ماهية مسائل النظام العام التي لايجوز التحكيم فيها
أ.د / عبد المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة
صنعاء
النظام العام فكرة غامضة نسبية متغيرة بتغير
الأزمنة والأمكنة والأنشطة ؛ ولذلك فهذه الفكرة الغامضة الهلامية عصية على التعريف
باتفاق المؤلفين، ولذلك فان مسائل النظام العام هلامية غامضة تبعاً لذلك ، في حين
ان قانون التحكيم قد نص صراحة على عدم جواز التحكيم في مسائل النظام العام دون ان يبين ماهية هذه
المسائل وتركها لاجتهاد القضاء ، ومن هذا المنطلق تظهر أهمية الاجتهاد في بيان
مسائل النظام العام ، ولذلك اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة المدنية
في جلستها المنعقدة بتاريخ 13/2/2011م في الطعن المدني رقم (43074) لسنة 1431هـ
وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان جارين اختلفا بشأن قيام احدهما
بحفر بيارة للمجاري في الشارع العام على مقربة من جدار منزل جاره ، فقام الجاران
بتحكيم شخص اخر للفصل في النزاع وبعد استكمال المحكم إجراءاته توصل المحكم الى
الحكم بان يتم حفر البيارة محل الخلاف بعمق لا يقل عن أثنى عشر متر وان يتم بناء
اعلاها بالطوب والاسمنت وان تتم تغطيتها
بغطاء اسمنتي محكم ، فقام المعارض لحفر البيارة بتقديم دعوى بطلان حكم التحكيم
وذكر في دعواه بان المحكم قد تجاوز موضوع التحكيم فقبلت محكمة الاستئناف الدعوى
وحكمت ببطلان حكم التحكيم ، وجاء في اسباب الحكم (البين ان طرفي الخصومة اختلفا
بشأن موضوع البيارة؛ وكان ينبغي على المحكم الاستعانة باهل الخبرة والاختصاص في
هذا المجال لمعرفة الاضرار المتوقعة من حفر البيارة في محل النزاع والوسائل المناسبة لتلافيها وكذا تحديد المكان المناسب لحفر البيارة؛ ولذلك
فقد تجاوز المحكم قانون الاثبات فيما يتعلق بعدم
الاستعانة بالخبرة) فلم يقبل صاحب البيارة بالحكم الاستئنافي فقام بالطعن
بالنقض في الحكم الا ان المحكمة العليا رفضت الطعن وأقرت الحكم الاستئنافي ، وقد
جاء في اسباب حكم المحكمة العليا (ان محكمة الاستئناف قد اسندت حكمها المطعون فيه
الى المادة ( 32) تحكيم واعتبرت ان عدم استعانة المحكم بالخبرة يترتب عليه بطلان في الإجراءات يؤثر في الحكم وان ذلك
يتعلق بالنظام العام وكان هذا منها خطأ فليس في عدم استعانة المحكم بالخبرة بطلان
إجرائي متعلق بالنظام العام ، فالمحكم كالمحكمة ليس ملزماً بالاستعانة بخبير ،
فالاستعانة بالخبرة من الرخص المخولة
لقاضي الموضوع فله وحده تقرير لزوم الاستعانة بالخبرة أو عدم لزومها فلا
يوجب عليه القانون الاستعانة بخبير الا في
المسائل الفنية كالطب والهندسة والحساب وغيرها ، فليس في قانون التحكيم ما يوجب
على المحكم الاستعانة بالخبرة ؛ غير ان محكمة الاستئناف لم تلتفت الى أمر يبطل
التحكيم وهو عدم صلاحية المتنازع عليه وهو حفر البيارت للتحكيم لان حفر البيارات مما يخضع للحصول على ترخيص من
السلطة المحلية المختصة بالصرف الصحي فمتى صدر الترخيص من السلطة المختصة بحفر
بيارة في الطريق العام فلكل من لديه مصلحة
ان يتظلم من ذلك الترخيص أو يدعي على الجهة
التي اصدرته طالبا الغاء الترخيص ؛ فلا
يصلح هذا الموضوع لان يكون منازعة يتم الفصل فيها عن طريق التحكيم بين حافر
البيارة وجاره وحيث ان النتيجة التي توصلت
اليها محكمة الاستئناف في منطوق حكمها المطعون فيه موافقة للقانون وحيث ان المادة
(200 مرافعات قد نصت على انه اذا رأت المحكمة ان منطوق الحكم
المطعون فيه من حيث النتيجة موافق للشرع والقانون رفضت الطعن ؛لذلك
فانه يتعين رفض الطعن) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ما هو مبين في
الأوجه الاتية :
الوجه الأول: عدم جواز التحكيم في مسائل النظام العام في القانون اليمني وماهية النظام العام:
قررت المادة (5) من قانون التحكيم عدم جواز
التحكيم في مسائل النظام العام حسبما ورد في الفقرة (هـ) من المادة المشار اليها
التي نصت على انه ( لا يجوز التحكيم فيما يأتي :- هـ - كل ما يتعلق بالنظام العام)
إلا ان القانون لم يبين ماهية هذه المسائل المتعلقة بالنظام العام التي قرر
القانون عدم جواز التحكيم فيها ؛ حيث ترك القانون بيان المقصود بذلك للفقه الذي
يعرف النظام العام بانه (ما يرتبط بالنظام الاعلى للمجتمع ويمس نسيجه الاجتماعي أو
الاقتصادي او السياسي او يخل بقيمه العقائدية والأخلاقية ويهدف النظام العام الى حماية المصالح العامة) (التحكيم ، أحمد السيد ضاوي ص41) مع التأكيد
على ان مسائل النظام العام مرنة ومتطورة ومتغيرة بحسب تغير الزمان والمكان ، ولذلك
من الصعب وضع معيار ثابت يحدد هذه المسائل ؛ ومع ذلك فان بعض الفقه يذهب الى ان
المصلحة العامة للمجتمع هي المعيار وهناك من يذهب الى ان النصوص الامرة التي لا
يجوز للافراد مخالفتها هي المسائل المتعلقة بالنظام العام؛ وفي كل الاحوال فان
تقدير المسائل التي تعد من النظام العام متروكة للسلطة التقديرية للقضاء.
الوجه الثاني: الترخيص بحفر البيارة وعلاقته بالنظام العام:
حدد قانون البناء ولائحته التنفيذية شروط
وضوابط ومواصفات حفر البيارة والجهة
المختصة بالترخيص بذلك حسبما ورد في المادة (38) من القانون كما قررت المادة (61)
من ذلك القانون إزالة البيارات المخالفة ، فالترخيص يهدف الى التأكد من توفر المواصفات
والالتزام بالضوابط والشروط القانونية لحفر البيارة ، كما انه يترتب على عدم الالتزام بالشروط أو
الضوابط الاضرار بالشارع والبيوت المجاورة وبالمارة ، ولذلك فان الغاية من الترخيص
بحفر البيارة هو تمكين الجهة المختصة قانونياً من الرقابةوالاشراف للتأكد من الالتزام
بالشروط والضوابط والمواصفات ومنع
حدوث.الاضرار العامة والخاصة، فالنظام العام الذي قرره حكم المحكمة العليا هو
تحقيق المصالح العامة ومنع الضرر العام ، لان التحكيم بين طرفين في حفر البيارة لن
يراعي الا مصالح الطرفين المحتكمين ولن
يلقي بالاً للمصالح العامة ، واجتهاد المحكمة العليا يوافق ماهية النظام العام
التي سبقت الاشارة اليها في الوجه الأول ، كما ان حكم المحكمة العليا قد قرر مبدأ
عاماً وهو عدم جواز التحكيم في المسائل النظامية العامة وهي التنظيمات العامة
الواردة في القوانين واللوائح وان كانت متصلة بالافراد لان المسائل العامة التي
نظمها القانون تستهدف تحقيق المصلحة العامة للمجتمع كافة فليست تنظيمات خاصة
بالافراد تستهدف مصالحهم فقط فيجوز لهم الاتفاق على خلافها.
الوجه الثالث: تصدي المحكمة من تلقاء ذاتها لمخالفة حكم التحكيم للنظام العام:
فطالما تم تقديم دعوى بطلان حكم التحكيم امام
القضاء واتصلت المحكمة بهذه الدعوى فعندئذ يجب على المحكمة ان تتصدى لمخالفة
المحكم للنظام العام ولو لم يثر المدعي بالبطلان ذلك ، ويجوز هذا التصدي من قبل
محكمة الاستئناف باعتبارها محكمة قانون بالنسبة لحكم التحكيم كما ان هذا التصدي من
اهم الوظائف الملقاة على عاتق المحكمة العليا باعتبارها محكمة القانون التي تسهر
على الرقابة على التزام احكام الموضوع بالقانون ، ولذلك وجدنا في الحكم محل تعليقنا ان المحكمة العليا قد تصدت
لمخالفة حكم التحكيم للنظام العام مع ان هذه المخالفة لم تتم إثارتها امام محكمة
الموضوع كما ان الطاعن امام المحكمة العليا لم يثر ذلك في طعنه.
الوجه الرابع: رفض الطعن اذا كانت نتيجة الحكم المطعون فيه موافقة للشرع والقانون:
من خلال مطالعة حكم المحكمة العليا وجدنا انه
قد رفض الطعن واقر الحكم الاستئنافي الذي اخطأ في تسبيبه حيث ذهب الى ان المحكم
حكم برأيه وهو ليس من أهل الخبرة والاختصاص وانه كان يجب عليه الاستعانة بأهل الخبرة ولهذا السبب قضى الحكم
الاستئنافي ببطلان حكم التحكيم ، ومع هذا
الخطأ في التسبيب الا ان حكم المحكمة العليا رفضت الطعن بالنقض في هذا الحكم
المعيب واقرت الحكم الاستئنافي طالما ان نتيجة هذا الحكم المعيب في التسبيب موافقة
للشرع والقانون اللذين يمنعا التحكيم في مسائل النظام العام، والله اعلم.