لزوم تحديد تاريخ وقوع الجريمة

 

لزوم تحديد تاريخ وقوع الجريمة

أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين

الاستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء 

ترد عبارة (في تاريخ سابق قام المتهم بكذا وكذا) ترد هذه العبارة في قرارات الاتهام وتبعا لذلك ترد في احكام القضاء, وهذه العبارة تدل على ان تاريخ وقوع الجريمة او المخالفة مجهول  ؛ وتترتب على هذه الجهالة اثار بالغة الخطورة منها تعطيل احكام التقادم التي اساسها تحديد تاريخ وقوع الجريمة او المخالفة بالضبط ؛  وحتى يتم تسليط الضوء على هذه المسألة المهمة نجد انه من المناسب التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 5/1/2011م في الطعن الجزائي رقم (39954) لسنة 1432هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان احد المواطنين قام بالبناء بموجب رخصة منتهية الصلاحية وفي اثناء البناء احدث بروزا تضرر منه  الشارع مخالفا بذلك لتخطيط الشارع فقامت نيابة المخالفات بتقديمه الى المحاكمة متهمة اياه (بانه في تاريخ سابق) قام ببناء  بروز الى الشارع مخالفا بذلك قانون البناء فدفع المتهم امام المحكمة المختصة بانه لم يقم ببناء ذلك  المنزل وانما اشترى والده المنزل الذي به بروز الى الشارع العام ؛ فقضت محكمة اول درجة بإدانته بالمخالفة وهي بناء بروز الى شارع خدمي وقضت بتغريمه وازالة البروز المخالف, فقام صاحب البناء باستئناف الحكم وتضمن استئنافه انه لم يقم ببناء البروز المخالف في ذلك المنزل  وانما  انتقل اليه المنزل  من والده الذي اشتراه  من مالكه السابق وكان البروز مبنيا من عهد المالك السابق ؛ ولكن محكمة الاستئناف حكمت برفض الاستئناف وتأييد الحكم الابتدائي فلم يقنع صاحب البناء الذي بادر بالطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي امام المحكمة العليا التي قبلت الطعن ونقضت الحكم الاستئنافي ؛ وقد جاء في اسباب حكم المحكمة العليا (اما في الموضوع : فما نعى به الطاعن من مخالفة الحكم المطعون فيه للإجراءات وانقضاء الدعوى بالتقادم وفقا للفقرة (4) من المادة (42) اجراءات والمادة (7) من قانون الاحكام العامة للمخالفات التي تنص على ان (ينقضي الاتهام بوفاة المخالف او بمضي سنة على وقوع المخالفة دون اتخاذ اجراء فيها ولا يجوز ان تطول هذه المدة لأكثر من نصفها واذا وجدت اسباب توقف الاجراء وتقطع المدة .....الخ) فالدائرة تجد ان ما ورد في الطعن في محله فالثابت في اوراق القضية ان المحكمة الابتدائية ومن بعدها محكمة الاستئناف لم تحقق ذلك الدفع وتستوضح متى ارتكبت المخالفة بالتحديد لأنه لا يكفي القول في قرار الاتهام بانه في تاريخ سابق على تاريخ كذا فالواجب على النيابة ومحكمة الموضوع تحديد تاريخ وقوع المخالفة بدقة لان تحديد التاريخ مهم في مثل هذه القضايا لمعرفة التقادم طبقا لنص المادة (7) من قانون المخالفات, الامر الذي كان يجب على المحكمة استظهاره بجلاء وهل الطاعن هو من ارتكب المخالفة ام والده؟ ولما كان الامر كذلك ولم تفصل محكمة الموضوع في ذلك فصلا سائغا وواضحا فانه يتعين قبول الطعن موضوعا ونقض الحكم الاستئنافي المطعون فيه واعادة الملف الى محكمة الاستئناف للفصل في القضية مجددا وفقا للقانون) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب ما هو مبين في الاوجه الاتية :

الوجه الاول : اهمية تحديد تاريخ وقوع الجريمة او المخالفة والاثار المترتبة عليه :

تاريخ وقوع الجريمة او المخالفة من اهم البيانات الواجب تحديدها عند توجيه التهمة او الحكم بإدانة المتهم بارتكابها, فمن غير المقبول شرعا وقانونا ان تقوم سلطة الاتهام باتهام شخص بجريمة او مخالفة دون ان تعلم هي بالضبط تاريخ قيام الشخص بارتكاب  الفعل المخالف كما انه ليس من المنطقي ان يتهم الشخص بتهمة لم يتم مواجهته بتاريخ وقوعها وكذلك الحال بالنسبة للمحكمة فمن غير المقبول ان تدين شخصا بارتكاب جريمة او مخالفة دون ان تعلم المحكمةبتاريخ وقوعها بالضبط, فتلك جهالة ترفضها  مبادئ الشريعة وقواعد القانون فضلا عن ان ذلك يخل بحق الدفاع ووسائل الاثبات لجريمة لا يعلم تاريخ وقوعها الا الله !!! بل ان عدم تحديد وقت ارتكاب الجريمة يؤدي الى تعذر تطبيق احكام التقادم مثلما اشار الحكم محل تعليقنا ؛ كما ان عدم تحديد وقت وقوع الجريمة يسرب الشك الى سلامة اجراءات التحقيق فاذا لم تستطع جهة التحقيق تحديد تاريخ وقوع الجريمة او المخالفة كأهم بيان من بيانات التهمة فان ذلك يدل على انها لم تقم بواجبها في تحقيق التهمة على الوجه المطلوب وان الاجراءات التي توصلت اليها محل شك .

الوجه الثاني : كيفية تحديد وقت ارتكاب الجريمة :

في غالب الاحيان يكون من اليسير تحديد وقت ارتكاب الجريمة, الا انه في بعض الحالات وبعض الجرائم والمخالفات يتعذر تحديد هذا الوقتبالضبط, وفي هذه الحالة يمكن الاستعاضة عن تحديد وقت وقوع الجريمة بتاريخ علم او اكتشاف الجهة المعنية للمخالفة او الجريمة, فمن المعلوم شرعا وقانونا ان ترتيب الاثار القانونية على الفعل الجرمي يكون من تاريخ وقوعه فعلا او من تاريخ االعلم به او اكتشاف الجهة المعنية لهذا الفعل, ولذلك تستطيع النيابة اذا تعذر عليها تحديد وقت ارتكاب الجريمة بالضبط  تستطيع عندئذ ان تركن الى تاريخ العلم او اكتشاف الجريمة او المخالفة او ضبطها بدلا من تاريخ وقوعها وترتيب كافة الاثار على تاريخ الضبط واكتشاف المخالفة او العلم بها, وهذا ما يتم العمل به في دول العالم .

الوجه الثالث : خطورة تطبيق احكام التقادم على بعض مخالفات البناء :

تتجه القوانين في اغلب دول العالم في اطار مكافحة جرائم الفساد والاعتداء على الاموال العامة والجرائم المضرة بالمصلحة العامة الى منع سريان احكام التقادم على هذه الجرائم حتى لا يكون الجناة بمنائ عن المسئولية الجزائية وحتى لا يتعذر هؤلاء الجناة بأحكام التقادم للإفلات من العقاب, وقد اتجهت بعض القوانين اليمنية الى هذه الوجهة مثل قانون مكافحة الفساد و القانون المالي الا ان قانون الاحكام العامة للمخالفات الذي صدر عام 1994م وكذا قانون الاجراءات الجزائية الصادر عام 1994م قد جعلا احكام التقادم عامة بالنسبة لكافة الجرائم حتى الجرائم المضرة بالأموال والمصالح العامة فمثلا تنص المادة (38) اجراءات على ان (ينقضي الحق في سماع الدعوى الجزائية في الجرائم الجسيمة بمضي عشر سنوات من يوم وقوع الجريمة فيما عدا الجرائم المعاقب عليها بالقصاص او تكون الدية او الأرش احدى العقوبات المقررة لها وفي الجرائم غير الجسيمة بمضي ثلاث سنوات من يوم وقوع الجريمة .....الخ) في حين نصت المادة (7) من قانون الاحكام العامة للمخالفات على ان (ينقضي الاتهام بوفاة المخالف او بمضي سنة على وقوع المخالفة دون اتخاذ اجراء ولا يجوز ان تطول هذه المدة لأكثر من نصفها اذا وجدت اسباب توقف الاجراء وتقطع المدة) وبتطبيق هذا النص على المخالفة التي اشار اليها الحكم محل تعليقنا وهي قيام المخالف بإحداث بروز في مبناه مما يجعل الشارع العام ضيقا فان هذه المخالفة تتقادم بمضي سنة !!! وعلى المجتمع ان يقبل بهذا الوضع الشاذ وان تنقص مصلحة الناس في الشارع وان يلحقهم الضيق والعنت بصفة دائمة لان المخالفة قد تقادمت !!! وربما ان محكمتا الموضوع لم تلتفتا  الى دفع صاحب المبني لان قاضي الموضوع لم يكن مقتنعا بعدالة احكام التقادم في هذه الحالة, ولذلك نوصي القانون اليمني بإعادة النظر في احكام التقادم بالنسبة للجرائم والمخالفات الماسة بالمال العام او الحق والصالح  العام, وان تكون لهذا الموضوع  الاولوية عند اجراء اية اصلاحات تشريعية لضمان النزاهة ومحاربة الفساد، والله اعلم.