تأثير الرجوع عن الإقرار في الحرابة والقصاص

 

تأثير الرجوع عن الإقرار في الحرابة والقصاص


الحرابة جريمة خطيرة تهدد أمن واستقرار المجتمع المسلم ولذلك قررت الشريعة الإسلامية على الحرابة عقوبات رادعة وإضافة إلى ذلك فقد جعلت الشريعة المحارب مسئولاً وضامناً لكل الجنايات التي احدثها في اثناء حرابته حتى لو تاب واقلع عن الحرابة بل يضل مسئولاً عن تلك الافعال حتى لو سقط عنه حد الحرابة برجوعه عن إقراره حسبما قضى الحكم محل تعليقنا, وهو الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 19/1/2018م في الطعن رقم (60106) وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان متهمين قاما بالحرابة حيث كانا يتعرضا المسافرين في إحدى الطرق الرئيسة وكانا يسلبا المسافرين المال ويخيفا السبيل وفي بعض الأحيان كانا يطلقا النار إن لم تقف السيارات فاصابا بعض الاشخاص ،وفي يوم جاءت سيارة صالون مسرعة لم تذعن لاشارتهما بالسلاح بالتوقف فقام احدهما بإطلاق النار على السيارة فقتل سائقها على الفور ثم قاما بسلب سيارته، وكان قد سبق لهما إصابة سائقين اثنين في حوادث حرابة سابقة منفصلة في المنطقة ذاتها، وعند القبض عليهما اعترفا في محاضر جمع الاستدلالات بكافة جرائم الحرابة التي سبق لهما ان اقترفاها، وقد تم الاشهاد على اقوالهما في محاضر جمع الاستدلالات بأكثر من خمسة شهود شهدوا بان المتهمين قد ادليا بأقوالهما من غير إكراه، وامام المحكمة الجزائية المتخصصة تراجع المتهمان عن اقرارهما الثابت في محاضر جمع الاستدلالات بدعوى انهما تعرضا للتعذيب لإنتزاع اقوالهما إلا أن المحكمة قضت بإعدامهما قصاصاً لثبوت قتلهما للمجني عليه بإقرارهما في محاضر جمع الاستدلالات المشهود عليه وكذا تحميلهما أروش المصابين في حوادث الحرابة السابقة وإلزامهما بإعادة الأموال التي سلباها أثناء الحرابة ، وقد ورد ضمن أسباب الحكم الابتدائي ان تراجع المتهمين عن إعترافهما قد اسقط عنهما حد الحرابة بإعتباره حقاً لله تبارك وتعالى غير ان التراجع عن الإقرار لا يسقط القصاص أو الجنايات الأخرى لغلبة حق الأدميين فيها، وقد قضت الشعبة الجزائية بتأييد الحكم الابتدائي ثم أقرت الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا (اما من حيث الموضوع فان ما اثاره الطاعنان بشأن عدم صحة اقوالهما المثبتة في محاضر جمع الاستدلالات وانه تم انتزاعها منهم بالإكراه وتحت التعذيب فتلك دعوى قد عجزا عن إثباتها بل ان الثابت خلافها بشهادة الشهود إلا أن نفيهما لأقوالهما تلك يعد تراجعاً مسقطاً لحد الحرابة إلا أنه غير مسقط للقصاص وأرش الجنايات الأخرى) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :

الوجه الأول: حد الحرابة الواجب تطبيقه على المتهمين لو لم يتراجعا عن إقرارهما:

من خلال مطالعة قرار الاتهام وأسباب الحكم الابتدائي يظهر أن المتهمين قد ارتكبا جريمة الحرابة الحدية بكل صورها حيث اخافا السبيل وسلبا الأموال واصابا شخصين وقتلاً آخر، وبناءً على ذلك فقد ارتكبا كل صور وافعال الحرابة ،وفي هذه الحالة فان عقوبتهما وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية  وقانون الجرائم والعقوبات هي القتل أو الاعدام حداً وصلبهما لمدة ثلاثة أيام، هذا بالنسبة للعقوبة الحدية أو الحق العام ،اما في الحق الخاص فيلزمهما القصاص الذي يتداخل مع الاعدام حدا كما يضمنا أروش كافة الجنايات التي احدثاها في اثناء الحرابة كما انهما يضمنا كافة الأموال التي اتلفوها اثناء الحرابة ويجب عليهما إعادة كافة الأموال التي سلبوها اثناء الحرابة، لان الحقوق الخاصة بالأفراد أو الادميين لا تسقط سواء سقط حد الحرابة أو لم يسقط،وهذا من الفروق بين المحارب والباغي، فالباغي لايضمن الجنايات التي احدثها حين بغيه (التشريع الجنائي الإسلامي، أ.د.عبدالمؤمن شجاع الدين، صـ116).

الوجه الثاني: سقوط حد الحرابة بالتراجع عن الإقرار:

اذا ثبتت الحرابة بالإقرار وحده فان عقوبة الحرابة تسقط برجوع المحارب عن إقراره، لان الحرابة حد من حدود الله المبنية على العفو والمسامحة فان الله غفور رحيم كريم، ولذلك فقد اتفق الفقهاء على سقوط الحرابة إذا ما تراجع المحارب عن إقراره إذا كان الإقرار هو الدليل الوحيد المثبت للحرابة، وقد يكون التراجع عن الإقرار  صراحة وقد يكون ضمناً، فالتراجع الصريح يتضمن التصريح بانه قد تراجع عن اقواله أو إقراره السابق ويكون التراجع صريحا  إذا انكر المحارب صدور الأقوال منه كأن ينكر ان الأقوال المثبتة في المحضر أقواله أو ينفي ان البصمة التي عليها بصمته كما قد يتم التراجع بقول المحارب ان  إقراره او اقواله المثبتة في المحضر هي اقواله  ولكنه يدعي بانه تم إجباره على قولها أو تم انتزاعها منه بالقوة عن طريق التعذيب،  مثلما حدث في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا، وفي كل حالات التراجع عن الإقرار المشار اليها يسقط حد الحرابة.

الوجه الثالث: لا يسقط القصاص او غيره من حقوق الأدميين برجوع المحارب عن إقراره:

اذا كان من المتفق عليه في الفقه والقانون والقضاء سقوط حد الحرابة عن المحارب برجوعه عن إقراره اذا كان الحد قد ثبت بالإقرار فقط إلا أنه من المتفق عليه في الفقه والقانون والقضاء ان الإقرار إذا تعلق به حق أدمي فلا يكون هناك أي تأثير لهذا الرجوع على حقوق الأدميين لانها مبنية على الشح وعدم التساهل والمسامحة، ومن هذا المنطلق فان تراجع المحارب عن إقراره المتعلق بالقصاص والأروش وضمان الأموال التي سلبها أو اتلفها اثناء حرابته لا تسقط برجوعه عن إقراره ولو كان هذا الإقرار هو الدليل الوحيد ولو كان هذا الإقرار قد اثبت الحرابة وحقوق الأدميين معاً مثلما كان في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا، والله اعلم.

أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء