ضوابط حفر آبار المياه وتعميقها

 

 ضوابط حفر  آبار المياه وتعميقها

أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

تقوم محكمة الموضوع بموازنة دقيقة بين المصالح التي يحميها القانون ،فهناك مصلحة عامة تتدرج منافعها من حيث الأهمية كما أن  المصلحة العامة تتداخل مع المصالح الخاصة،وهناك مصلحة خاصة محضة تتدرج أيضاً من حيث اهميتها، وبالمقابل هناك مضار ومفاسد تراعيها محكمة الموضوع عندما تنظر في قضايا حفر الآبار العشوائية في اليمن، وقد تناول هذه المسألة الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 21/4/2018م في الطعن رقم (60988) ،وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان نيابة الأموال العامة اتهمت احد الأشخاص بأنه قام بحفر بئر مخالف لانتفاعه الشخصي بجوار بئرين قديمين خاصين يشترك فيهما اهالي القرى المجاورة لتزويدهم بماء الشرب ,وتضمن قرار الإتهام ان البئر المخالف لم يلتزم بالمسافة القانونية بين الآبار وأن البئر لا ينتفع به احد سوى المتهم في حين ان البئرين الآخرين قديمين وينتفع بهما اهالي القرى المجاورة لتزويدهم بماء الشرب ,حيث توصلت المحكمة الابتدائية إلى الحكم بإدانة المتهم وحبسه ثمانية اشهر مع وقف التنفيذ والزامه بدفن البئر والزام مالكي البئرين القديمين بتزويد صاحب البئر المستحدث بالماء كمشترك فيه مثله غيره من المشتركين في القرى المجاورة، وقد ورد في اسباب الحكم الابتدائي (ان البئر الذي حفره المتهم لا يبعد عن البئرين المجاورين إلا مسافة ماتين واربعة وتسعين متر وان قانون المياه قد نص في المادة (35) على انه لا يجوز لأي فرد او جماعة او جهة حكومية او اهلية أو أي شخصية اعتبارية أو طبيعية القيام بحفر أي بئر للمياه او تعميقها إلا بعد الحصول على ترخيص مسبق بذلك من هيئة الموارد المائية كما ان احكام الفصل الثالث من الباب الخامس من اللائحة التنفيذية لقانون المياه بينت إجراءات وشروط الحصول على ترخيص حفر وتعميق الآبار وحددت المادة (73) من اللائحة المسافات بين بئر واخرى بحيث لا تقل هذه المسافة عن خمسمائة متر في الاحواض الرئيسية...الخ وحيث جاء في التقرير الفني المرفوع من مهندس الهيئة العامة للموارد المائية ان المسافة بين البئر المستحدثة والبئرين القديمين مائتان واربعة وتسعون متراً كما ان الثابت من اقوال المتهم انه قام بحفر البئر دون ان تكون له زراعة ولا مسكن بجوار البئر سوى منزل حديث مكون من حوش وغرفة استحدثهما عند حفر البئر) وقد أيدت الشعبة الجزائية الحكم الابتدائي وقد ورد ضمن اسباب الحكم (اما استدلال المستأنف بالمادة (45) من قانون المياه التي اجازت حفر الآبار اليدوية لغرض إستخراج كميات محددة من الماء بغرض الشرب وذلك من غير حاجة إلى  ترخيص، فالشعبة تجد ان هذا النص مقيد بأحكام مناطق المياه والحجر المائي وعدم الإضرار بالغير ومقيد بنص المادة (273) من اللائحة التنفيذية لقانون المياه) وبعد ذلك اقرت الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن اسباب حكم المحكمة العليا (اما من حيث الموضوع فان الطعن قد جاء خالياً من أي سبب من أسباب الطعن بالنقض الواردة حصراً في المادة (435) إجراءات فكل ما ورد بالطعن ماهو إلا من باب الجدل الموضوعي الذي تختص به محكمة الموضوع عملاً بالمادة (431) إجراءات الأمر الذي يتعين معه رفض الطعن موضوعاً وإقرار الحكم الاستئنافي) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الأتية :

الوجه الأول : وظيفة الدولة في ادارة الموارد المائية:

ينص الدستور على أن المياه من الموارد العامة للدولة وان الحفاظ عليها مسئولية الدولة وجميع المواطنين،وان الدولة تتولى ادارة الموارد المائية وتنظيم الانتفاع بها الإنتفاع الرشيد بما يكفل ترشيد تنظيمها واستهلاكها بما يكفل المحافظة عليها وحصول عموم المواطنين على احتياجاتهم من غير اسراف او استئثار بها، ولهذا انشأت الدولة وزارة للمياه وهيئات ومؤسسات تعنى بإدارة الموارد المائية وتنظيمها وتزويد المواطنين بإحتياجاتهم منها ،ولهذا الغرض انشأت الدولة هيئة الموارد المائية ومؤسسات المياه العامة والمحلية كما اصدرت الدولة القوانين واللوائح المنظمة لإستخراج المياه وتوزيعها وحفر الآبار وتعميقها التي تضمنت تحديد المناطق التي يجوز حفر الآبار فيها وتلك التي لا يجوز الحفر فيها وحددت الاحواض المائية وكيفية تنمية مواردها المائية وحفر الآبار فيها لإستخراجها كما تحدد اللوائح والنظم اعماق الآبار المسموح بها وغير ذلك من التنظيمات المائية كما ان الهيئات والمؤسسات العامة المياه تقوم بإعداد دراسات عن المياه تبين احواضها وكيفية تكوينها واعمارها وكميات الواردة  إليها  والمياه اامستخرجة منها  ونسب الحموضة والملوحة ودرجة حرارة المياة واسباب ذلك وتتضمن تلك الدراسات النتائج والتوصيات المناسبة للجهات المختصة لاصدار اللوائح والنظم والقرارات المناسبة واصدار التعليمات  اللازمة بما يكفل المحافظة على المياه ،حيث تبين الدراسات والبحوث الافعال الضارة بالأحواض المائية والمياه السطحية والجوفية،ونخلص من هذا الوجه إلى أن تنظيم وإدارة الموارد المائية من اهم وظائف الدولة المنصوص عليها في الدستور وان الدولة ممثلة بالهيئة العامة للموارد المائية هي التي تدير الموارد المائية وتتولى تحديد الأماكن التي يجوز الحفر فيها والمسافات القانونية بين البئر الأخرى وعمق الآبار بإعتبار الهيئة الجهة المختصة قانوناً  ولذلك فان الخرائط والصور والبيانات والمعلومات اللازمة عن الموارد المائية تتوفر لديها ،وفي ضوء ذلك وضوء القوانين واللوائح فهي تقوم باصدار التراخيص بحفر الآبار وتعميقها، وأي حفر أو تعميق من غير ترخيص من الهيئة العامة للموارد المائية فانه عمل غير مشروع ومخالف، لان القوانين اوجبت الحصول على الترخيص، ووفقاً للقانون فانه يجب ردم البئر حتى تزال المخالفة حسبما قضى الحكم محل تعليقنا،والهيئة لانصدر الترخيص الا بعد دراسة طلب الترخيص والمستندات المرفقة للتحقق من توفر الشروط والضوابط اللازمة .

الوجه الثاني : ضوابط حفر آبار المياه وتعميقها:

اشار الحكم محل تعليقنا إلى بعض الضوابط الواجب مراعاتها في منازعات الآبار المتجاورة، ومن ذلك  الترخيص والاقدمية والغرض من انتاج الماء وعدد المنتفعين من الماء المستخرج من البئر...الخ، ويمكن تلخيص هذه الضوابط، على النحو الآتي :

1-     الترخيص:فقد لاحظنا الحكم محل تعليقنا انه قضى بردم البئر التي تم استحداثها من غير ترخيص ،لان استحداثها عمل غير مشروع يخالف قانون المياه حسبما هو مبين في المادة (15) من قانون المياه والمادة (73) من لائحته التنفيذية، وهذا الضابط  قانوني لانه قد ورد في قانون المياه ولائحته التنفيذية، وهو في المرتبة الأولى من الضوابط ،لان الأصل أن الهيئة لاتمنح الترخيص الا بعد تحققها من تحقق الضوابط الاخرى، لان الهيئة العامة للموارد المائية لا تمنح الترخيص إلا بعد ان تتأكد من المسافة القانونية ومن انه لا يضر الحوض المائي او المياه السطحية والجوفية وانه لا يضر بالآبار المجاورة له بإعتبار هيئة الموارد هي الجهة ذات الخبرة والاختصاص في هذا المجال وتتوفر لديها البيانات والمعلومات اللازمة التي تجعلها تتأكد من توفر الضوابط االأخرى قبل منح الترخيص.

2-     المسافة بين الآبار : فهذا الضابط من الضوابط الواردة في قانون المياة ولائحته حيث يجب  الإلتزام بالمسافة القانونية المحددة فيما بين الآبار وهي مسافة خمسمائة متر حسبما ورد في المادة (35) من قانون المياه، فإذا كان البئر المستحدث قد خالف هذه المسافة فانه يجب ردمه لانه يشكل خطراً وضرراً على المياه الجوفية والسطحية كما لا شكل ضرراً على الآبار المجاورة، وهذا الضابط قانوني تم النص عليه في قانون المياه، ولذلك يأتي في المرتبة الثانية لذلك يجب احترام هذه المسافات.

3-     الاقدمية : فالبئر القديم أولى من البئر المستحدثة حسبما قضى الحكم محل تعليقنا لان صاحب البئر القديم له حق واولوية  وحقوق مكتسبة ينبغي احترامها كما ان البئر القديمة قد تعلقت به حقوق ومصالح الغير كالمشتركين والمنتفعين الذين غرسوا  وغرسوا غروسا تعتمد على المياه المستخرجة من البئر، وقد اشار إلى هذا الضابط  الحكم محل تعليقنا كما ان هذا المعيار يتأسس على القواعد العامة في الشريعة والقانون.

4-     عدد المنتفعين، حيث اشار الحكم محل تعليقنا إلى هذا الضابط  حيث رجح الحكم البئرين القديمين اللذين يشترك فيها اهالي القرى المجاورة فيتزودوا بالماء منها، في حين ان البئر المستحدثة لا ينتفع بها بالفعل إلا صاحبها فقط.

5-     بئر ماء الشرب مقدمة على غيرها، وهذا اهم ضابط في الشريعة والقانون، لان ماء الشرب ضرورة تفوق غيرها من الاغراض الأخرى كإستخراج الماء لسقي المزروعات وغيره.

6-     الغرض من حفر البئر، حيث تختلف الأغراض من حفر الآبار، فإذا كان الغرض هو ماء الشرب فهو أولى من غيره، واذا كان لسقي المزروعات فهناك افضليات بحسب نوع المزروعات، فالأفضلية لمن يسقي بالماء محاصيل الغذاء كالذرة بأنواعها والقمح والشعير، وبعدها تأتي الفواكه لانها كماليات ثم البن ويأتي في نهاية السلم القات والتبغ.

7-     مشروع الماء العام ومشروع الماء الخاص، فمشروع الماء العام الذي تديره الدولة وتشرف على خدماته أولى من المشروع الخاص حتى لو كان يقدم خدماته للجمهور لأن من وظائف الدولة توفير المياه الصالحة لمواطنيها، والله اعلم.