جريمة مطل الغني

 

جريمة مطل الغني


من القضايا الواقعية التي يكثر وقوعها مطل الاغنياء عن الوفاء بالقروض التي في ذممهم لمستحقيها، ولذلك فان الشريعة الإسلامية تجيز معاقبة الغني المماطل لحمله على سداد القرض الذي  بذمته، وقد نهج القانون هذا النهج هذا الشأن  في التجريم والعقاب إذا مطل الغني المقتدر فجعل القانون   مطل الغني جريمة يعاقب عليها القانون، ومن المفيد للغاية الوقوف على كيفية تعامل الحكم القضائي مع هذه المسائلة حيث يظهر ذلك من خلاللحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 27/9/2016م في الطعن رقم (58421)، وتتلخص وقائع القضية ان النيابة العامة اتهمت شخصاً بانه اقترض  مبالغ مالية كبيرة والنظم بسداد اجال محددة في سندات القرض التي حررها للمقترضين وعند حلول الاجال المحددة للسداد قام المقرضون بمطالبته بالسداد الا انه ضل يماطلهم مما دفعهم إلى تقديم الشكوى إلى النيابة، وامام المحكمة الابتدائية دفع المتهم بان القضية تجارية متعلقة بديون وحقوق وحسابات متبادلة بينه وبين مقدمي الشكوى ضده، وقد خلصت المحكمة الابتدائية إلى الحكم بثبوت التهمة المسندة للمتهم وهي مطل الغني والإكتفاء بمدة الحبس التي امضاها والزام المتهم بإعادة المبالغ التي بذمته، وقد ورد في أسباب الحكم (لما كانت واقعة مطل الغني ثابتة قبل المتهم بالإقرار والأدلة الأخرى ولما كان دفع المتهم بان هناك حسابات بين الطرفين وان القضية تجارية في غير محله) وقد أيدت الشعبة الجزائية الحكم ثم أقرته الدائرة الجزائية، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا (فان الوقائع التي اثارها الطاعن في طعنه قد سبق له ان اثارها أمام محكمتي الموضوع والتي ذكرت انه لا صلة لها بالتهمة المسندة له وانه يستطيع اللجوء إلى القضاء لاقتضائها، وحيث ان تلك الوقائع لا إرتباط بينها وبين التهمة المسندة إلى الطاعن المدعى عليه ابتداءً ،ولذلك فان ما ذهب إليه الحكم الاستئنافي كان صائباً مما يستوجب إقراره) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية:

الوجه الأول: التجريم والعقاب لمطل الغني في القانون وماهية المطل:

يجرم قانون الجرائم والعقوبات مطل الغني ويعاقب على ذلك بحسب ما ورد في المادة (316) من القانون التي نصت على ان (يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو بالغرامة كل من اقترض مالاً لآجل ولم يقم بسداده عند المطالبة بعد انقضاء الآجل مع قدرته على السداد) ومن خلال استقراء هذا النص نجد انه اشترط لقيام هذه الجريمة شروطا عدة منها امتناع المقترض بالفعل عن سداد القرض وان يتم هذا الامتناع بعد حلول  الاجل المحدد لسداد القرض،كما يشترط ان يكون المبلغ قرضاً فاذا لم يكن المبلغ كذلك فلا تقوم هذه الجريمة، فاذا كان المبلغ ناتج عن بيع وشراء او حوالات أو معاملات بين الطرفين فلاتقوم الجريمة، كما اشترط النص ان يكون القرض له اجل محدد للوفاء به حتى يمكن القول بان المقترض قد امتنع وماطل في السداد فلم يسدد في الاجل المحدد، وحتى تتحقق جريمة المطل فانه ينبغي ان يقوم المقرض بمطالبة المقترض وإخطاره بعد إنقضاء أجل السداد بسداد مبلغ القرض ،على ان تتم هذه المطالبة بعد انقضاء الاجل المحدد لسداد القرض، كما يشترط النص أن يكون امتناع المقترض بعد المطالبة  وعلاوة على الشروط السابقة فانه يشترط ان يكون المقترض قادراً على سداد القرض في الميعاد المحدد أو عند مطالبة المقرض له، ومعنى القدرة ان تكون لدى المقترض اموالا ظاهرة تفيض عن حاجته تكفي لسداد مبلغ القرض وان لا يكون المقترض محجورا عليه أو تكون  امواله محجوزة قضائيا او اداريا او لا يستطيع التصرف فيها لكسادها وعزوف الناس عنها فاذا لم يكن المقترض مقتدراً على السداد في الاجل المحدد  فانه معسر عن السداد ينطبق عليه الحكم الشرعي وهو الإمهال حتى إيساره عملاً بقوله تعالى { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ...}، كما ان المطل وان كان إمتناعاً عن السداد إلا انه يتحقق أيضاً بجحود وإنكار المقترض مع ثبوت القرض بذمته.

الوجه الثاني: جواز معاقبة الغني المماطل في الفقه الإسلامي:

اتفق الفقه الإسلامي على جواز حبس المدين الغني القادر عن السداد اذا امتنع عن سداد ما بذمته إلى المقرض في الاجل المتفق عليه وذلك لحمل المدين المماطل على السداد عملاً بقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم (مطل الغني ظلم يحل عقوبته) وفي رواية (لي الواجد ظلم يحل عقوبته  ) وقد ورد هذا الحديث بروايات والفاظ مختلفة لكنها في مجموعها تفيد ان المقترض الذي تتوفر لديه الأموال الكافية لسداد دينه  فيمتنع ظالم لنفسه لانه خالف اوامر الله بالوفاء في الميعاد والعقود وجاحد جميل وإحسان المقرض الذي اقرضه قرضاً حسناً ولذلك تجوز معاقبته لحمله على السداد، ويذهب جانب من الفقه إلى ان عقوبته تكون الحبس حتى يسدد القرض لان من ضمن روايات الحديث السابق (مطل الغني ظلم يجيز حبسه) (تفسير آيات واحاديث الأحكام، أ.د.عبدالمؤمن شجاع الدين، صـ294).

الوجه الثالث : الحكمة من التجريم والعقاب في جريمة مطل الغني:

امر الله بالقرض الحسن وحث عليه في آيات كثيرة للتوكيد على مبادرة المسلمين إلى اداء هذه الفضيلة حتى ان الله سبحانه وتعالى نسب القرض الحسن إلى ذاته الغابة في قوله تعالى {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا...} [سورة الحديد 11]  ولذلك فان الشريعة الإسلامية تهدف من عقوبة المطل  إلى حماية القروض الحسنة من مطل المقتدرين حتى يأمن صاحب المال على إستعاده امواله التي اقرضها للغير قرضاً حسناً، فالقرض الحسن اجدر وأولى بالحماية الجنائية حتى يبادر اصحاب الأموال إلى اقراض اموالهم إلى الغير فيجري المال في الأعمال فيزيد النشاط والانتاج ويتداول المال بين الايدي عن طريق القروض الحسنة، لان المقرض قد تأكد من ان هناك عقوبة رادعة سيتم توقيعها على من يمتنع او يماطل في سداد القرض في الاجل المتفق عليه.

الوجه الرابع : إثبات المقرض للقرض في ذمة المقترض وإثبات المطالبة وإثبات الغني او القدرة على السداد:

دلالة الاقتضاء في المادة (316) عقوبات تقتضي ان يكون القرض ثابتاً ومستقراً في ذمة المقترض، وهذا يستدعي ان تتثبت النيابة من مؤيدات الدين في ذمة المقترض ومن مطالبة المقرض للمقترض بالسداد وكذا التحقق من القدرة المالية للمقترض وغيرها من الشروط المذكورة في الوجه الأول، والله اعلم.

أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء