تحرير التصرف من منتحل صفة الأمين الشرعي
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
ليس خفيا أن غالبية وثائق الملكية العقارية في اليمن قد تم تحريرها من غير الامناء وان غالبية الوثائق المشار اليها ليست موثقة في أقلام التوثيق أو مسجلة في السجل العقاري علاوة على أن هناك مناطق كثيرة ليس فيها امناء شرعيين إضافة الى ان وزارة العدل توكد أن كثيرا من الامناء لايلتزمون بالضوابط القانونية عند تحريرهم للعقود والتصرفات وفوق هذا وذاك نجد أن هناك طائفة تنتحل صفة التنين الشرعي أما عن طريق الادعاء الكاذب بانه امين أو عن طريق مباشرة الأعمال التي اناطها القانون بالامين وهي تحرير العقود والتصرفات مثل الحالة التي تناولها الحكم محل تعليقنا ولذلك فقد اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 5/2/2018م في الطعن رقم (60206) ،وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان المحكمة الابتدائية قضت بإدانة عصابة كانت تقوم ببيع أراضي الغير إلا انها قضت ببراءة الشخص الذي قام بكتابة بصيرة بيع احدى الأراضي مع انه قد اعترف بانه ليس اميناً شرعياً ومع انه قد قام بتحرير البصيرة من غير ان يطلب من الورثة المزعوم بيعهم حكم إنحصار الوراثة ومن غير ان يتحقق من مستند ملكية الورثة البائعين للأرض ،وقد اكتفت المحكمة الابتدائية بمنعه من تحرير أية تصرفات مستقبلاً وتعهده بذلك، وقد ورد ضمن اسباب الحكم الابتدائي (فالثابت اعتراف المتهم الخامس بقيامه بتحرير بصيرة بيع وشراء من البائع المتهم السابع للمشتري المتهم الثامن دون وجود حكم إنحصار وراثة ودون التأكد من صحة التوكيل ومن غير وجود أصل مستند البيع وإنما التزم البائع بإحضاره ،فذلك يؤكد ان تلك الإجراءات التي قام بها تحت مسمى كاتب تراضي مع إقراره انه ليس أميناً شرعياً إجراءات باطلة وغير صحيحة وان امثال هذا المتهم بتصرفاتهم هذه يدخلون الناس في فتن تراق فيها دماء الابرياء لعدم تحريهم من صحة المستندات عند تحرير الوثائق الشرعية، ولما كانت النيابة قد قدمته متهما بالتزوير فان تلك التهمة لم تتحقق بأركانها بل ان قيام المتهم بذلك العمل يعد اهمالاً وقصوراً منه يسأل عنه لاسيما وهو لا يحمل رخصة مزاولة عمل الأمين الشرعي والظاهر ان المتهمين يستغلونه لتحرير الوثائق التي يريدونها نظراً لكبر سنه وضعفه، ولما كان الله تبارك وتعالى يقول في كتابه العزيز {..وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ...} [سورة البقرة 283] وحيث ان قيام المتهم المذكور بتحرير البصيرة لا تزوير فيه فان المحكمة تقضي ببراءته مما نسب اليه لانعدام الجريمة عملاً بنص المادة (376) إجراءات مع امرنا بمنعه من تحرير أية وثيقة شرعية لعدم حيازته على ترخيص بمزاولة مهنة الأمين الشرعي وأخذ التعهد منه بذلك مراعاة من المحكمة لكبر سنه ومنحه فرصة لتقويم نفسه مستقبلاً) وقد أيدت هذا الحكم الشعبة الجزائية وأقرته الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا (ويظهر أن غرض الطاعن من الطعن هو اللدد في الخصومة إضراراً بالمجني عليهم كما كان حاله امام محكمة الاستئناف ،الأمر الموجب للحكم بعدم قبول الطعن) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :
الوجه الأول:حقيقة إنتحال صفة الامين الشرعي:
يثور نقاش بشان انتحال صفة الامين فيذهب بعض الباحثين إلى القول بأن جريمة الإنتحال لاتتحقق الا إذا ادعى الشخص أنه امين شرعي فباشر أعمال الامين على أساس هذه الصفة من غير أن يكون لديه ترخيص بمزاولة مهنة الامين،اما إذا قام الشخص بالفعل بتحرير العقود والتصرفات من غير أن يزعم أو يدعي انه امين شرعي فان جريمة الإنتحال لاتتحقق في هذه الحالة لأنه لم يدع أنه امين،ولان اطراف المحرر في هذه الحالة يتعاملون معه ويطلبون منه تحرير التصرف وهم يعلمون أنه ليس امينا شرعيا فاطراف المحرر قد تراضوا فيما بينهم على أن يتولى تحرير المحرر حسبما ورد في إفادة المتهم في القضية التي تناولها الحكم محل تعلقينا، في حين يذهب إتجاه آخر إلى أن جريمة الإنتحال تتحقق إذا قام الشخص غير المرخص له بمزاولة المهنة بتحرير العقود والتصرفات من غير ترخيص فهو في هذه الحالة قد قام بالفعل بعمل الأمين الشرعي فهو لم يدع انه امين ولكنه قد قام بالفعل بعمل الأمين فذلك ابلغ في الدلالة على الإنتحال(اصول صياغة العقود ،ا.د. عبد المؤمن شجاع الدين).
الوجه الثاني : نظرة عامة موجزة عن الأشخاص المتولين تحرير الوثائق والتصرفات الشرعية :
عندما استحدث قانون التوثيق نظام الأمين الشرعي كان يجيز القانون للقضاة والعلماء تحرير العقود والتصرفات اضافة إلى قيام الامناء الشرعيين بذلك وبعدئذ تم تعديل القانون حيث حصر تحرير العقود والتصرفات في الأمناء الشرعيين والموثقين في اقلام التوثيق، وقبل استحداث نظام الأمين الشرعي الذي تشرف عليه وزارة العدل كان تحرير الوثائق الشرعية يتم عشوائياً من قبل كل من يجيد القراءة والكتابة ويفهم بعض الأحكام الشرعية الأولية عن العقود، ففي ذلك الحين لم يكن يتم توثيق العقود والتصرفات أو تسجيلها في السجل العقاري، واغلب الوثائق سواء القديمة قبل استحداث نظام الأمين أم بعده لا يتم توثيقها أو تسجيلها في السجل العقاري، فلا تتعدى نسبة الوثائق المسجلة في السجل العقاري 3% على مستوى الجمهورية كلها كما لا تزيد نسبة الوثائق التي تم توثيقها في قلم التوثيق عن 5%.
الوجه الثالث: اهمية التوثيق والتسجيل للعقود والتصرفات :
يمكن تلخيص هذه الأهمية بالقول بان التوثيق والتسجيل يحمي ويحفظ الملكية العقارية والحقوق والمصالح من الاعتداء عليها ويضمن سلامة وصحة العقود والتصرفات وحجيتها الرسمية في مواجهة الكافة إضافة إلى أنه يبسط رقابة الدولة واشرافها على تحرير العقود والتصرفات وتطويرها وتلافي أوجه القصور والعيوب فيها وكذا فان التوثيق والتسجيل يمنع النزاعات والخلافات بشان الاراضي والعقارات علاوة على أنه يوفر للدولة البيانات اللازمة التي تستفيد منها في إعداد الخطط والبرامج المختلفة بحسب نوع العقود والتصرفات ويمكن الدولة من تحديد اولوياتها.
الوجه الرابع: ماهية الأمين الشرعي:
الأمين الشرعي نظام استحدثته الدولة في اليمن منذ نهاية سبعينات القرن الماضي لغرض تنظيم عمليات تحرير العقود والتصرفات وضمان سلامتها وصحتها وبسط اشراف الدولة ورقابتها على الامناء وإصدار التوجيهات والتعليمات اللازمة لهم وتاديبهم عن مخالفاتهم، بالإضافة الى تقسيم الجمهورية إلى مناطق يختص كل امين بتحرير العقود التصرفات ضمن منطقة إختصاص ولايتعداها وبسط إشراف أقلام التوثيق في المحاكم المختلفة على اعمال الامناء ومتابعة أعمالهم وتقويمها(ضوابط تحرير العقود،محاضرة للامناء الشرعيين،ا.د.عبد المؤمن شجاع الدين،ص12 ) ، فالأمين شخص مكلف بخدمة عامة هي القيام بتحرير العقود والتصرفات وعند تعديل قانون التوثيق عام 2010م تم شطب عبارة (مكلف بخدمة عامة) من تعريف الأمين حيث صار بعد التعديل الشخص المكلف بتحرير العقود والتصرفات ويباشر عمله في نطاق اختصاصه وقد اشترط القانون في الأمين الشرعي الشروط المبينة في قانون التوثيق(المرجع السابق،ص9).
الوجه الخامس : ترخيص مزاولة مهنة الأمين الشرعي وحجية المحررات التي يقوم بتحريرها الامين:
ترخيص مزاولة مهنة الامين عبارة عن وثيقة رسمية تصدرها الادارة العامة للتوثيق بوزارة العدل بموجب قانون التوثيق تجيز للأمين تحرير العقود والتصرفات في النطاق الجغرافي المحدد للأمين، والمحررات التي يقوم الأمين بتحريرها لا تكون محررات رسمية إلا بعد توثيقها لدى قلم التوثيق المختص.
الوجه السادس : دفتر الأمين الشرعي:
هو عبارة عن مجموعة دفاتر بحسب نوع التصرف او دفتر واحد يقوم الأمين بتقسيمه بحسب انواع التصرفات، وهذا الدفتر هو ما يطلق عليه في اليمن (المسخرة) في حين انه في حقيقة الأمر وثيقة التصرف الأصلي التي يتم التوقيع عليها من قبل البائع والمشتري والشهود ثم يقوم الامين لاحقا بنقل البصيرة منه ، ولذلك فلهذا الدفتر أهمية بالغة اكثر من البصيرة إذا لم يتم توثيقها ويسجلها، وقد أوجب قانون التوثيق على الأمين المحافظة على الدفاتر المشار اليها ووجوب عرضها على قلم التوثيق دورياً لمراقبة سلامتها وتقويم اعمال الأمين في ضوء ما ورد فيها.
الوجه السابع: إشكالية الوثائق السابق تحريرها قبل وجود نظام الأمين والمحررات التي تم تحريرها من غير الأمناء بعد وجود نظام الامناء وكذا الوثائق التي تم تحريرها من غير الامناء في مناطق لا يوجد بها أمين مرخص له من قبل وزارة العدل:
اغلب المحررات والوثائق في اليمن هي هذه الفئة التي تصل إلى 93% من الوثائق والمحررات، وهذه المحررات وفقاً لقانون الإثبات تعد محررات عرفية ملزمة لاطرافها باعتبارها عقوداً رضائية ملزمة وفقاً لاحكام الشريعة الاسلامية وقانون الإثبات والقانون المدني، وهذه إشكالية تؤرق الجهات المعنية باليمن، ولذلك ينبغي تسجيل المحررات السابق تحريرها على استحداث نظام الأمين الشرعي من غير حاجة إلى تعريف الأمين الشرعي الحالي بها شريطة ان يكون صاحبها هو الحائز الشرعي والفعلي للعقارات المطلوب تسجيلها، اما بالنسبة للمحررات التي تم تحريرها في المناطق التي لا يتواجد فيها أمين فيتولى الأمين الأقرب اليها التعريف بالخط والمصادقة على المحرر وكذا الحال بالنسبة للمحررات التي قام بتحريرها اشخاص من غير الأمناء فيتم التعريف بخطها والمصادقة عليها من قبل الأمين المختص مكانياً أو الاقرب إلى المكان، طبعاً هذه المعالجات تمليها المصلحة الوطنية العليا لغرض معالجة إشكاليات قائمة وموجودة فلا يجوز الاسترشاد بها او العمل على شاكلتها مستقبلاً.
الوجه الثامن : واجب الأمين الشرعي في التحقق من إستيفاء التصرف للشروط الشرعية والقانونية قبل تحرير التصرف:
اوجب قانون التوثيق على الأمين ان يتحرى ويتأكد من إستيفاء التصرف للشروط الشرعية والقانونية قبل تحرير التصرف، فعليه ان يتأكد من ملكية البائع لما يبيع عن طريق الاطلاع على أصول المحررات الدالة على الملكية سواء اكانت بصائر شراء او فصول او وقفية او وصية او نذر...الخ ويجب على الامين ان يتحقق من صحتها وسلامتها وبعد ذلك يجب على الأمين ان يتحقق من شخصية البائع من خلال الوثائق الرسمية المقررة قانوناً لإثبات الهوية والشخصية كالبطاقة الشخصية وعدم إعتماد التعريف بالأشخاص المتعاقدين فالواجب في كل الاحوال التحقق من شخصيات المتعاقدين عن طريق الوثائق الرسمية المعدة لإثبات هوياتهم، اما اذا كان البائع وكيلاً عن المالك فيجب على الأمين ان يتأكد من صحة الوكالة وسلامتها وانها صادرة من المالك بالفعل وان تكون تاريخ الوكالة حديثاً وان تكون الوكالة خاصة وليست توكيل عام ، واذا كان المبيع يخص ورثة فعلى الأمين ان يتأكد من حكم إثبات انحصار الورثة للتأكد من الورثة وما اذا كان من بينهم قاصراً كالطفل والمجنون لتلافي اوجه القصور والعيوب التي اشار اليها الحكم محل تعليقنا، ولا شك ان الأمين الشرعي أو غيره يكون مسئولاً جزائياً وتأديبياً ومدنياً إذا لم يقم بهذه الواجبات، لأنه حينئذ يكون قد اخل بالواجبات المحددة قانوناً، وقد لاحظنا ان الحكم محل تعليقنا قد راعى ان المتهم كان كبيراً في السن فاكتفى بالحكم بمنعه مستقبلاً من تحرير أية وثيقة والزامه بتحرير تعهد كتابي بذلك(صفة المتعاقدين عند التعاقد- محاضرة للامناء الشرعيين،ا.د.عبدالمؤمن شجاع الدين،ص8).
الوجه التاسع: الاثار الخطيرة المترتبة على عدم التأكد من إستيفاء التصرف للشروط الشرعية والقانونية قبل تحريره:
اشار الحكم محل تعليقنا إلى ان عصابات نهب الأراضي تعتمد في نشاطاتها الإجرامية على اشخاص غير مؤهلين وغير مرخص لهم بتحرير التصرفات وعلى الأشخاص الذين لا يقومون بالتأكد من صحة وسلامة العقود والتصرفات قبل تحريرها فلا يتحققون من توفر المستندات اللازمة لإجراء البيع والشراء مثل سند ملكية البائع وإثبات انحصار الورثة والتوكيل الصادر منهم للوكيل البائع، ولا ريب ان تحرير التصرفات دون التأكد من المسائل المشار اليها يؤدي إلى فتن ومفاسد عظيمة تصل في حالات كثيرة إلى قتل وثارات ومشاكل تهدد الأمن والسلم الإجتماعي مثلما اشار الحكم محل تعليقنا، والله اعلم.