علم القاضي وصلته بهيبة القضاء

 

علم القاضي وصلته بهيبة القضاء

أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء

هيبة القضاء وسيلة من اهم وسائل تحقيق العدل وتطبيق النظام والقانون وإقامة مجتمع العدل والمساواة الحرية، فهيبة القضاء ليست ميزة او مطلب للقضاء والقضاة بل هي هدف ومطلب مجتمعي للمجتمع بإسره الذي ينشد العدالة والمساواة والحرية، فلا يمكن ان تتحقق هذه القيم العظيمة إلا اذا كان هناك قضاء مهاب يحترمه جميع افراد المجتمع ويعظمونه ادراكاً لدوره في تطبيق تلك القيم والذب عنها، ومن هذا المنطلق فإن هناك أسس تقوم عليها هيبة القضاء من أهمها علم القاضي، فعلم القاضي أساس متين لهيبة القضاء، فالعلم دثار هيبة القاضي إضافة الى انه سلاح القاضي للدفاع عن حياده واستقلاله، كما ان العلم وسيلة القاضي لتطبيق العدل وتقرير الحقوق عن علم وفهم، فالقاضي العالم يستطيع ان يدرك الحقوق ووسائل إثباتها وإجراءات الوصول اليها وسلطته وحدودها في القضايا التي ينظر فيها، والقاضي العالم هو الأكثر قدرة وجدارة لمناقشة ادلة الخصوم المتقاضين وتسبيب الاحكام سواء كانت برفض الطلبات او قبولها، وخلال مراحل القاضي وسير إجراءات المحاكمة التي تتم علانية يدرك الجميع مدى علم القاضي وفهمه فيتناقل الناس الاخبار عن مدى المام القاضي وعلمه فيكون مهاب الجانب ويخشى الخصوم وغيرهم من المتدخلين في شؤون القضاة من التدليس او التلبيس او الكيد او التدخل في عمل القاضي، وكذلك يدرك الكثير مدى علم القاضي لان عمل القاضي وعلمه يظهر علانية من خلال الطعون في الاحكام التي يصدرها او الدراسة لها او التعليق عليها في الكتب والمحاضرات، بل ان علم القاضي سلاح فاعل يستطيع به القاضي مقارعة القضاة او الهيئات الأعلى منه التي تحاول التدخل في عمله، فالقاضي العالم يفند بعلمه الذرائع التي يتذرع بها هؤلاء للتدخل في عمل القاضي، ولأهمية علم القاضي فقد اشترط بعض العلماء ومنهم الزيدية ان يكون القاضي مجتهداً ولذلك كان يطلق على القاضي (القاضي العلامة) كما ان علم القاضي من اهم مكونات شخصية القاضي التي تجعله قوياً في الحق يستطيع مواجهة الذرائع والحجج والاباطيل بشجاعة وقوة، ولذلك من المقولات الشائعة في اليمن (من يفهم يتحكم) فالقاضي العالم يكون مرجعاً يرجع اليه في مشكلات القضايا، ولذلك كان من القضاة العلماء في العصور المختلفة من يكون قوله هو الفصل في القضايا والمشكلات على مستوى الوطن بإسره مع ان وظيفته قد تكون (قاض فرد في مديرية) حيث كان الافراد يحتكموا اليهم من مناطق ومديريات بعيدة، والمقصود بعلم القاضي  هنا ليس العلم الشرعي على أهميته او العلم القانوني وانما ايضاً العلم بالعلوم المتصلة بوظائف  القضاء، حيث كان القضاة في اليمن من اكثر الفئات التي كانت تدرك الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي تعمل في محيطه، ولذلك كان القضاة العلماء هو الجديرون لإدارة وحكم الدولة فكل أئمة اليمن السابقين كانوا قضاة عملوا بالقضاء وفصلوا في الخصومات، وفي العصر الجمهوري كان القضاة العلماء هم الذين يديرون شؤون البلاد مباشرة او بصورة غير مباشرة ولذلك ليس غريباً ان يكون القاضي الارياني رئيساً للجمهورية او يكون القاضيان الحجري والنعمان رئيساً للوزراء او ان يكون القاضي العرشي رئيساً لمجلس الشعب والقائمة تطول.

والأمانة العلمية تقتضي القول بان العلم الشرعي أساس لا بد منه  كي يتمتع القاضي بوصف العالم وبوصف الحاكم بصرف النظر عن تخصص القاضي، فالعلم الشرعي متطلب من متطلبات (العالم) كي يستحق القاضي الوصف الذي يطلق عليه في مرافعات الخصوم (القاضي العلامة) وهو وصف يظهر هيبة القاضي والقضاء، كما ان العلم الشرعي هو الذي كان يسبغ على القاضي لفظ (الحاكم) فالقاضي الحاكم كان يؤم المصلين ويبرم عقود الزواج وكان يفتي الناس في مسائل الدين (غير المعاملات) وكان هذا الامر مظهر من مظاهر هيبة القاضي، ولذلك كان كل المفتين في اليمن هم اصلاً قضاة علماء بدءً من القاضي العلامة زبارة مروراً بالقاضي الجرافي والعمراني، ولذلك فإن العلم الشرعي ضمانة من اهم ضمانات هيبة القضاء في المجتمع اليمني الذي يمثل الدين هويته وضميره، وتبعاً لهذا فإن محافظة القاضي على الشعائر الإسلامية مظهر من مظاهر هيبة القاضي، ولذا اذكر قبل خمس وعشرين سنة قال احد الأشخاص في مجلس عام كبير (مقيل) قال: ان قاضياً ذكره القائل ليس عالماً وكنت اعرف هذا القاضي تمام المعرفة، فقلت له: هذا القاضي من افضل القضاة، فقال: لقد رأيته في صلاة الجمعة لا يدخل المسجد المجاور لمنزله إلا بعد إقامة الصلاة، فرددت عليه: بأنك انت لا تصلي، فرد عليّ: بأنه ليس قاضياً ، وهذا يدل على العلاقة بين المحافظة على الشعائر والقضاء.

ولتخريج قضاة علماء مهابين الجانب ينبغي إعادة النظر في مفردات   دبلوم الشريعة الإسلامية في المعهد العالي للقضاة حتى تكون مفردات هذا الدبلوم معمقة بإعتبار الدراسة في المعهد من الدراسات العليا شريطة ان تكون هذه المواد المعمقة تخصصية يستفيد منها القاضي في عمله، كما ينبغي التصريح بأن الشهادة التي يحصل عليها القضاة من المعهد العالي للقضاء هي (ماجستير علمية) وليس ( ماجستير عملية مهنية)  وان هذه الماجستير تؤهل القاضي للالتحاق ببرنامج الدكتوراة كما ينبغي توفير التسهيلات المالية والإدارية وغيرها لتشجيع القضاة على الحصول على درجة الدكتوراة بإعتبارها شهادة (العالمية) في الوقت الحاضر-أي الشهادة بان الحاصل عليها عالم- ولن يتيسر ذلك إلا اذا قام المعهد العالي للقضاء بفتح برنامج الدكتوراة.

كما ينبغي ان لا تغيب عن البال برامج التعليم المستمر للقضاة عن طريق الدورات وورش العمل واللقاءات العلمية وحلقات النقاش التي تنعقد بين فترة وأخرى، والتي تتناول المسائل العلمية المستجدة والمؤلفات والاحكام والتطبيقات القضائية الجديدة.

وكذا من اللازم ان يهتم القاضي من تلقاء نفسه بتعليم نفسه بصفة مستمرة لمواكبة التطورات والمؤلفات الجديدة، مع التأكيد ان يخصص القاضي فترات معينة لمطالعاته المعمقة في مجال معين حتى تكون المعلومات  اثبت في ذهنه كما هو المتبع لدى الباحثين والعلماء حيث يخصص هؤلاء ثلاثة اشهر للمطالعة المعمقة في مجال معين تجمع فيها الكتب والمراجع المتخصصة في هذا المجال فيقوم بمطالعتها، لان المطالعة المعمقة تولد الفهم العميق والمترابط في ذهن العالم المطالع ولأنها تكون أثبت واحفظ في ذهنه، ولذلك تكون الدورات والبرامج متخصصة في مجال معين ولفترة معينة، لان المطالعة الفوضوية لا تولد معرفة ولا توجد علماً لانها سطحية، فبعض الأشخاص يطالع ساعة في اللغة وساعة في الادب وساعة في السياسة وساعة في القانون وساعة في الشريعة فهذه الطريقة وان كانت مناسبة في الدراسة الأولية التأسيسية إلا انها غير مناسبة البتة للقاضي او المتخصص الذي يحتاج الى الفهم والادراك العميق والمترابط للأشياء، ومع كثرة قنوات المعرفة والمعلومات وتعدد وسائلها ووسائطها ينبغي على القاضي حسن اختيار المراجع والبحوث المعمقة المتخصصة في موضوع معين دون المراجع العامة والمفردات العامة التي تجعل القاضي وغيره سطحياً في معارفه، وينبغي إيضاً تجنب كتابات المتعصبين الذين يوغرون صدر القاضي لأن روح التعصب معدية كالأمراض المعدية، وكذا ينبغي أن يكون علم القاضي وإدراكه متدرجاً إذ ينبغي عليه البدء بالإلمام والفهم التام والمتابعة الحثيثة للمصادر والمعارف ذات الصلة المباشرة بالعمل القضائي المسند إليه ثم يتدرج إلى المعارف ذات الصلة غير المباشرة والعلوم المساعدة على أن تكون مطالعة القاضي بأسلوب بحثي أي يقوم بجمع المصادر والمراجع المختلفة ثم يقوم بتتبع موضوع معين أو مسألة معينة في المراجع المتوفرة مثلاً صياغة منطوق الحكم حيث يتتبع هذا الموضوع الجزئي في المراجع المختلفة فتكون نتيجة المطالعة البحثية لهذا الموضوع أن القاضي يلم ويفهم هذا الموضوع أكثر من المؤلفين لتلك المراجع والمصادر التي رجع إليها القاضي لأن المؤلف تناول الموضوع في كتابه من ناحية معينة في حين أن المطالع لهذا الموضوع في المراجع المختلفة يكون قد أحاط بكل ما كتبه المؤلفون جميعهم في هذا الموضوع.