مسئولية حائز البناء عن تهدمه فوق الغير

 

مسئولية حائز البناء عن تهدمه فوق الغير

أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

حوادث تهدم الابنية وملحقاتها في اثناء الانشاء وغيره وتسببها في وفاة العمال فيها واصابتهم ليست نادرة ، وهذه الحوادث تثير إشكاليات قانونية وواقعية كثيرة بشأن المسئولية المترتبة عن هذه الحوادث، ولذلك فقد اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 23/4/2013م في الطعن الجزائي رقم (45901) وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم أن مالك منزل استقدم عمالاً بالاجر اليومي لحفر بيارة للمنزل حيث قام العمال بالحفر واخراج التراب إلى حافة البيارة وتكويمه في جهة واحدة من حافة البيارة اكواماً مرتفعة ،وفي اثناء استمرار العمال في الحفر داخل البيارة انزلق التراب المكوم إلى داخل البيارة وترتب على ذلك وفاة خمسة عمال وإصابة اثنين فقامت النيابة العامة بتقديم الدعوى الجزائية على حائز العقار تلذي تتبعه البيارة بأنه تسبب بخطائه في موت خمسة عمال وإصابة اثنين نتيجة اخلاله بما تفرضه عليه أصول الوظيفة المهنية والحرفة ومخالفته للقوانين واللوائح والأنظمة بأن قام بنفسه بتنفيذ بيارة لمنزله بدون مهندس كما انه توسع في الحفر زيادة على ما ورد في الترخيص الممنوح له من مكتب الاشغال مما ادى إلى انهيار الكوم الترابي من حافة البيارة إلى فوق العمال داخل البيارة مما تسبب في وفاة وإصابة المذكورين الامر المعاقب عليه  وفقاً لاحكام المادتين (238 و 245) عقوبات، وقد توصلت محكمة أول درجة إلى الحكم بإدانة المتهم بالتهمة المسندة له في قرار الاتهام وتغريمه خمسين ألف ريال في الحق العام وإلزامه بتسليم نصيب القاصرين من دية أحد المتوفيين أما بقية القتلى والمصابين فقد تنازل اولياء الدم والمصابين عن حقهم،وقد ورد ضمن  اسباب الحكم :ولثبوت صدور الخطأ من صاحب البيارة حسبما ورد في تقرير الخبراء المهندسين الذين ذكروا أن الحفر بدأ بالشيول ثم بالعمال وأن صاحب البيارة تجاوز الترخيص الممنوح له، فلم يقبل صاحب البيارة بالحكم الابتدائي فقام باستئنافه وذكر في استئنافه أنه قد سلم نصيب القاصرين من دية أبيهما إلى جدهما إلا أن الشعبة الجزائية رفضت الاستئناف وقضت بتأييد الحكم الابتدائي مسببة حكمها بأن التنازل لا يسري على القاصرين كما أن القانون قد قرر بأن يتم ايداع نصيب القاصرين في بنك إسلامي أو لدى النيابة ، فلم يقنع صاحب البيارة بالحكم الاستئنافي فقام بالطعن فيه بالنقض إلا أن الدائرة الجزائية أقرت الحكم الاستئنافي وقد جاء في حكم المحكمة العليا (فقد وجدت الدائرة أن ما نعاه الطاعن من أن المحكمة مصدرة الحكم المطعون فيه لم تفصل في دفعه الذي تقدم به أمام محكمة أول درجة بخصوص التنازل كليا عن الديةً وقوله بان المحكمة :حكمت بالاغرام التي لم تثبت بأي دليل إضافة إلى قوله بان تنازل جد القاصرين قد تنازل عن الدية كاملة وهو الذي له الولاية  على القاصرات ... والدائرة تجد أن هذه المطاعن في غير محلها لان محكمة الموضوع قد بينت في حكمها أن تنازل الجد عن نصيب القاصرتين من دية ابيهما غير جائز شرعاً وقانوناً، فالجد حتى وأن كانت له ولاية على القاصرتين ،فالولاية مقصورة على المحافظة عليهن وعلى أموالهن فقط فذلك لا يجيز للولي التنازل عن نصيب القاصرات) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الوجوه الاتية :

الوجه الأول : المسئولية الجزائية لصاحب البيارة :

من خلال مطالعة الحكم محل تعليقنا نجد أن القضية كانت جزائية حيث قامت النيابة العامة بتحريك الدعوى الجزائية ورفعها أمام القضاء الجزائي وتكييفها على أنها قتل خطأ حيث استند قرار الاتهام إلى المادة (228) عقوبات التي قررت عقوبة القتل غير العمد حيث نصت هذه المادة على أن (يعاقب بالدية من تسبب بخطئه في موت شخص ويجوز فوق ذلك تعزير الجاني بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات أو بالغرامة فاذا وقعت الجريمة نتيجة إخلال الجاني بما تفرضه عليه أصول وظيفته أو مهنته أو حرفته أو مخالفته للقوانين واللوائح أو كان تحت تأثير سكر او تخدير عند وقوع الحادث كان التعزير الحبس مدة لا تزيد عن خمس سنوات) وقد لاحظنا من خلال وقائع القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا أن صاحب البيارة قد خالف الأصول والتدابير المتبعة عندما وجه العمال بجمع التراب وتكويمه في جانب واحد من حافة البيارة مما أدى الى انهيار الجدار السائد للتراب القائم على حافة البيارة وسقوط التراب إلى داخل البيارة ودفن المجني عليهم داخل البيارة، إضافة إلى أن صاحب البيارة قد خالف الترخيص الممنوح له من الجهة المختصة قانوناً حيث توسع في عمق البيارة وعرضها، ولذلك فقد قضى الحكم محل تعليقنا بإدانة المتهم وتغريمه باعتباره مسئولاً مسئولية جزائية عن انزلاق التراب المتراكم إلى داخل البيارة ودفن المجني عليهم ووفاة خمسة منهم واصابة اثنين.

الوجه الثاني : المسئولية المدنية عن انزلاق التراب ودفن العمال :

ذكرنا في الوجه الأول في سياق المسئولية الجزائية على أن أساس المسئولية الجزائية هو اهمال وتقصير صاحب البيارة وأن ذلك خطأ منه قد تسبب في حدوث القتل الخطأ للعمال والجرح والايذاء لبعضهم، وعلى هذا الاساس تتأسس ايضا المسئولية المدنية لصاحب البيارة ، أي أن المسئولية المدنية تتأسس على الخطأ أو التقصير الصادر من صاحب البيارة ، فهذا الخطأ قد تسبب في لحوق الضرر بالمجني عليهم، وبذلك تتحقق اركان المسئولية التقصيرية المنصوص عليها في القانون، وتبعا لذلكً يكون صاحب البيارة مسئولاً عن تعويض العمال عما لحقهم من ضرر أو فاتهم من كسب جراء خطأ صاحب البيارة وتسببه في انزلاق التراب إلى داخل البيارة ودفن العمال داخلها.

الوجه الثالث : استحقاق اولياء دم العمال والعمال المصابين للديات والأروش والتعويضات :

ذكرنا فيما سبق أن صاحب البيارة مسئول جزائياً ولذلك تم الحكم عليه بالغرامة فيما يتعلق بالحق العام وكانت المحكمة ستحكم عليه بالديات لاولياء دم المجني عليهم وللمصابين من المجني عليهم باعتبار الديات والأروش عقوبات يتم الحكم بها وكذلك بالنسبة للأروش المستحقة للمصابين فالأرش عقوبة مالية يتم الحكم بها، إلا أنه من الملاحظ أن الحكم محل تعليقنا لم يتضمن الحكم بالديات والأروش، لأن أولياء الدم والمجني عليهم المصابين كانوا قد تنازلوا عن الديات والأروش والتعويضات وكانت محكمة الموضوع قد قبلت تنازلاتهم عدا نصيب القاصرتين من دية أبيهما التي قضى الحكم محل تعليقنا أنها لا تسقط حتى لو صرح جدهما الولي الشرعي لهما بأنه قد تنازل عن ذلك نيابة عنهما بصفته وليهما الشرعي، لان التنازل تصرف مضر محضاً بمصلحة القاصر، وما كان كذلك فلا يجوز لولي القاصر مباشرته.

الوجه الرابع : مسئولية حائز البناء عن وفاة واصابات العمال بالاجر اليومي :

العمال بالاجر اليومي هم الشريحة الواسعة من العمال وهم القطاع غير المنظم في اليمن، وتبعاً لذلك فان قانون العمل يقرر أن العمال بالاجر اليومي لا يخضعون لقانون العمل وتبعاً لذلك فانهم لا يتمتعون بالحقوق المقررة عن الاصابات والوفيات في اثناء عملهم ،وكذلك الحال بالنسبة لعدم شمول العمال بالاجر اليومي لقانون التأمينات الاجتماعية، إلا أن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال اهدار دماء هؤلاء الضعفاء ،ولذلك فأنه من المقرر قانوناً أن حائز البناء مسئول عن دفع ديات وأروش المصابين مالم يتنازلوا ، وفي هذا المعنى قررت المادة (317) مدني على أن (حائز البناء  ولو لم يكن مالكه مسئول عما يحدثه انهدام البناء من ضرر بسببه ولو كان انهداماً جزئياً مالم  يثبت أن الحادث لا يرجع سببه إلى اهمال في الصيانة أو قدم في البناء أو عيب فيه، ويجوز لمن كان مهدداً بضرر يصيبه من البناء أن يطالب مالكه باتخاذ التدابير الضرورية لدرء الخطر فاذا لم يقم بذلك جاز له الحصول على اذن من المحكمة في اتخاذ التدابير على حساب المالك)، والله اعلم.