مناقشة القاضي لأدلة الخصوم
أ.د.عبد المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء
من خلال الرصد والتحليل لأحكام المحكمة العليا باليمن ، نجد أن غالبية
الأحكام التي تقوم المحكمة العليا بنقضها يكون سبب النقض لها إهمال أحكام محاكم
الموضوع وعدم مناقشتها لأدلة الخصوم، ومع جهود المحكمة العليا في معالجة هذه
الظاهرة وإرشاداتها فلا زالت هذه الظاهرة مستفحلة، وقد صدرت عن المحكمة العليا
أحكام كثيرة ترسخ مبدأ (أن عدم مناقشة أدلة الخصوم والرد عليها يبطل الأحكام ) وفي
هذا السياق يأتي الحكم محل تعليقنا ، وهو الحكم الصادر عن الدائرة التجارية
بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 2/3/2014م في الطعن التجاري رقم
(53957) لسنة 1435ه وخلاصة أسباب هذا الحكم أنه ( من خلال دراسة الدائرة لأوراق القضية
فقد وجدت أن أهم ما جاء في أسباب الطعن بالنقض هو أن الحكم الإستئنافي أهدر دفاع
الطاعن الجوهري الذي قدمه أمام محكمة الإستئناف وهي ثلاثة عقود مقاولة تثبت أن
الطاعن قد قام بأعمال مقاولة لحساب البنك المطعون ضده، وأن المبالغ التي كان
يسحبها الطاعن من البنك خلال الفترة من 26/3/2003م وحتى 14/9/2004م هي جزء من
المبالغ المستحقة للطاعن بموجب عقود المقاولة تلك، وقد أثبت ذلك تقرير المحاسب
القانوني ، ولذلك فإن المبالغ التي قام الطاعن بسحبها من البنك لم تكن تسهيلات
مصرفية ، وذكر الطاعن أنه أثار أوجه الدفاع الجوهرية تلك أمام محكمة أول درجة ثم
أعاد طرحها وإثارتها أمام محكمة الإستئناف إلا أنها لم تلتفت إليها، ولما سبق وفي
ضوء ما ذكره الطاعن وبعد إطلاع الدائرة على حيثيات الحكم المطعون فيه الذي أيد
الحكم الإبتدائي تبين للدائرة أن مطاعن الطاعن على الحكم الإستئنافي منتجة ومؤثرة
، حيث أن الحكم الإستئنافي لم يقم بمناقشة ما قدمه الطاعن من مستندات لها علاقة
بعقارات مملوكة للبنك بالفعل ، فقد جاء في محضر جلسة محكمة الإستئناف بتاريخ
29/9/2012م أن محام المستأنف تقدم بحافظة مستندات أرفق بها أصول ثلاثة مستندات
للمطابقة ، وقد قامت الشعبة في الجلسة بمطابقة صور تلك المستندات بأصولها ، وقد
وجدت الدائرة مستندات المستأنف ( الطاعن بالنقض)
مع الحافظة في ملف الحكم الإبتدائي مما يثبت أيضاً أنه قد تقدم بها أمام
محكمة أول درجة، وقد وجدت الدائرة أن مستندين منها عقدا مقاولة فيما بين الطاعن
والبنك(المطعون ضده) مؤرخان في30/4/2003م و25/6/2003م وكان يتوجب على الشعبة
التدقيق في المستندين المذكورين واستجواب من يلزم للتوصل إلى ما يدعيه الطاعن
سلباً أو إيجاباً، لأن شعبة الإستئناف محكمة موضوع عملاً بالمادة (288) مرافعات
التي نصت على أنه ( يطرح الإستئناف القضية المحكوم فيها أمام محكمة الإستئناف
للفصل فيها من جديد في الواقع والقانون مع
مراعاة الأحكام الآتية: ومنها( يجب على محكمة الإستئناف أن تنظر القضية المستأنفة
على أساس ما يقدم لها من دفوع وأدلة جديدة وما كان قد تم تقديمه أمام محكمة أول
درجة ...الخ) ولذلك و حيث أن الشعبة لم تقم بتطبيق نص المادة (230) مرافعات التي
أوجبت عدم إغفال المحكمة لأي بيان من بيانات الحكم إذا كان يؤدي إلى التجهيل
بالقضية مما يجعل الحكم باطلاً، وكذا نص المادة (231) فقرة (ب) مرافعات التي
اعتبرت أن عدم مناقشة القاضي لوسائل الدفاع الجوهرية ورده عليها ومخالفة الأسباب
للنصوص أو الوقائع قصور في التسبيب يجعل الحكم باطلاً) ولما كان الأمر على هذا
النحو السابق بيانه فإن هذه الدائرة تقرر قبول الطعن لهذا السبب وهو كاف لتقرير
إعادة القضية إلى الشعبة المطعون في حكمها لمعاودة نظر الإستئناف دون الحاجة إلى
الخوض في بقية أسباب الطعن بالنقض، وعلى الشعبة الحكم في الإستئناف المقدم من
المستأنف من جديد وطبقاً لما أشرنا له من حيثيات هذا الحكم وطبقاً للقانون وبحسب
طلبات الخصوم ، وبناءً على ما سبق يقبل الطعن بالنقض موضوعاً لتوفر إحدى حالات
النقض المذكورة في المادة 292 مرافعات ، وعليه واستناداً لأحكام المادة (300)
مرافعات وبعد المداولة فإن الدائرة تصدر الحكم بالآتي:
1- قبول
الطعن موضوعاً لتوفر سببه.
2- إعادة
مبلغ الكفالة.
3- لاشيء
في المصاريف في هذه المرحلة.
4- إعادة
أوراق القضية إلى الشعبة التجارية الأولى بأمانة العاصمة لمعاودة نظر الإستئناف
المقدم من ....لما سبق بيانه في حيثيات هذا الحكم وبحسب طلبات الخصوم وطبقاً
للقانون وإبلاغ كل طرف بنسخة من هذا الحكم والعمل بمقتضاه) وسيكون تعليقنا على هذا
الحكم بحسب الأوجه الآتية:
الوجه الأول: ماهية المناقشة لأدلة الخصوم وأهميتها:
المناقشة لأدلة الخصوم : هي استفصال الخصوم عن الأدلة التي يقومون
بتقديمها أثناء سير إجراءات المحاكمة واستيفاء أوجه النقص والقصور فيها وإزالة
أوجه الغموض والإجمال التي تحيط بها، حتى تتمكن المحكمة من الإحاطة بكافة تفاصيل
تلك الأدلة وجزئياتها، وبيان موافقة هذه الأدلة أو مخالفتها للنصوص الشرعية
والقانونية وبيان سبب الأخذ بهذه الأدلة أو سبب طرحها وعدم الأخذ بها، وتكتسب
المناقشة لأدلة الخصوم أهمية بالغة حيث أنها من أهم مقومات الحكم والمحاكمة
العادلة، لأن الحكم القضائي عماده الأدلة، وهذه الأدلة يجب أن تكون مفصلة ومبينة تناولها
الخصوم والخبراء بالبحث والتدقيق حتى يستطيع القاضي أن يستبين الحقيقة فيكون الحكم
عندئذ عنوان الحقيقة ، أما إذا لم تخضع الأدلة للمناقشة والتدقيق والبحث فإنها
عندئذ تكون مجهولة تفضي إلى جهالة الحكم الذي لم يهتد إلى الحقيقة حسبما ورد في
أسباب الحكم محل تعليقنا .
والخلاصة: أن عدم مناقشة الأدلة تؤدي إلى جهالة الحكم وذلك يضر بالعدالة.
الوجه الثاني: مقتضيات المناقشة لأدلة الخصوم:
تقتضي مناقشة القاضي لأدلة الخصوم أن تكون هذه الأدلة قد سبق تمحيصها
وتدقيقها وبحثها في أثناء المواجهة بين الخصوم ، حيث كانت محل البحث والدراسة بين
الخصوم من خلال ردودهم عليها وتقديم أدلتهم المناهضة لها و الإستعانة بأهل الخبرة
والإختصاص لمعرفة حقيقتها إذا كانت من المسائل الفنية ، فالمناقشة تقتضي أن تكون
الأدلة التي تنتصب أمام القاضي قد تم تحقيقها ودراستها في أثناء المحاكمة وصارت
واضحة للقاضي.
الوجه الثالث: مراحل المناقشة لأدلة الخصوم:
المناقشة لأدلة الخصوم تتم على مرحلتين:
المرحلة الأولى : وتكون في أثناء جلسات المحاكمة لنظر القضية فإذا
قدم خصم من الخصوم دليلاً فعندئذ يتوجب على القاضي أن يواجه الخصم الآخر بهذا
الدليل وأن يطلب منه الرد عليه أو تقديم ما يدل على نفيه أو إبطاله، وإن كان هذا
الدليل فنياً فعندئذ يتوجب على القاضي إحالته لأهل الخبرة ولذلك أشار الحكم محل
تعليقنا إلى أن الحكم المطعون فيه المنقوض لم يقم بتحقيق عقود المقاولة التي قدمها
الطاعن فكان يجب على محكمة الإستئناف مواجهة البنك بتلك العقود وتكليفه بالرد
عليها أو تقديم ما يدل على نفيها، كما كان ينبغي على محكمة الإستئناف التأكد مما
إذا كانت هذه العقود قد تم تنفيذها وكيفية تنفيذها وما إذا كان البنك قد دفع قيمة
المقاولات إلى المقاول وطريقة الدفع، وتتم
المناقشة في هذه المرحلة من غير تدخل القاضي الذي يكتفي بدور الموجه الذي يكلف
الخصوم والخبراء بتدقيق وتحقيق واستيفاء الأدلة وبيان حقيقتها وإزالة الإجمال
والغموض الذي يحيط بها واستيفاء أوجه النقص والقصور فيها ، لأنها بينات سوف يقوم
الحكم ويستند عليها عندما يقوم القاضي بتسبيب الحكم على النحو الذي سيرد بيانه في
المرحلة الثانية.
المرحلة الثانية: وتتم المناقشة في هذه المرحلة في أثناء تسبيب
الحكم ، حيث يتوجب على القاضي أن يناقش أدلة الخصوم التي يقتنع بها ويقيم حكمه
عليها ، ففي هذه الحالة يتوجب على القاضي أن يبين ويذكر سبب الأخذ بهذه الأدلة،
أما إذا لم يقتنع بأي من الأدلة الجوهرية فعندئذ يتوجب عليه أن يذكر سبب عدم الأخذ
بها، ولا يستطيع القاضي مناقشة الأدلة الجوهرية في هذه المرحلة إلا إذا كانت
الأدلة التي يناقشها بينة واضحة مستوفاة، ولا تكون كذلك إلا إذا تمت مناقشتها
أثناء سير المحاكمة، وعند مناقشة القاضي للأدلة في أثناء تسبيبه للحكم يجب أن تتم
هذه المناقشة في ضوء المناقشة التي تمت في أثناء المحاكمة وهو ما يعبر عنه بأنه يجب أن يكون للمناقشة أصل في الأوراق.
الوجه الرابع: ماهية أدلة الخصوم التي يتوجب على الحكم مناقشتها:
الأدلة التي يتوجب على الحكم مناقشتها هي الأدلة الجوهرية وهي الأدلة
المنتجة التي أشار إليها الحكم محل تعليقنا، والأدلة الجوهرية هي تلك التي يترتب
عليها تغيير وجه الرأي في الحكم أو التغيير في نتيجة الحكم ، مثل الأدلة التي تمسك
بها الطاعن أمام محكمتي الموضوع وهي عقود المقاولة التي أشار إليها الحكم محل
تعليقنا ، والتي كان عدم مناقشة محكمة الموضوع لها سبباً لنقض حكمها وإبطاله، لأن
تحقيق ومناقشة عقود المقاولة سوف يترتب عليه تغيير نتيجة الحكم فربما يترتب على
ذلك إظهار أن البنك هو المدين أو أن الدين المحكوم به أقل.
الوجه الخامس: إحالة المحكمة العليا للقضية إلى الشعبة التي أصدرت الحكم المنقوض:
يدور جدل واسع بشأن مدى جواز الإحالة إلى الشعبة التي أصدرت الحكم المنقوض، فهناك من يذهب إلى عدم جواز ذلك لأن الشعبة قد افصحت عن قناعتها في الحكم فلم تعد مؤهلةً قضائياً لنظر القضية من جديد والحكم فيها بغير ما سبق لها أن حكمت به، إضافةً إلى أنه من المقرر أن القاضي لا يجوز أن يحكم في قضية قد سبق له أن حقق فيها أو ترافع فيها أو كان حكماً فيها أو قدم مشورةً بشأنها ، فمن باب أولى لا يجوز له أن يعيد الحكم في قضية قد سبق له الحكم فيها ، وقد حصل بالفعل أن بعض الشعب الإستئنافية قد قامت بإحالة القضية المحالة إليها من المحكمة العليا إلى شعب أخرى لأنها قد سبق لها أن حكمت فيها، وبالمقابل هناك اتجاه آخر يذهب إلى جواز الإحالة إلى الشعبة المصدرة للحكم المنقوض إذا كانت الإحالة للإستيفاء فقط كما هو الحال في الحكم محل تعليقنا، فالإستيفاء عبارة عن مسألة لم تناقشها محكمة الإستئناف في حكمها السابق، ولم تتعرض لها أو تخوض فيها ، فليس لدى محكمة الإستئناف في هذه الحالة قناعة مسبقة إزاء هذه المسألة التي لم يسبق لها بحثها أو الحكم فيها ، إضافة إلى أن الشعبة في هذه الحالة قد توفرت لديها الإحاطة الكافية بملابسات وخلفيات القضية فإحالتها إلى شعبة أخرى له محاذير كثيرة منها أن المسائل المستوفاة المحكوم فيها بالحكم السابق المنقوض قد تمت المرافعة والمداولة والحكم فيها بنظر قضاة والحكم في المسألة المطلوب استيفائها سيكون بنظر قضاة آخرين، كما أن الخصومة الإستئنافية بعد الإحالة من المحكمة العليا منحصرة في الإستيفاء، والله اعلم.