وجوب تحري القاضي عند الحكم في قضايا الوقف
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون –
جامعة صنعاء
لمال
الوقف حرمته العظيمة ديانة وقضاء، ولذلك يجب على القاضي ان يستفرغ جهده في التحري
والتحقق عند الحكم في قضايا الوقف،
فالقاضي مأمور شرعاً وقانوناً بالتحري في القضايا كلها التي يفصل فيها، لكن هذا
الوجوب يتاكد عند النظر في قضايا الوقف لخصوصية أموال الوقف التي تستدعي ان تكون
عناية القاضي أكثر عند فصله في قضايا الوقف، ومن هذا المنطلق فقد اخترنا التعليق
على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ
15/1/2013م في الطعن رقم (43981) وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان
مكتب الأوقاف تقدم أمام النيابة بشكوى مفادها: أن المشكو به قام بالاعتداء على
مساقي أرض الوقف, وعند احالة النيابة للدعوى الجزائية إلى محكمة الأموال العامة
افاد المتهم بان الأرض التي يقوم باستصلاحها ليست من مال الوقف أو رهقه لان
اسمها يختلف عن اسم أرض الوقف فاسم الأرض محل النزاع ليس مذكورا في مسوّدة الأوقاف
إضافة إلى أن تلك الأرض كانت بحوزة اسلاف
المتهم وانها مذكورة في فروزهم (فصولهم) المتعاقبة كما ان هناك شهود على ان الأرض
التي يدعيها مكتب الأوقاف تقع في مكان آخر غير موقع الأرض المدعى بها، ومع ذلك فقد
توصلت المحكمة الابتدائية إلى الحكم بإدانة المتهم وحبسه سنة مع وقف التنفيذ وثبوت
ملكية الأوقاف للارض محل النزاع والزام
المحكوم عليه بعدم معارضة الأوقاف واجيره في ذلك الموضع وتوابعه ورهقه والزام
المحكوم عليه بدفع مأتي الف ريالاً للأوقاف مخاسير تقاضي، فقام المحكوم عليه
باستئناف الحكم فقبلت شعبة الأموال العامة الاستئناف وقضت بالغاء الحكم الابتدائي
لان اسم الموضع محل النزاع يختلفً عن اسم موضع الوقف المدعى به فان موضع الوقف يقع
في مكان آخر، فلم يقبل مكتب الأوقاف بالحكم الاستئنافي فقام بالطعن فيه بالنقض،
حيث قبلت الدائرة الجزائية الطعن وقضت بنقض الحكم الاستئنافي وقد ورد في أسباب حكم
المحكمة العليا (ومن حيث الموضوع فانه لما كان الطاعن ينعي على الحكم المطعون فيه
مخالفته للقانون والخطأ في تطبيقه ومخالفته الثابت في الأوراق، فلما كان الأمر
كذلك وكان الحكم المطعون فيه قد أقام قضاءه بالغاء الحكم الابتدائي على ما قاله في
حيثياته من أن محل الدعوى العامة موضع ... المدعى به من قبل مكتب الأوقاف واجير
الأوقاف يقع في ... وانه يختلف اسماً عن حول ... الذي يقع في مكان اخر هو ... دون
أن يبين الحكم المطعون فيه المصدر الذي استمد منه استنتاجه لذلك فان الحكم يكون قد أقام قضاءه على أساس لا سند له
في أوراق الدعوى، فقد ظهر أن محضر المعاينة قد اغفل تطبيق مبرزات الطرفين على موضع
النزاع للتحقق من كافة الجوانب المتعلقة بالموضع المتنازع عليه من حيث التسمية
والحدود والحيازة والاجارات وتسليم الغلة ثم التحقق من وجود الموضع الاخر الذي
اشار اليه الحكم أنه يقع مكان اخر وانه هو الموضع المذكور في مسوّدة الأوقاف طالما
قد اقتنع الحكم بوجود ذلك الموضع في مكان اخر وهو ما كان يستوجب على الشعبة
استظهاره بالمعاينة وتطبيق المبرزات وليس الاكتفاء بالاستنتاج الظني من أقوال
الخصوم الأمر الذي يشوب الحكم بالقصور المبطل له مما يوجب نقضه) وسيكون تعليقنا
على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :
الوجه الأول : خصوصية أموال الوقف عند التقاضي :
لا يمكن فهم فكرة
التوسع في إثبات الوقف والتحري عند الفصل في قضاياه الا بادراك مسألة أولية في هذا
الشأن وهي مسألة خصوصية أموال الوقف ، وتظهر خصوصية أموال الوقف واهميتها في المظاهر
الأتية :
1- مالك الرقبة أي مالك
الوقف هو الله سبحانه وتعالى، فقد اتفق فقهاء الأمة بشأن ذلك، فالوقف ملك الله لا
يباع ولا يشترى إلى ان يرث الله الأرض ومن عليها، ولذلك يجب على القاضي التحري
والتحقق عند الفصل في أموال الوقف حتى لا يخل بحكمه بهذا المظهر ويجعل الوقف حراً
ويخرجه من محبسه وحصنه.
2- الوقف قربة إلى الله
من أهم القرب التي يتقرب بها الواقفون إلى الله، فقيام القاضي بالتحقق والتحري في
قضايا الوقف يحفظ هذه القرب ويجعلها جارية إلى ان تقوم الساعة حسبما أراد الشارع والواقف.
3- اتفق الفقهاء على أن
:عبارة الواقف كنص الشارع من حيث لزومها قاعدة شرعية، ولذلك كان الوقف لازماً تجب
المحافظة عليه والدفاع عنه، فتحري القاضي وتيقنه عند الفصل في قضايا الوقف يحقق
هذه القاعدة الشرعية المعتبرة.
4- تتعلق بأموال الوقف
حقوق ومصالح المصلين والضعفاء والمساكين، وهؤلاء في الشريعة والقانون هم أولى
الناس بالرعاية عند التقاضي.
الوجه الثاني : إثبات الوقف عند التقاضي وإشكالياته :
تساهلت
الشريعة الإسلامية والقانون في إثبات الوقف عند الخلاف بشأنه حتى ان الوقف يثبت
بالشهرة، كما ان القانون اعطى مسوّدات الوقف الحجية المطلقة في الإثبات بل ان قانون
المرافعات صرح بانها من السندات التنفيذية، وتشتمل مسوّدات الأوقاف على وثائق
الوقفيات الصادرة من الواقفين والاجارات السابقة لأموال الوقف والأحكام القضائية
الصادرة في أموال الوقف وأحكام تسويغ نقل الوقف أو نقل مصرفه وكشوفات حساب غلال
الوقف التي تبين اسماء المواضع ومقادير الغلال واسماء المتولين للوقف واسماء
الاجراء أو المستأجرين للوقف وكذا سجلات حصر أموال الوقف ، ولكن الاشكالية تكمن في
ان مسوّدات الأوقاف لا تتضمن كل أموال الأوقاف فكثير من أموال الوقف ليست مذكورة
ضمن مسوّدات الوقف، حيث لا تظهر هذه الأموال إلا عند الخلاف بشانها وابراز الوثائق
من قبل الخصوم عند النزاع كما ان هناك إشكالية تغير اسماء أراضي الأوقاف بتغير
الزمان وكذا تعمد بعض الاشخاص تغيير معالم أموال الوقف والاحياء والبناء في رهق
الوقف كبناء منازل ومنشأت على مراهق الوقف لأن مساحة المراهق لاتكون مذكورة في
المسودات،ولذلك فأنا تغلب الاعتداءات تطال مراهق الاوقاف فتضيع معالم مال الوقف الاصلي ومراهقه، ولذلك لاحظنا
في الحكم محل تعليقنا ان المعتدي على أموال الوقف قام بالاحياء في رهق الوقف واطلق
عليه اسما مقاربا لاسم موضع الوقف ثم ادعى ان ذلك الموضع الذي اعتدى عليه ليس من
الوقف وان مال الوقف المقصود في مكان اخر.
الوجه الثالث : الاستنتاج القضائي والاستنتاج الظني المحظور :
قضى الحكم محل
تعليقنا انه كان يجب على محكمة الموضوع التحقق والتحري والتثبت ودراسة مستندات
الطرفين وهي مسوّدات الوقف وكشوفات الوقف التي تثبت الغلات واسماء المستأجرين
واسماء المواضع وأصل المال ورهقه وتوابعه وعقود الايجار السابقة لأرض الوقف التي
تحدد اسم الموضع ومساحته وتوابعه ورهقه والإيجار المستحق للأوقاف حيث يجب أن يكون
لاستنتاج القاضي أصل في أوراق القضية وهذا هو الاستنتاج القضائي الرشيد، اما
الاستنتاج المحظور فهو عبارة عن قناعات واستنتاجات شخصية للقاضي ليس لها أصل في
أوراق القضية أي ان القاضي لم يستنتجها من خلال دراسته لأوراق القضية وانما عبارة
عن استنتاجات شخصية قد تكون معبرة عن العلم الشخصي للقاضي الذي استفاده من أقوال
الخصوم الشفوية التي لم يتم اثباتها في محاضر جلسات المحكمة واوراق القضية أي أن
الاستنتاج الظني يكون مصدره خارج نطاق ملف القضية، ولذلك يجب ان يكون استنتاج
القاضي عبارة عن استقراء امين عادل منصف للوثائق والمستندات التي يتضمنها ملف
القضية، فهذا هو المقصود بمقولة (الاستنتاج القضائي يجب ان يكون له أصل في
الأوراق) فلا يعتمد على الاستنتاج الظني المبني على أقوال الخصومعير الثانية في
اوراق القضية.
الوجه الرابع : موازنة القاضي بين المستندات :
اشار الحكم محل تعليقنا إلى أهمية الموازنة بين المستندات المبرزة في اثناء النزاع وكيفية الترجيح بينهما،واشار الحكم الى أن من الموازنة تدعيم المستندات بحيازة الابناء والاباء والاجارات السابقة وسندات تسليم الغلال وحداثة الحيازة وقدمها، فقد لاحظنا ان الحكم محل تعليقنا قد اشار الى احقية الوقف، لان حيازته كانت قديمة من خلال الاجارات التي سبق له ان ابرمها مع المستأجرين السابقين واللاحقين، وبالمقابل فقد رفض الحكم حيازة المعتدي على الوقف لانها كانت حديثة لا تدعمها الا الفصول أو الفروز وهي لا تكون حجة على الوقف، لان الفصول تكون حجيتها قاصرة على المتقاسمين، والله اعلم.