وجوب إيداع المصاب بالانفصام المصحة العقلية

 

وجوب إيداع المصاب بالانفصام المصحة العقلية

أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

الجنون فنون أي انه يكون على انواع عدة ومنه انفصام الشخصية حيث يقضي الحكم محل تعليقنا أن انفصام الشخصية اخطر مرض عقلي، وما يعنينا في هذا التعليق هو مرض انفصام الشخصية الذي ينطبق عليه وصف الجنون ،لان المصاب بالانفصام  يشكل خطرا على المجتمع الذي يخالطه لاسيما إذا كان المصاب بهذا المرض  قد سبق له ان ارتكب افعالاً تدل على خطورته كالقتل او الإعتداء حيث يتحتم إيداعه المصحة العقلية،باعتبار ذلك هو التدبير المناسب وليس غيره حسبما قضى به الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 5/3/2018م في الطعن رقم (60599) ،وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان شخصاً قام بقتل آخر، وأمام المحكمة الابتدائية دفع محامي المتهم بعدم مسئولية المتهم لانه يعاني من مرض (انفصام في الشخصية)حيث تمت إحالة المتهم إلى الطبيب المختص وبعد تمت احالته إلى طبيب آخر حيث تضمن التقريران أن المهم يعاني من مرض انفصام الشخصية وهو اخطر مرض عقلي وانه لايستطيع تقدير عاقبة تصرفاته حسبما ورد في التقريرين الطبيين، وقد توصلت المحكمة الابتدائية إلى الحكم بإطلاق سراح الجاني وتسليمه لوليه والزام عاقلته بدفع دية القتل العمد خمسة مليون وخمسمائة الف ريال تتحملها عاقلة المتهم بحسب الفرائض الشرعية بالإضافة إلى مبلغ مليون ريال مصاريف تقاضي لثبوت ارتكاب المتهم للجريمة وثبوت  إصابة المتهم بمرض الانفصام المزمن الذي افقده القدرة على التمييز، وقد قضت الشعبة الجزائية بتأييد الحكم الابتدائي وتعديل الغرامة المحكوم بها إلى خمسة مليون ريالا  بالإضافة إلى الدية، اما الدائرة الجزائية فقد اقرت الحكم الاستئنافي إلا فيما يتعلق بالفقرة الخاصة بإطلاق سراح المحكوم عليه وتسليمه لوليه حيث قضت بدلا من ذلك  بوجوب إيداعه في المصحة العقلية حتى يجزم الاطباء بانه قد تماثل للشفاء من المرض تماماً، وقد ورد ضمن اسباب حكم المحكمة العليا (اما اولياء الدم فلم يرد في طعنهم ما يؤثر في الحكم الاستئنافي غير  ماتعلق بالحكم بإلافراج عن المحكوم عليه وتسليمه لوليه، فهذه الجزئية تتعارض مع ما قرره الاطباء المختصون من ان المحكوم عليه مريض بمرض الانفصام وهو اخطر مرض عقلي حيث يحتاج المصاب به إلى علاج مستمر لعدة سنوات وان يتم ذلك في مصحة عقلية، لان المصاب بهذا المرض يكون عدوانياً، وهو ما يستوجب نقض هذه الجزئية من الحكم المطعون فيه وإيداع المحكوم عليه في مصحة عقلية للعلاج، ولا يتم الافراج عنه الا بقرار طبي يفيد سلامة قواه العقلية حفاظاً عليه وعلى الغير تنفيذاً للمادة (105) عقوبات) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :

الوجه الأول : الفصام والجنون والعاهة العقلية :

نصت المادة (33) عقوبات على انه (لا يسأل من يكون وقت إرتكاب الفعل عاجزاً عن ادراك طبيعته ونتائجه لسبب : 1- الجنون الدائم او المؤقت  او العاهة العقلية) والجنون في مصطلح الفقهاء عبارة عن آفة  تصيب عقل الإنسان فتجعله يخلط بين الافعال والأقوال والاشياء فلا يستطيع التمييز بينها، فيرى المجنون أشياء على غير مايراها العقلاء ويسمع اشياء لا يسمعها العقلاء أي انه يخيل إليه انه يرى ويسمع اشياء لاوجود لها في الواقع، كما ان المجنون يخلط في كلامه فلايفهم السماع المراد من  كلامه ،ولذلك فقد جاء نص المادة (33) عقوبات موافقا لتعريف الفقهاء للجنونً فقد  قصر النص  الجنون على الآفة أو العاهة التي تصيب العقل فلم  يدرج النص المرض النفسي ضمن الجنون، ومن ناحية شرعية وقانونية فان مرض الانفصام في الشخصية يكون مرضاً عقلياً وليس نفسياً، لان الانفصام يؤثر على قدرة المريض على الاختيار والتمييز، كما ان الانفصام  يجعل المصاب به يتخيل اشياء ويسمع اشياء ويرى اشياء لا وجود لها في الواقع وهذا هو الجنون بعينه الذي تناوله الفقهاء في تعريفهم للجنون، اما بعض علماء علم النفس فانهم يذهبون إلى ان الانفصام اعلى واخطر نوع من انواع الامراض النفسية،علما بأن التقريريين الطبيين اللذين اعتمد عليهما الحكم محل تعليقنا قد ذكرا أن الانفصام اخطر مرض عقلي فلم يذكرا أنه من الأمراض النفسية.

الوجه الثاني : مظاهر الخطورة في مرض الإنفصام :

حسبما ورد في التقريرين الطبيين فان المحكوم عليه في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا وبحسب ماهو مثبت في المراجع المتخصصة فان المريض بالإنفصام يخيل اليه انه يرى اشياء او يسمع اشياء غير حقيقية او على غير حقيقتها ويعتقد اعتقاداً جازماً انها حقيقية، وتبعا لذلك يقوم المصاب بهذا المرض بأفعال وتصرفات على هذا الاساس، فمثلاً حدث امام المستشفى الجمهوري بصنعاء ان رأى المريض بهذا المرض رأي الشال الذي كان والده يضعه على عنقه رأى المريض الشال كما لو  انه ثعبان يلتف حول عنق ابيه فبادر المريض إلى طعن الثعبان فقتل اباه، والآخر في بيت بوس بصنعاء رأى باب حوش منزلهم يتم فتحه ويدخل منه وحش اسود  فقام بإطلاق النار على ذلك الوحش في حين ان ذلك الوحش هو ام المريض، ولذلك فان المريض بإلانفصام يكون خطراً على نفسه وعلى غيره من المحيط الذي يعيش فيه حسبما قضى الحكم محل  تعلقينا فلاينبغي تسليم المريض بهذا المرض إلى وليه وانما ينبغي إيداعه في المصحة العقلية للعلاج حتى يشفيه الله.

الوجه الثالث : المسئولية الجزائية للمصاب بالإنفصام ووجوب ايداعه في المصحة العقلية:

ذكرنا فيما سبق ان إنفصام الشخصية في المفهوم الشرعي والقانوني ماهو إلا نوعً من انواع الجنون الذي يعدم الارادة والاختيار، وتبعاً لذلك فان  المصاب بهذا المرض لا يسأل جزائياً حسبما ورد في المادة (33) عقوبات السابق ذكرها، ولان مرض الإنفصام على تلك الدرجة من الخطورة السابق ذكرها فان المصاب به يكون خطرا على نفسه وعلى المحيطين به ومن ضمنهم وليه، ولذلك قضى الحكم محل تعليقنا بان يتم إيداع المريض بهذا المرض الخطير في مصحة عقلية ولا يتم تسليمه إلى وليه إلا اذا قرر الاطباء المختصون  أنه قد تلقى العلاج اللازم وانه لم يعد يشكل خطرا على نفسه او المحيطين به، فقد نقض حكم المحكمة العليا الحكم الاستئنافي الذي قضى بتأييد الحكم الاستئنافي المؤيد للحكم الابتدائي الذي قضى بإطلاق سراح المصاب بالإنفصام وتسليمه لوليه، ومن المقرر وفقاً للمادة (41) عقوبات مسئولية الشخص الذي  يستعمل المصاب بالإنفصام يستعمله في إرتكاب الجريمة، فالشخص الذي يستعمل المجنون يكون هو الجاني او الفاعل(الفاعل بالواسطة)  حيث يعاقب الفاعل بالواسطة كما لو انه الذي قام بإرتكاب الجريمة لانعدام مسئولية المريض بإلانفصام.

الوجه الرابع : الحكم بدية العمد على العاقلة بحسب الفرائض الشرعية :

قضى الحكم محل تعليقنا بإلزام عاقلة المصاب بالانفصام بدفع دية القتل العمد بالإضافة إلى خمسة مليون غرامة على ان تتولى العاقلة دفع الدية والغرامة بحسب الفرائض الشرعية أي ان الحكم قضى بأن العاقلة  هم  ورثة المحكوم عليه مع ان قانون الجرائم والعقوبات قد حدد العاقلة في المواد (91 و 92و 93)فاشارت هذه المواد بان العاقلة هم العصبة والقبيلة واهل الحرفة وان  الاغنياء من العاقلة يتحملون من الدية وغير ذلك من تفاصيل  من التفاصيل التي تضمنتها تلك المواد التي يتعذر على القاضي الاحاطة بها ومعرفة أحوال وصفات ودرجات العاقلة طالما وهم لم يمثلوا امام القاضي  لان قانون الاجراءات اوجب على العاقلة دفع الدية عن طريق اجراءات تتم بعد صدور الحكم  من غير أن  يمثلوا  امام المحكمة التي تصدر الحكم حتى يكون الحكم حجة عليهم وحتي يعرف القاضي من هم العاقلة وعددهم وصفاتهم ويقضي بتوزيع الدية عليهم،حيث قرر قانون الاجراءات أن على العاقلة  تنفيذ الحكم عليهم بالدية بعد صدوره، ولذلك يتعذر على القضاة عند الحكم بالدية على العاقلة تطبيق المواد المتضمنة  احكام العاقلة الواردة في قانون الجرائم والعقوبات  وتحديد افراد العاقلة وإلزامهم بدفع الدية، ولذلك لاحظنا الحكم محل تعليقنا قد حدد العاقلة بانهم ورثة المريض بالانفصام،فلاتثريب على الحكم فيما قضى به لان الورثة هم العاقلة عند بعض الفقهاء وهو القول الذي نختاره لسهولة الحكم به وسهولة تحديد الورثة، ولذلك فان الحكم محل تعليقنا لم يخالف  الفقه الإسلامي، كما يلاحظ أيضاً ان الحكم قد قضى بإلزام العاقلة بدفع دية القتل العمد مع ان كثيراً من الفقهاء يذهبون إلى ان عمد الصبي والمجنون خطأ تتحمله العاقلة، وهذا يعني ان تكون دية عمد المجنون هي دية خطأ وليس دية عمد كما قضى الحكم محل تعليقنا، لكننا لا نستطيع القول بان الحكم قد خالف في ذلك الفقه الإسلامي أو القانون، لان القانون قد حدد الدية بالعملة اليمنية خلافا لما ذهب إليه جميع الفقهاء لذلك فقد صار مبلغ الدية في القانون تافها ولذلك فان القضاة يحاولوا جبر ذلك عن طريق زيادة مبلغ مصاريف التقاضي مثلما قضى الحكم  محل تعليقنا، والله اعلم.