غش القاضي كسبب لدعوى المخاصمة
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون –
جامعة صنعاء
لضمان
حياد القاضي واستقلاله ونزاهته وحسن تصرفه وسلوكه وتطبيق سيادة القانون اجاز قانون
المرافعات للخصوم مخاصمة القاضي اذا توفر أي من أسباب المخاصمة، ومن أهم أسباب
المخاصمة الذي يدعيه المخاصمون للقاضي غش القاضي، فمفهوم غش القاضي الذي يجيز
مخاصمته يختلف كثيرا عن المفهوم القانوني الشائع للغش عامة، ولان بعض المخاصمين
للقضاة لا يدركون الادراك السليم لمفهوم غش القاضي كسبب لدعوى المخاصمة نجد أن
غالبية دعاوى مخاصمة القضاة تتاسس على غش القاضي دون ان تلتزم بالمفهوم السليم
للغش كسبب لدعوى المخاصمة وشروط هذا الغش، ولذلك اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة
بتاريخ 9/2/2014م في الطعن رقم (53110) وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا
الحكم أن احد الخصوم تقدم امام المحكمة العليا بدعوى مخاصمة لقضاة شعبة من الشعب
الاستئنافية، حيث ذكر المخاصم في دعوى المخاصمة ان رئيس واعضاء الشعبة قد قاموا
بالغش في تعطيل إجراءات التنفيذ التي كانت محكمة اول درجة قد شرعت بها ، وقد توصلت
الدائرة التجارية الى رفض دعوى المخاصمة، وقد ورد في أسباب حكم المحكمة العليا
(وحيث أن الغش كسبب لدعوى المخاصمة يعرّف في القضاء المقارن بأنه (ارتكاب الظلم عن
قصد بدافع المصلحة الشخصية أو بدافع كراهة احد الخصوم أو محاباته، أي أن سوء النية
لازم لتوفر الغش، ولذلك فان قرار الشعبة بالنزول لمعاينة الرض الجاري التنفيذ
عليها بحضور طرفي الخصومة وكذا استماع الشعبة لمرافعات الطرفين في جلسة علنية
ونظرها لخصومة التنفيذ يستفاد منه أن سوء النية غير متوفر لعلم الطرفين بموعد
الخروج،اما الخطأ المهني الجسيم فلا يشترط فيه سوء النية أو قصد محاباة أو
الانتقام بل يكفي اثبات ان ما فعله القاضي يعتبر خطأ جسيماً كما لو أغفل تسبيب حكم
اصدره أو تسبب عن غير قصد في ضياع مستند معين أو انه يجهل ما يتعين عليه معرفته من
القواعد القانونية العامة الاساسية وليس معنى ذلك أن يكون القاضي مسئولاً اذا اخطأ
في التقدير أو في استخلاص الوقائع أو في تفسير القانون، لان سبيل تدارك الخطأ في
هذه الحالة هو الطعن في الحكم بطريق الطعن المناسب، فهذا ما يجري عليه القضاء
المقارن في مصر مثلاً) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ما هو مبين في الأوجه
الاتية
الوجه الأول : غش القاضي في قانون المرافعات :
حددت المادة (145)
مرافعات أسباب دعوى مخاصمة القاضي على سبيل الحصر، ومن ذلك (1- اذا وقع من القاضي
أو عضو النيابة العامة غش في عمله القضائي) ويقصد بالغش انحراف القاضي في عمله عما
يقتضيه القانون بقصد وسوء نية لاعتبارات خاصة تتنافى مع النزاهة كالرغبة في ايثار احد الخصوم أو الانتقام منه أو تحقيقً
مصلحة شخصية للقاضي أو غير ذلك من الاعتبارات الخاصة، ومن امثلة الغش في عمل
القاضي ان يغير عمداً شهادة شاهد أو يغير مسودة الحكم ،ومن أمثلة الغش في عمل عضو
النيابة أن يتصرف في التحقيق متأثراً برشوة من احد الخصوم أو يتصرف في التحقيق
بمحاباة (رد ومخاصمة القضاة، مصطفى هرجة
ص145) وقد قضت محكمة النقض المصرية بان (المقصود بالغش هو انحراف القاضي في عمله
عما يقتضيه القانون قاصداً هذا الانحراف ايثاراً لاحد الخصوم أو الانتقام من خصم
اخر أو تحقيقاً لمصلحة خاصة للقاضي ،والخطأ المهني الجسيم الصادر من القاضي هو
وقوع القاضي في خطأ فاضح أو اهمال مفرط ما كان له ان يقع فيه لو اهتم بواجبات
وظيفته ولو بقدر يسير بحيث لا يفرق في جسامته على الغش سوى كونه قد اوتى بحسن نية.
الوجه الثاني : غش القاضي ومخالفة القانون :
من خلال التأمل في
ماهية غش القاضي على النحو السابق بيانه في الوجه الأول نجد ان مظاهر غش القاضي هي
عبارة عن مخالفات صارخة للقانون الذي يلزم القاضي بالحياد في قضائه والنزاهة في
سلوكه وعدم الميل مع هذا الطرف او ذاك وعدم جلب المنافع الشخصية من فصله في
النزاعات بين الخصوم، وعند امعان النظر في الامثلة والشواهد التي ساقها الفقه
والقضاء لغش القاضي السابق الاشارة اليها في الوجه الأول نجد انها مخالفات قانونية
صارخة متصلة بسلوك القاضي الشخصي ازاء الخصوم الذين يفصل في نزاعهم كما يظهر ان تلك
المخالفات تنم عن سلوك سيء للقاضي يدل على سوء نيته في قراراته واجراءاته اثناء
ادارته للخصومة التي ينظرها ،كما ان المخالفات القانونية الصارخة التي تدل على غش
القاضي يظهر انها لا تقع في الغالب من القاضي الحريص النزية المحايد.
الوجه الثالث : الغش طعن في القاضي، ومخالفة القانون طعن في الحكم :
سبق القول بان الغش
ماهو الا مخالفة صارخة للقانون تتصل بسلوك القاضي وسوء نيته وتعمده المخالفة لصالح
او ضد هذا الخصم او ذاك وظهور القرائن والشواهد على ذلك، ومن هذا المنطلق فان دعوى
المخاصمة عبارة عن طعن من الخصم بالقاضي شخصياً، اما الطعن في الحكم فيكون سببه
مخالفات القاضي الاعتيادية التي تقع من أي قاضي التي لاتنم عن سوء نية القاضي أو تعصبه أو انحيازه،
فهذه الاخطاء تقع من أي قاضي.
الوجه الرابع : غش القاضي واجتهاد القاضي :
من خلال مطالعة دعوى
المخاصمة التي تناولها الحكم محل تعليقنا وغيرها من دعوى مخاصمة القضاة نلاحظ ان
المخاصم للقاضي يحسب ان السلطة التقديرية للقاضي عند تطبيقه للنصوص القانونية
العامة المجردة يحسب المخاصم ان فهم القاضي وتطبيقه لتلك النصوص هو غش من القاضي
يستوجب مخاصمة القاضي، في حين ان اجتهاد القاضي في تطبيق النصوص القانونية او
تفسيرها من عمل القاضي واختصاصه ومن ضمن السلطة التقديرية للقاضي حتى لو اخطأ
القاضي في ذلك التطبيق أو التفسير فان ذلك لا يكون غشاً من القاضي، والخلط الذي
يحدث في اليمن بين اجتهاد القاضي وغش القاضي عند مخاصمة يحدث هذا الخلط بسبب حداثة
نظام مخاصمة القاضي في قانون المرافعات اليمني.
الوجه الخامس : غش القاضي والتفتيش القضائي :
من خلال مطالعة
الأوجه السابقة ظهر لنا ان غش القاضي لصيق بمسلك القاضي وقدح في نزاهته وحياده وان
القاضي حينئذ يخالف نصوصاً صريحة وجازمة غير قابلة للتأويل الذي حاول القاضي بواسطته
اخفاء غشه، ولذلك فان دعاوى مخاصمة القاضي الصحيحة والحقيقية والرشيدة ترشد هيئة
التفتيش القضائي إلى العيوب المسلكية للقضاة، فدعاوى المخاصمة الجادة غير الكيدية
تؤول مستنداتها واسانيدها إلى هيئة التفتيش، لان أهم اهداف التفتيش القضائي تقويم
الاخطاء المسلكية للقاضي (مخاصمة القضاة ،محمد صعب، ص220).
الوجه السادس: ظاهرة سوء استعمال دعاوي مخاصمة القضاة في اليمن وتوصيتنا للجهات المعنية:
الامانة العلمية تقتضي القول بان هناك سوء استعمال لدعاوي مخاصمة القضاة، بل انها تحولت الى سيف مصلت على رقاب القضاة وصارت هذه الدعاوي اداة لتعطيل اجراءات نظر القضايا فضلا عن انها وسيلة لنزع هيبة القضاء والقضاة ،فاكثر الخصوم يلجا الى مخاصمة القاضي وينسب في دعواه الى القاضي اخطر وارذل الاعمال وينعت القاضي باقذع النعوت،كما ان المخاصم يستهدف بدعوى المخاصمة وقف اجراءات نظر الدعوى التي ينظرها القاضي المخاصم لان الخصم يلجا الى دعوى المخاصمة عندما يجد ان اجراءات القضية الاصلية التي ينظرها القاضي لاتسير في الوجهة التي يريدها الخصم المخاصم،ولذلك فاننا نوصي الجهات المعنية بوضع الضوابط المناسبة لترشيد دعاوي مخاصمة القاضي، والله اعلم.