كيفية إعمال مبدأ تساند الأدلة

 

كيفية إعمال مبدأ تساند الأدلة

أ.د.عبد المؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء

مبدأ تساند الأدلة من أهم المبادئ الحاكمة للإثبات الجنائي، وفي الواقع العملي يقع الخطأ في تطبيق هذا المبدأ حيث يتم إهدار أدلة كثيرة بمجرد أن تلابسها أية شبهة كما يتم التعامل مع كل دليل من أدلة الإثبات كما لو أنه الدليل الوحيد كما يتم التعامل معه بمعزل عن بقية الأدلة، وهذا المسلك يهدر مبدأ تساند الأدلة، وقد تصدت المحكمة العليا لهذه المشكلة حيث صدرت عدة أحكام من المحكمة العليا حاولت معالجة هذه المشكلة، ومن هذه الأحكام الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا باليمن في جلستها المنعقدة بتاريخ 19/12/2012م في الطعن الجزائي رقم (45825ك) عام 1434هـ وخلاصة أسباب هذا الحكم أنه (من حيث الموضوع فقد عاب أولياء الدم الطاعنون بالنقض أن الحكم الاستئنافي المطعون فيه قام بتعديل الحكم الابتدائي بالقصاص من القاتل لمورثهم إلى الدية والحبس تعزيراً وإهدار الأدلة الشرعية المثبتة للقصاص وهي شهادات شهود الرؤية حيث خالف الحكم المطعون فيه القانون وجعل أسباب الحكم متناقضة مع بعضها مع أن الشهادات كلها قد تظافرت في إثبات واقعة القتل وتحديد القاتل والمجنى عليه وزمن القتل ومكانه وتحديد الآلة المستعملة في القتل ولكن الحكم المطعون فيه تجاهل ذلك بذريعة أن أحد الشهود نفى مشاهدته للآلة الحادة المستعملة في القتل حينما طعن الجاني بها المجنى عليه ولذلك لم يكن ذلك الشاهد شاهد رؤية محققة مكتملة حيث أنه شاهد أثار الفعل بعد وقوعه مباشرة، ولذلك فأن الحكم المطعون فيه قد خالف مبدأ تكامل الأدلة حينما قام بتقدير الأدلة على الواقعة وانتقص من حجية شهادة الشاهد حينما ذكر الحكم أن الشاهد تردد في شهادته عن رؤيته للجاني وهو ينزع الخنجر ولا يدرى ماذا سحب الجاني من جسم المجنى عليه حين قتله فلم يجزم الشاهد بتحديد نوع الآلة الحادة (سكين أو خنجر) فقد أفاد الشاهد نفسه حسبما ورد في الحكم الابتدائي بأنه شاهد الجاني يسحب من جسم الجاني الآلة الحادة التي تم بها القتل ولكنه لا يدري  ما هي هذه الآلة إلا أنه شاهد الدم يخرج من ظهر المجنى عليه حسبما ورد في شهادة الشاهد في أثناء مراحل التحقيق وأمام محكمة الموضوع، وبوقوف الدائرة الجزائية أمام مناعي الطاعن السابق ذكرها تجد أنها وجيهة فالبين من قراءة أسباب الحكم المطعون فيه وقوعه تحت طائلة البطلان فقد شابه التناقض كما ورد في الطعن بالنقض كما أنه لم يذكر سبباً حقيقياً لتعديل العقوبة من الإعدام قصاصاً إلى الدية والتعزير في الوقت الذي أكد من أسبابه صحة الواقعة وصحة نسبتها للفاعل، ولذلك فأن الشعبة قد جانبت الصواب بمخالفتها مفهوم مبدأ تكامل الأدلة فقد انتقصت حجية شهادة شاهد الادعاء الثاني دون مبرر سائغ بالمقارنة مع الأدلة الأخرى لذلك فأنه من المتعين قبول الطعن موضوعاً ونقض الحكم وإعادة القضية لمحكمة الاستئناف لنظرها مجدداً والحكم فيها طبقاً لأحكام الشرع والقانون وبتشكيل جديد) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب الأوجه الآتية:

الوجه الأول: وجوب إعمال مبدأ تساند الأدلة:

أشارت الفقرة (2) من المادة (321) إجراءات إلى وجوب العمل بمبدأ تساند الأدلة حيث نصت على أن (تقدير الأدلة يكون وفقاً لاقتناع المحكمة في ضوء مبدأ تكامل الأدلة فلا يتمتع دليل بقوة مسبقة في الإثبات) فالنص القانوني السابق يوجب على القاضي الالتزام بمبدأ تساند الأدلة عند تقديره للأدلة المختلفة سواء كانت أدلة إثبات أو نفي، وبما أن النص القانوني السابق ذكره يقرر وجوب إعمال تساند الأدلة فأن الجزاء المترتب على مخالفة هذا الوجوب بطلان الحكم.

لأن مبدأ تساند الحكم من النظام العام كما أنه من أهم المبادئ والضمانات المقررة قانوناً للحكم القضائي العادل.

الوجه الثاني: كيفية إعمال وتطبيق مبدأ تساند الأدلة:

بينت محكمة النقض المصرية كيفية تطبيق القاضي لمبدأ تساند الأدلة حيث قضت بأن (الأدلة في المواد الجنائية متساندة يكمل بعضها البعض الآخر فلا ينظر القاضي إلى دليل بعينه لمناقشته على حدة دون باقي الأدلة بل يكفي أن تكون الأدلة في مجموعها مؤدية إلى ما رتبه الحكم عليها وتتجه كوحدة واحدة في إثبات اقتناع القاضي واطمئنانه إلى الحكم به) 27/9/1978م أحكام النقض س29 ق38 ص207 كما قضت محكمة النقض المصرية إيضاً بأن (الأدلة في المواد الجنائية ضمائم متساندة فلا يشترط أن تترادف بنصها على الأمر المراد إثباته بل يكفي أن يثبت ذلك من مجموعها) 12/5/1981م أحكام النقض س35 ق41 ص127، ومن خلال مطالعة الحكم محل تعليقنا نجد أنه قد نقض الحكم الاستئنافي الذي ناقش شهادة أحد شهود الإثبات بمعزل عن بقية الأدلة وكأنه الدليل الوحيد، فكل دليل مهما كانت قوته الثبوتية إذا تمت مناقشته بمعزل عن الأدلة الأخرى يشوبه الضعف من وجه من الوجوه فالدليل السليم تماماً هو فقط قول الله تعالى والحديث الصحيح للنبي صلى الله عليه وسلم، فالأدلة الجنائية الضعيفة تقوي بعضها عندما تتساند وتتظافر، فمناقشة الأدلة بعيداً عن مبدأ تساند الأدلة يحول دون إثبات أية تهمة أو حق، ولذلك كان مبدأ تساند الأدلة من النظام العام الذي لا تجوز مخالفته.

الوجه الثالث: مشاهدة آلة القتل وأثرها في الإثبات:

عند مطالعة الحكم محل تعليقنا نجد أنه قد قرر أن مشاهدة نتيجة آلة القتل تكفي لنسبة فعل القتل للقاتل فطالما أن الشهود قد شهدوا بأن الجاني قد أغمد آلة حادة في جسد المجني عليه فخرج الدم من ظهره ووقع على الأرض ميتاً فهذا يكفي لنسبة فعل القتل إلى القاتل فلا يشترط أن يحدد الشاهد نوع الآلة الحادة التي طعن بها الجاني المجني عليه، وهذا الاستدلال سديد لاسيما أن الجاني نفسه قد سحب الآلة الحادة من جسد المجني عليه بعد ان طعنه بها وقد شاهد الشهود ذلك، فهذا الاستدلال يناسب حالات القتل التي تتم في العصر الحاضر التي تستعمل فيها الوسائل الحديثة التي يستحيل أو يتعذر على أعين الشهود مشاهدتها فمثلاً قضت المحكمة العليا في اليمن عام 1998م على أنه لا يشترط الحصول على المقذوف الناري الذي اخترق جسد المجني عليه فقتله طالما وواقعة قيام الجاني بإطلاق النار على المجني عليه ثابتة لأنه يتعذر على الشهود مشاهدة المقذوف الذي ينطلق من البندقية بسرعة تفوق سرعة الصوت ب75 مرة، أما ما ورد في الفقه الإسلامي من اشتراط مشاهدة القائل وهو يضع يده على آلة القتل ثم يضعها على جسد المجني عليه الذي يقع صريعاً جراء ذلك فأن أقوال الفقهاء في هذا الشأن كانت تعبر عن الآت قتل في عصرهم لم تكن سريعة بالقدر المتوفر في العصر الحاضر حتى بالنسبة للأسلحة البيضاء الآلات الحادة فقد ورد في كتاب شرح قانون الأسلحة المصري بأن هناك آلات حادة جداً لها قدرة عجيبة في النفاذ إلى الأجساد وأنه في أحيان كثيرة يتعذر مشاهدة الفعل لسرعة حركة القتل بها.

الوجه الرابع: مخالفة مبدأ تساند الأدلة يؤدي إلى تناقض الأدلة ومن ثم تناقض أسباب الحكم:

صرح الحكم محل تعليقنا بأن أسباب الحكم الاستئنافي المنقوض قد تناقضت جراء مخالفته لمبدأ تساند الأدلة، فتناقض أسباب الحكم نتيجة منطقية لعدم احترام مبداً تساند الأدلة حيث أن الأدلة مجتمعة تنطق بإثبات أمر ما أو نفيه فإذا قام القاضي بمناقشة هذه الأدلة كل دليل على حدة بقصد البحث عن أوجه الضعف فيها فأن ذلك يجعل أسباب الحكم مناقضة للمنطوق مثلما حصل بالنسبة للحكم  المنقوض حيث يفهم من سياق أسبابه ثبوت واقعة القتل وثبوت نسبتها إلى الجاني ولكن منطوق الحكم لم يكن منسجماً مع هذه الأسباب إضافة إلى أن عدم احترام مبدأ تساند الأدلة يفضي إيضاً إلى تناقض أسباب الحكم مع بعضها كما حصل إيضاً بالنسبة للحكم الذي نقضه الحكم محل تعليقنا فمناقشة شهادة الشاهد الثاني والقول بعدم مشاهدته للآلة الحادة المستعملة في القتل قد جاء مناقضاً للأدلة الأخرى التي تثبت نوع هذه الآلة وصلتها بالجاني ومن ذلك محضر تحريز آلة القتل ذاتها فهذه المناقشة جعلت الأدلة متناقضة وذلك بدوره أدى إلى تناقض الأسباب، والله أعلم.