كافة الظروف  والمؤثرات  التي تؤثر على حيادته واستقلاله في مهمته التحكيمية سواء أكانت تلك المؤثرات والظروف لها تأثير حقيقي على مهمة المحكم أو أنها تبعث فقط الشكوك والشبهات بشأن نزاهته وحيادته، ومن هذه الظروف والمؤثرات قرابته للطرف الآخر في خصومة التحكيم أو عمله الحالي اوالسابق كمستشار أو محام له أو سبق تقديمه لمشورة له في القضية المزمع التحكيم فيها أو غيره وما إذا كان الطرف الآخر صديقاً له أو ينتمي هو والطرف الآخر إلى جماعة دينية أو سياسية أو مناطقية.

الوجه الخامس: تحكيم الخصم نفسه:

من التحكيم الشائع في اليمن تحكيم الشخص لخصمه للفصل في النزاع القائم بينهما ، طبعاً ليس  الأمر هنا متعلق بالقرابة ؛لأن الأمر على خلاف ذلك فهو متعلق  بالعداوة أو الخصومة،  ومعلوم أيضاً أن العداوة لها تأثير على استقلالية وحيادية المحكم مثلها في ذلك مثل القرابة فهي سبب من اسباب رد القاضي وتنحيه  كما أن العداوة مثلها مثل القرابة من حيث انها سبب رد قد تكون  موجودة قبل التحكيم وقد لا تحدث ولا تتبين  الا بعد تعيين المحكم واختياره وتحرير وثيقة التحكيم ؛ فالعداوة  من هذه الناحية مثل القرابة ، وهذا يستدعي الإشارة إلى مدى انطباق نص المادة (23) تحكيم وما سبق ذكره من اجتهاد في الحكم محل تعليقنا على هذه المسالة اعني تحكيم الخصم ؛فاقول من وجهة نظري أن تحكيم الخصم يسري عليه ما سبق لأن ما سبق ذكره في الأوجه السابقة من حيث عدم جواز رد المحكم بعد تعيينه وتحرير وثيقة التحكيم بسبب القرابة اذا كان المحتكم يعلم بصلة القرابةعند تعيينه للمحكم   فهذا ينطبق ايضا على العداوة فيجوز للخصم أن يحكم خصمه طالماوالعداوة حاصلة عند تعيين المحكم الخصم ؛ وهذا ما يحدث في اليمن أكثر من غيرها وقد أدليت في وقت سابق بهذا الرأي فاستحسنه كثير من المهتمين والقضاة عدا بعض القضاة الأعزاء في كردستان العراق والجزائر فقد كان لهم وجهة نظر أخرى حسبما تناولوها في منتدياتهم في مواقع التواصل وأنا أقدر واحترم وجهات نظرهم التي قدروا من خلالها أن العداوة مؤثر خطر على العدالة والنزاهة لا سيما إذا كان الخصم نفسه هو الذي سيحكم في الخصومة؛ فالعداوة تختلف عن القرابة فتأثيرها اكبر، وحينها قلت لهم لو كنتم في اليمن لتغيرت وجهة نظركم فأغلب الأحكام التي تصدر عن المحكمين الخصوم في اليمن أكثر عدالة وحيادية من غيرها ، لأن مرؤة وشهامة وكبرياء وأنفة الخصم اليمني تجعله يحكم على نفسه وهذا ربما  وضع خاص باليمن فتحكيم الخصم يحقق منافع كثيرة ، وصدق المتنبي حين قال:

ومن العداوة ماينالك نفعه....ومن الصداقة ما يضر ويؤلم.