مسئولية الجهات الحكومية عن اخطاء السائقين التابعين لها
أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين
استاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء
من الاشكاليات العملية والواقعية التي يتكرر وقوعها عدم احترام سائقي
السيارات الحكومية وما في حكمها لنظم وقواعد السير لان الجهات التي يتبعونها في
الغالب تتحمل تبعات المخالفات التي يرتكبونها وتترتب تلك المخالفات مبالغ باهضة
تتحملها الخزينة العامة بدون وجه حق وهذا مظهر من مظاهر الفسادالاداري والمالي ؛
اضافة الى انه في هذه الحالة تتم المجازفة
في تقدير اورش الجنايات او الاصابات التي تحدث بسبب السرعة الجنونية لهولاء
السائقين المتهورين حيث يتم تقدير الاروش
في حالات الجنايات المتعددة بمبلغ اجمالي
مقطوع دون بيان أرش كل جناية بالإضافة الى عدم تحديد نسبة العجز او تعطيل منفعة
العضو او الحاسة حتى يكون هناك تناسب فيما بين الارش والجناية , ولا شك ان هنالك
اسباب واثار تترتب على هذه الظاهرة الشائعة؛ كما ان المحكمة العليا تؤدي تصويب
الاخطاء التي قد تشوب بعض الاحكام الصادرة عن محاكم الموضوع , ولذلك نجد انه من
المفيد تسليط الضوء على مسئولية الجهة الحكومية عن مخالفات السائقين التابعين لها
ولفت الانظار اليها وذلك بمناسبة التعليق الموجز
على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ
26/12/2010م وذلك في الطعن الجزائي رقم (39742) لسنة 1431هـ وتتلخص وقائع القضية
التي تناولها هذا الحكم ان دراجة نارية عليها سائقها وخلفه راكب كان سائقها مخالفا
يسوق الدراجة في الاتجاه المعاكس فجاءت سيارة مسرعة تابعة لمؤسسة حكومية كانت
السيارة تسير في خط سيرها المحدد مسرعة فاصطدمت بالدراجة وترتب على ذلك وفاة سائق
الدراجة على الفور وحدوث اصابات بالغة بالراكب على الدراجة وقد احالت النيابة العامة
القضية الى محكمة المرور التي خلصت الى الحكم (بتغريم سائق سيارة المؤسسة مبلغ
ثلاثون الف ريال في الحق العام يورد الى الخزينة العامة اضافة الى مدة الحبس التي
قضاها في السجن على ذمة القضية وكذا تغريم المسئول عن المركبة في المؤسسة الحكومية
مبلغ وقدره خمسة الاف ريال حقا عاما للدولة لتسليمه المركبة الالية المسئول عنها
للسائق الذي لا يحمل رخصة قيادة والزام السائق بتسليم ارش المجني عليه مبلغ وقدره
ثمانية ملايين وخمسمائة وستون الف ريال من اصل ارش الخطأ وبموجب القرارين الطبيين
بالإضافة الى الزام السائق بدفع مبلغ مليون ريال من تكاليف العلاج والاغرام
والمخاسير والتعويضات مع شمولية هذه الفقرة بالنفاذ المعجل ويتم دفع المبالغ
المحكوم بها بموجب هذا الحكم من المؤسسة العامة الحكومية ومن شركة التأمين
بالتضامن, وللمؤسسة العامة الحكومية حق الرجوع بما سلمت على تابعها ان ارادت ويخصم
من ارش المجني عليه ما ثبت تسليمه له وهو مبلغ سبعمائة وخمسون الف ريال) وقد ورد
ضمن اسباب الحكم الابتدائي؛(فقد
اقر المتهم صراحة بوقوع الحادث ونتائجه وصدمه للدراجة النارية ومن عليها . واقراره
الصريح بتحكيمه لورثة المجني عليه) إلا ان المؤسسة الحكومية لم تقبل بالحكم
الابتدائي فقامت باستئنافه ؛ إلا ان محكمة الاستئناف رفضت عريضة الطعن بالاستئناف
وقضت بتأييد الحكم الابتدائي , وقد ورد ضمن اسباب الحكم الاستئنافي (اما من حيث
الموضوع فان محامي المؤسسة الحكومية المستأنفة قد عاب على الحكم الابتدائي مخالفته
للقانون لان سائق الدراجة هو المتسبب في الحادثة حينما ساق الدراجة في الاتجاه
المعاكس وحيث تبين ان هذا الدفاع وغيره من قبل محامي المؤسسة سبق ما يكذبه
بحصول الاقرار بخطأ سائق المؤسسة من
قبل السائق نفسه حيث تصالح مع ورثة المتوفي سائق الدراجة وتسليمه المبلغ المتصالح
عليه الوارد في مرقوم التصالح بمبلغ وقدره مليون ومائتا الف ريال شاملا ذلك ثمن الدراجة النارية التي تلفت جراء الحادث
فهذا الاقرار من المتهم نفسه حتى ان ورثة سائق الدراجة لم يرفعوا اي دعوى اوطلب
بحقهم, اضافة ان المتهم نفسه لم يستأنف الحكم الابتدائي ولذلك فانه لا يجدي
المؤسسة نفعا ان تنصب نفسها بدلا عن المتهم وتنكر نيابة عن المتهم واقعة جنائية
المتهم هو المسئول عنها شخصيا) ايضا لم تقبل المؤسسة الحكم الاستئنافي فقامت
بالطعن فيه بالنقض امام المحكمة العليا, وقد قبلت المحكمة العليالطعن ونقضت الحكم
الاستئنافي, وقد ورد ضمن اسباب حكم المحكمة العليا (وفي الموضوع وبالوقوف امام
المناعي الواردة في اسباب الطعن تجد الدائرة ان بعضها محل نظر وهي المتعلقة بموضوع
تقدير مبلغ التعويض المحكوم به على الطاعنة و ذهاب محكمة الموضوع الى ابعد ما
تضمنته التقارير الطبية فبالرجوع الى اوراق القضية وبالذات التقارير الطبية فقد
وجدت الدائرة انها تضمنت الاصابات الاتية : ارتجاجا دماغيا وكسورا في الاضلاع
وكسور في عضلة الساعد الايسر وجرحا في فروة الرأس ومن ثم سيكون الارش المستحق
للمجني عليه المطعون ضده ثلاث ناقلات ودامية وليست موضحتين كما جاء في حكم محكمة
اول درجة بالإضافة الى ارش الاصابة الاولى المتعلقة بالدماغ كما اوضحها تقرير
اللجنة الطبية ومما تجدر الاشارة اليه ما اتسم به الحكم محل الطعن المؤيد للحكم
الابتدائي من قصور في التسبيب لعدم بيان قناعة محكمة الموضوع في عدم تحديد نسبة
العجز الواردة في التقرير الطبي الخاص بالدماغ ومدى تاثيرهعلى بقية اعضاء جسم
المجني عليه حيث يجب على المحكمة عرض المجني عليه على لجنه طبية مختصة لتقدير نسبة
العجز على باقي الاصابات مع بيان واضح لمقدار الارش المستحق للمطعون ضده وان
لايكون ذلك جزافا مثلما حددته محكمة الموضوع بست ديات اما بالنسبة لموضوع الدعوى
العامة فلا تختص المؤسسة الطاعنة في الادعاء بها من حيث ثبوتها من عدمه او
المجادلة في الادلة المقدمة التي اقتنعت بها محكمة الموضوع فلا محل لنعي الطاعنة
في هذا الشأن) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب ما هو مبين في الاوجه الاتية :
الوجه الاول : التكييف الشرعي والقانوني للأرش :
من المقرر في الشريعة وقانون الجرائم والعقوبات ان الارش عقوبة مقدرة, ولان
الارش عقوبة مقدرة فينبغي ان تكون منضبطة غير متفاوتة بتفاوت الاشخاص سواء بالنسبة
للجاني او المجني عليه ولذلك ينبغي ان لا تكون العقوبة المقدرة متفاوتة بتفاوت
الاشخاص لأنها عقوبة مقدرة بقدر معين
ولذلك فدية او ارش الوضيع مثل دية او ارش الشريف ودية وارش العالم مثل دية وارش
الجاهل فهذه الصفات لا اعتبار لها عند تطبيق عقوبة الدية او الارش, وفي هذه
المسألة يختلف الارش والدية عن التعويض الذي يتفاوت بتفاوت الاشخاص فتعويض العازف
الفنان عن اصابته في يده غير التعويض الذي يحكم به لغيره وهكذا, فالتعويض غير مقدر
والدية والارش مقدران, فالأرش والديه عقوبة مالية وان كانت لا تدفع الى الخزينة
العامة وانما الى المجني عليه او اولياء دمه لان حق العبد فيه غالب فتدفع هذه
العقوبة الى المجني عليه او اولياء دمه بخلاف العقوبات المالية الاخرى التي يجب ان
يتم دفعها الى الخزينة العامة كالغرامة باعتبارها عقوبة, وكون الدية والارش عقوبة
مالية ميزة امتاز بها التشريع الاسلامي عن القوانين الوضعية, وقد استفاد من هذه
الميزة المؤلفون المعاصرون حينما تناولوا موضوع العدالة التصالحية الذي يتداول هذه
الايام بكثرة, ومن المعلوم ان الارش والدية مترادفان عند بعض العلماء في حين يذهب
بعضهم الاخر الى ان الدية تطلق على الجناية على النفس والارش مصطلح يطلق على
الجناية على ما دون النفس .
الوجه الثاني : تحديد الاروش بمبلغ مقطوع :
لاحظنا ان حكم المحكمة العليا نقض الحكم الاستئنافي المؤيد للحكم الابتدائي
الذي حدد اروش الجنايات التي لحقت بالمجني عليه بمبلغ اجمالي مقطوع وهو مبلغ ثمانية ملايين وخمسمائة وستون
الف ريال دون ان يحدد ارش كل جناية على حدة لان الدية او الارش يتم احتسابها على
اساس نسبة من الدية هو عقوبة مقدرة لذلك ينبغي تقدير ارش كل جناية على حدة لان
الارش في هذه الحالة عقوبة على قدر الجناية او الاصابة, وتصويب حكم المحكمة العليا
ينطلق من فهم عميق للتكييف الشرعي والقانوني للدية والارش باعتبارهما عقوبة شرعية
مقدرة لا مجال للمجازفة اوالاجمال فيهما .
الوجه الثالث : الجناية التي تذهب منفعة العضو يجب ان يتم تحديد نسبة العجز او ذهاب المنفعة:
الارش مقرر في الشريعة و القانون على قطع العضو واستئصاله او اذهاب منفعته
من غير قطع او استئصال ؛وفي العصور الماضية لم تكن هناك اجهزة طبية دقيقة يتم عن
طريقها قياس نسبة ذهاب منفعة العضو 50% من المنفعة او 100% من المنفعة وهكذا حتى
يتم تحديد ارش الجناية على هذا الاساس, اما في العصر الحاضر فقد وجدت هذه الاجهزة
الطبية التي تستطيع القيام بذلك حتى يتم تحديد ارش الجناية على قدر العجز الذي حصل
في منفعة العضو لان العجز قد يكون كليا كما قد يكون جزئيا والارش يتفاوت على قدر
هذا التفاوت لأنه عقوبة مقدرة بقدر الاصابة ومقدرة بأمر الشرع والقانون, ولذا فقد
وجدنا حكم المحكمة العليا يقف عند الجناية التي اصابت المجني عليه في الدماغ
(ارتجاج في الدماغ) دون ان يحدد التقرير الطبي نسبة العجز الذي لحق بدماغ المجني
عليه هل هو عجز كلي ام جزئي واذا كان جزئيا فينبغي على التقرير الطبي ان يبين
بالضبط نسبة العجز وكذا ينبغي بيان تاثير هذا العجز على بقية اعضاء المجني عليه
حسبما ورد في اسباب حكم المحكمة العليا, وهذا تصويب واستدراك جميل من المحكمة
العليا .
الوجه الرابع : تحميل المؤسسة الحكومية ست ديات جزافا :
من خلال مطالعة الحكم محل تعليقنا نجد ان المركبة او السيارة التي اصطدمت
بالدراجة النارية تابعة لمؤسسة حكومية, وملكية المؤسسة الحكومية للمركبة لا يعني
انها الحائز للسيارة؛ فالسيارة في حيازة السائق ومدير الحركة في المؤسسة وفقا
للمادة (317) مدني التي نصت على ان (حائز الشيء الذي يتطلب عناية خاصة او حراسة
كالآلات الميكانيكية يكون مسئولا عما يحدثه هذا الشيء من الضرر على الغير ما لم
يثبت ان وقوع الضرر كان بسبب اجنبي لا يد له فيه) ولذلك فالمسئول عن تحمل تبعة
الحادث المروري بما فيها الاروش والديات هو سائق السيارة الذي كان مسرعا في سيره
بالسيارة لان الارش كما سبق القول عقوبة يتحملهاالسائق الذي ارتكب المخالفة او
الجريمة لان المسئولية الجزائية شخصية بموجب احكام الشرع والدستور والقانون اضافة الى ان سائق
المركبة لم يكن يحمل رخصة قيادة ولذلك فان الشرع والقانون يقررا ان المسئول جنائيا
ومدنيا عن نتائج الحادث المروري هو السائق ومدير الحركة وليس المؤسسة, ولكن قلة
الوعي بالمال العام وقواعد المسئولية والتساهل في حماية المال العام جعلت الامر
على هذا النحو, وهذا يفسر صدورالحكم الابتدائي على المؤسسة بان تدفع ست ديات جزافا
بالاشتراك مع شركة التأمين, وطبعا تم تحميل المؤسسة هذه المبالغ لان مبلغ التأمين
على حادث السيارة كان يقل كثيرا عن الست الديات, ولذلك فان ثقافة التفريط بالمال
العام والحق العام في هذا الجانب هي التي تجعل السيارات الحكومية وما في حكمها
تسير بسرعة جنونية لان الدولة هي التي تتحمل تبعات اي حادث لهذه السيارات .
الوجه الخامس : الحادث المروري ومسئولية المتبوع عن اعمال تابعيه :
من خلال مطالعة الحكم محل تعليقنا نجد انه قد تأسس في تحميله المؤسسة
الحكومية تبعة الحادث الذي وقع من السائق التابع لها تأسس الحكم على مسئولية
المتبوع عن اعمال تابعيه ؛فمن خلال المطالعة لما قضى به الحكم الابتدائي نجد انه
قد الزم المؤسسة الحكومية بدفع الديات
الست مستندا في ذلك الى قواعد مسئولية المتبوع عن اعمال تابعيه باعتبار السائق للسيارة موظفا تابعا للمؤسسة
الحكومية, وهذا يقتضي الاشارة الى النص القانوني الذي يحدد مسئولية المتبوع عن
اعمال تابعيه وهو المادة (313) مدني التي نصت على ان (يكون المتبوع مسئولا عن
الضرر الذي يحدثه تابعه بعمل غير مشروع امره به فان عمل التابع عملا غير مشروع اضر
بالغير ولم يأمره المتبوع كانت المسئولية على التابع وعلى المتبوع ان يحضر العامل
لتعويض الضرر الذي احدثه) وعند استقراء هذا النص القانوني وتطبيقه على حكم محكمة
الموضوع الذي نقضته المحكمة العليا نجد ان مسئولية المتبوع عن اعمال تابعيه لا
تنطبق على السائق الذي ارتكب الحادث المروري لان المؤسسة الحكومية او المسئول
المختص فيها لم يأمر السائق بأن يدهس الدراجة النارية وسائقها والراكب عليها, وفي
الوقت ذاته فان حكم محكمة الموضوع قد قضى بأنه يحق للمؤسسة الرجوع على السائق
التابع لها .
الوجه السادس : مخالفات الدراجات النارية بدون عقاب :
الدرجات النارية وفقا لقانون المرور النافذ ليست مركبة وبناء على ذلك فان
الدراجة النارية تعد من المشاة ولذلك فان مخالفاتها بل وجرائمها خارج نطاق القانون
والمسألة القانونية, وهذا يفسر الطيش والجنون في قيادة الدراجات النارية في اليمن,
ولذلك نجد ان سائق الدراجة مع انه قد دفع
حياته ثمنا لمخالفته وسيره في الاتجاه المعاكس الا انه لم يتحمل اي تبعة مالية عن
الحادث, لان موته يسقط مسئوليته الجزائية دون غيرها، والله اعلم.