قبول اولياء الدم للتحكيم لا يسقط القصاص

 

قبول اولياء الدم للتحكيم لا يسقط القصاص

أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين

الاستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

حوادث القتل العمد الموجب للقصاص في اليمن كثيرة والاكثر منها محاولات اسقاط القصاص عن طريق عرض التحكيم على اولياء الدم الذي يتخذ صورا كثيرة منها عرض بنادق التحكيم وبنادق الدفن  وبعث عشيرة القاتل للوسطاء والمحكمين وقيام عشيرة القاتل بالعقير امام منزل اولياء الدم طلبا للتحكيم او العفو  الصفح اوقيام عشيرة القاتل بمايسمى بالمهجم وهو قدومهم ونصبهم للخيام امام منزل اولياء الدم وغير ذلك، ويسود الاعتقاد لدى الناس ان مجرد قبول اولياء لمقدمات التحكيم في جرائم القتل يسقط القصاص حيث يتم النظر اليه والتعامل معه على انه بمثابة عفو وتنازل من اولياء الدم عن القصاص، إلا أن الحكم محل تعليقنا يقرر ان مجرد قبول التحكيم لا يسقط القصاص ولايكون بمثابة عفو وتنازل عن القصاص. ولذلك اخترنا التعليق على هذا الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 30/3/2009م في الطعن الجزائي رقم (36645) لسنة 1430هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم أن احد الاشخاص قام بالقتل العمد لاحد الاشخاص وجرح اخر حيث حكمت عليه المحكمة الابتدائية بالإعدام قصاصاً بالمجني عليه لثبوت واقعة القتل وصحة نسبتها اليه فلم يقبل المتهم بالحكم الابتدائي فقام باستئنافه حيث قبلت الشعبة الجزائية الاستئناف وقضت بقبول الاستئناف وسقوط القصاص عن المتهم والزامه بدفع دية قتل عمد إلى اولياء الدم لثبوت قبول ولي الدم والد القتيل للتحكيم حسبما ورد في اسباب الحكم الاستئنافي فلم يقبل أولياء الدم بالحكم الاستئنافي، فقاموا بالطعن فيه بالنقض، فقبلت الدائرة الجزائية الطعن ونقضت الحكم الاستئنافي،  ، وقد ورد ضمن اسباب حكم المحكمة العليا (اما من حيث الموضوع فان الحكم الاستئنافي قد اعتبر مجرد قبول والد المجني عليه لمبدا التحكبم عفواً وتنازلاً مسقطاً للقصاص من القاتل في حين انه لم يصدر من والد القتيل العفو أو التنازل عن القصاص، والدائرة تجد ان الحكم الاستئنافي محل الطعن قد تردى في الخطأ في قضائه  واعتباره لقبول التحكيم من والد المقتول المقدم من والد القاتل عفواً وتنازلاً مسقطاً لحق ورثة المجني عليه في المطالبة بالقصاص من القاتل أمام القضاء. ذلك ان اعتبار المحكمة مصدرة الحكم محل الطعن لواقعة قبول التحكيم من والد المجني عليه في قتل ولده عفواً وتنازلاً مسقطاً لحق ورثة المجني عليه في القصاص من القاتل ومنعاً من المطالبة بالقصاص من المتهم المذكور أمام القضاء، ولا شك ان ذلك تفسير وتأويل منحرف عن المعنى اللغوي والشرعي لقبول التحكيم وتحميل واقعة قبول التحكيم فوق ما تحمله فضلاً عن أن هذا التفسير والتأويل غير مسبوق فلا وجود له في قواميس اللغة ولا في أحكام الشريعة كما انه لا سند له من الواقع ذلك ان وثيقة التحكيم قد حررت بتاريخ ... وان والد المجني عليه قد اعرض عنها وظل يتابع إجراءات التقاضي أمام محكمة أول درجة والمطالبة بالقصاص من المتهم حتى صدور الحكم الابتدائي بإجراء القصاص ضرباً بالسيف أو رمياً بالرصاص، ولذلك فان ما ذهبت اليه المحكمة مصدرة الحكم الاستئنافي من اعتبار واقعة قبول التحكيم من والد المجني عليه عفواً وتنازلاً عن القصاص لا سند له شرعاً وواقعاً وقانوناً الامر الذي يتعين معه نقض الحكم) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الاتية :

الوجه الأول : جواز التحكيم في قضايا القتل العمد في اليمن :

لم يمنع قانون التحكيم اليمني في المادة (5) لم يمنع التحكيم في قضايا القتل العمد، لان هذه القضايا يجتمع فيها الحق العام وحق اولياء الدم ويكون حق اولياء الدم هو الغالب، لان القصاص حق لأولياء الدم، الا ان هذا التحكيم في اليمن له اشكاليات عدة أهمها التناقض فيما بين التحكيم العرفي في هذه الحالة وقواعد التحكيم القانوني، فالتحكيم لولي الدم في العرف القبلي جائز اما في القانون فالأصل ان المحكم يُرد بما يرد به القاضي ومن ذلك القرابة وان تم  تجاوز هذا المانع عند شراح قانون التحكيم  كما انه يتعذر في هذه الحالة على ولي الدم ان يحكم لنفسه لان قانون التحكيم يشترط ان تكون وثيقة التحكيم صادرة من الطرفين وليس من طرف واحد، علماً بان قوانين الدول الاخرى لا تجيز التحكيم في المسائل الجزائية لتعلقها بالنظام العام لانه ينبغي ان تخضع هذه المسائل لإجراءات التحقيق الابتدائي الذي تباشره النيابة العامة التي تحتكر وحدها حق رفع الدعوى الجزائية في المسائل الجزائية بما فيها القتل العمد، ولان التحكيم في جرائم القتل العمد جائز في اليمن فان كل وقائع القتل في اليمن تشهد حالات قيام اقرباء الجاني بعرض التحكيم على أولياء الدم.

الوجه الثاني : طرق عرض التحكيم في قضايا القتل في اليمن :

في كل قضايا القتل العمد الموجب للقصاص يسعى القاتل وعشيرته وأهل الخير الى احتواء الاثار المترتبة على واقعة القتل ومنع ردود الافعال حيث تتدخل شخصيات لتحكيم ولي الدم حيث يتم تقديم بنادق تحكيم تختلف اغراضها فأحيان يكون الغرض منها تحكيم ولي الدم صراحة واحيان يكون الغرض منها تصبير ولي الدم ومنعه من الانتقام واحيان يكون الغرض منها دفن جثة المجني عليه لان عشيرته تمتنع عن دفنه حتى تقتص أو تأخذ بثأره. وغالباً ما يقوم اقرباء الجاني أو القاتل بتحكيم ولي الدم نفسه وفي بعض الاحيان يتم تحكيم شخص أخر غير ولي الدم وفي احيان أخرى يقوم ولي الدم بنقل التحكيم منه الى شخص أخر، وفي بعض الحالات تقوم عشيرة الجاني بالعقير أي ذبح ثور أمام منزل اولياء الدم طلباً للعفو والصفح أو لإحراجهم بقبول التحكيم وغيرذلك .

مربع نص: الأسعدي للطباعة / ت 772877717

الوجه الثالث : الاثار المترتبة على عرض التحكيم وقبوله :

اذا رفض اولياء الدم عروض التحكيم السابق ذكرها في الوجه الثاني فليس هناك أي اثر لهذه العروض على القصاص أو حق اولياء الدم في طلب القصاص اما اذا قبل اولياء الدم عرض التحكيم فيختلف الاثر باختلاف العرض المقبول ونوع القبول ونطاقه، فاذا قبل ولي الدم وقام بمخاطبة النيابة او المحكمة بانه قد قبل التحكيم وانه سيتم البت في حق اولياء الدم عن طريق التحكيم فان هذا القبول  يكون مسقطا لحق اولياء في المطالبة بالقصاص ولكن هذا لا يعني سقوط الحق العام وحق النيابة في تحريك الدعوى الجزائية في الحق العام كما ان هذا القبول لا يعطل سلطة المحكمة في القضاء بالعقوبة اللازمة على الجاني فيما يتعلق بالحق العام، اما اذا قبل ولي الدم بنادق التصبير التي يكون الهدف منها منعه من الاخذ بثأره وصبره حتى يقدر الله امر كان مفعولاً فلا يعد هذا القبول مسقطاً لحق الولي في المطالبة بالقصاص وكذا الحال بالنسبة لبنادق الدفن التي يكون الغرض منها هو حمل اولياء الدم على دفن جثة قتيلهم كما ان مجرد قبول ولي الدم للتحكيم لا يكون مسقطاً لحقه في طلب القصاص اذا كان هذا القبول مجرداً من اية تفاصيل تحدد المحكم والإجراءات وغيرها وهذا ما اشار اليه الحكم محل تعليقنا الذي صرح بان مجرد قبول فكرة التحكيم  لاتسقط المطالبة  بالقصاص كما قرر الحكم محل تعليقنا بان قبول ولي الدم للتحكيم لا يعني انه قد قام بالعفو  والتنازل عن حقه في القصاص لانه في هذه الحالة لم يفصح عن حكمه لان العفو والتنازل يتم بموجب حكم التحكيم وليس بمجرد قبوله لفكرة التحكيم لان قانون الجرائم والعقوبات قد حدد مسقطات القصاص ومنها العفو ممن يملكه واشترط صدور العفو ممن يملكه حسبما ورد في المواد (51 و 54 ، 55 ، 56) والعفو المسقط للقصاص تصرف مغاير لمجرد قبول التحكيم حيث يجب ان يصدر هذا العفو بواسطة محرر مشهود عليه او عن طريق حضور ولي الدم امام المحكمة التي تنظر القضية فيقر امامها بانه قد عفى عن الجاني، والله اعلم.