لا تبطل الشفعة بالرجوع عن البيع

 

لا تبطل الشفعة بالرجوع عن البيع

أ. د. عبد المؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون  جامعة صنعاء

إشكاليات الشفعة وقلة فهم إحكامها تثير إشكاليات مجتمعية أخرى بين الشركاء والورثة والجيران وتؤرث بينهما الشحناء والبغضاء بدلاً عن الود والتراحم والاحترام ، ولذلك نجد أن عدم الوعي بأحكام الشفعة على كثرة الاحتياج لها تؤدي الى نزاعات وخلافات وتقاطع وتدابر لاسيما بعد أن ترفع الدعاوى أمام القضاء الذي يؤرث البغضاء بين الخصوم فقد قال الفاروق ( ردوا الخصوم عن القضاء فانه يؤرث الضغاين البغضاء ) فلو فهم الناس أحكام الشفعة ودقائقها لما حدثت النزاعات ولما رفعت الدعاوى أمام القضاء ، ومن دقائق الشفعة وأحكامها التي كثر الاحتياج لها لكثرة وقوعها تأثير تراجع البائع والمشتري عن بيع العين المشفوعة على طلب الشفعة بمعنى هل يسقط طلب الشفعة بالتراجع عن عملية بيع العين المشفوعة أم أن طلب الشفعة يظل قائماً فيستحق طالب الشفعة العين المشفوعة رغم تراجع البائع والمشتري لاسيما وأن التراجع غالباً يكون صورياً أو غير حقيقي وهذه مسألة واقعية ليست نادرة في اليمن حيث تسود ثقافة المغالطة ، ولذلك فقد وجدنا انه من المناسب تسليط الضوء على هذه المسألة بمناسبة التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها  المنعقدة بتاريخ 23/1/2011م في الطعن المدني رقم (93224) لسنة 1432هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان وارثاً قام ببيع نصيبه من الأرض الملاصقة لأرض قريبه الوارث بسبب خلافات بين الوارثين المتجاورين ؛ وعندما علم بالبيع صاحب الأرض الملاصقة للأرض المبيعة  قام بقيد شفعته وطلب من المشتري ان يسلمه المبلغ  الذي دفعه ثمناً للأرض وإعادة الأرض المبيعة إليه لاختلاط مرافق أرضيته مع الأرض المبيعة فلم يقبل المشتري أن يسلم  بالشفعة ، فقام طالب الشفعة برفع دعوى شفعة لدى المحكمة الابتدائية طلب فيها من المحكمة تطبيق الشفعة لتوفر سببها الشرعي والقانوني ، فقام المشتري للأرض المشفوعة المدعى عليه بالرد على الدعوى بأنه قد تم التراجع عن البيع من قبله والبائع له وتبعاً لذلك فلا محل لهذه الدعوى ، وقد خلصت المحكمة الابتدائية إلى الحكم ( بقنوع طالب الشفعة لتراجع البائع والمشتري عن البيع ) فقام المدعي طالب الشفعة باستئناف الحكم على أساس أن القانون يقرر بان الشفعة لا تبطل بالرجوع عن البيع لان الحكم الابتدائي قد خالف القانون في هذه المسألة ، وقد قبلت محكمة الاستئناف عريضة الاستئناف وحكمت ( بقبول الاستئناف وثبوت صحة طلب الشفعة وثبوت صحة سببها وعلى المستأنف ضده تسليم بصيرة شرائه للمستأنف وعلى المستأنف تسليم الثمن المذكور في البصيرة مع أجرة كتابة البصيرة والسعاية) وقد جاء في أسباب الحكم ألاستئنافي ( بان البيع والتراجع عنه فيه تحايل على طالب الشفعة حيث قام البائع والمشتري بالتراجع  عن البيع بعد تقييد طالب الشفعة لطلبه  ومطالبته للمشتري بها ، فهذا التراجع لا يبطل طلب الشفعة استناداً إلى المادة (1267) مدني التي نصت عن انه لا تبطل الشفعة بالفسخ للعيب أو لغيره بعد طلب الشفعة في مواجهة المشتري؛ ولذلك واستناداً إلى المادتين ( 256 و 1267 ) مدني فان الشعبة تحكم بقبول الاستئناف وثبوت صحة الشفعة ) فلم يقبل المشتري الحكم ألاستئنافي فقام بالطعن بالنقض في الحكم ألاستئنافي أمام المحكمة العليا التي رفضت الطعن وأقرت الحكم ألاستئنافي ، وقد جاء في أسباب حكم المحكمة العليا ( والدائرة بعد الاطلاع على  الأوراق مشتملات الملف وجدت أن ما يدعي به الطاعن في أسباب طعنه على الحكم المطعون فيه ليس له أساس قانوني ، فقوله ان الحكم المطعون فيه لم يدرك مقتضى نص المادة ( 1267 ) مدني وان فسخ العقد غير التفاسخ فمردود عليه  بما جاء في حيثيات الحكم المطعون فيه من أن قيام طرفي عقد البيع بالرجوع عن البيع والشراء بعد تقييد الشفعة وطلبها من المستأنف ضده لا يبطل الشفعة استناداً إلى نص المادة ( 1267) مدني المشار اليها في الطعن مما يتعين معه رفض الطعن موضوعاً ) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب ما هو مبين في الأوجه ألأتية :-

الوجه الأول : السند القانوني للحكم بأن الشفعة لا تبطل بالرجوع عن البيع :

سند  ً الحكم محل تعليقنا في ذلك هو المادة (1267) مدني التي نصت (على انه لا تبطل الشفعة بالفسخ لعيب أو لغيره بعد طلبها في مواجهة المشتري) فهذا النص يقرر ان فسخ عقد البيع فيما بين المشتري والبائع للعين المشفوعة لا يبطل طلب الشفعة المقدم من الشفيع ، لان التراجع عن البيع بمثابة فسخ للبيع ؛ والنص القانوني السابق ذكره قد قرر صراحة أن أي فسخ لعقد بيع العين المشفوعة لا يترتب عليه  سقوط طلب الشفعة ، ويرجع سبب ذلك في الفقه والقانون إلى أن طالب الشفعة أو الشفيع ليس طرف في عقد البيع للعين المشفوعة فلا يكون هذا العقد حجة عليه  أو ملزماً له فلا يكون حق طالب الشفعة متعلقا بذلك العقد بحيث اذا  تم التراجع عنه سقط حقه ؛ فحق الشفيع في طلب الشفعة مستقل عن ذلك العقد فلا يفسخ  طلب الشفعة بفسخ عقد بيع العين المشفوعة ، وفي هذا المعنى قال صاحب شرح الأزهار قولاً بليغاً (فالفسخ مثل البيع وقع بتراضي البائع والمشتري فيصح فيما لا يتضمن حق الغير لان لهما ولاية على نفسيهما فيكون فسخاً في حقهما وليس على غيرهما ) ((شرح الازهار2/ 221) ، والأمانة العلمية تقتضي القول بان هناك أقوال أخرى في الفقه الإسلامي تذهب إلى سقوط الشفعة بالتراجع عن البيع وهو قول جماعة من الفقهاء ومنهم الأمام زفر الهذلي الحنفي الا ان القانون اليمني كان موفقاً  فيما ذهب اليه من حيث عدم سقوط الشفعة بالتراجع عن البيع لأن القانون راعى الواقع اليمني الذي تزدهر فيه ثقافة المغالطة والمكايدة؛ فهناك حالات كثيرة يكون الباعث على البيع لغير الوارث أو لغير الشريك أو لغير الجار هو النكاية أو الاضرار بالشريك والوارث مثلما حصل في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا كما ان التراجع قد يكون الباعث عليه  هو أيضاً الحيلة أو التحايل حسبما ورد في أسباب الحكم ألاستئنافي.

الوجه الثاني : إشكالية إثبات بيع العين المشفوعة واثبات التراجع :

أشار الحكم محل تعليقنا في مواضع عدة إلى الخلاف والتباغض الذي كان الباعث لبيع العين المشفوعة والتراجع عنها ، ولذلك فان حق طلب الشفعة متعلق بإثبات البيع بأدلة يقينية موثوقة وكذا أثبات التراجع وجديته أيضا يحتاج إلى أثبات من لدن جهة واحدة مختصة يسهل الرجوع اليها بصفة رسمية لإثبات مبيع العين المشفوعة والتراجع عنه وغير ذلك  من التفاصيل ، وهذا الامر  عسير المنال لتعدد الجهات وتعدد الأشخاص المعنيين بالعقود والتعاقد فهناك الأمناء  والموثقون والقضاة والعلماء والمحامون كلهم يقومون بتحرير العقود والإقرارات كما أن الجهات المعنية بالعقود كثيرة كالسجل العقاري وأقلام التوثيق ولذلك فان الشفيع يقف حائراً عندما يريد ان يطلب الشفعة أو يثبت وقوع بيع العين المشفوعة - وثمنها ، وقد سبقت منا التوصية بإصلاح نظام العقود في اليمن في دراستين سابقتين.

الوجه الثالث : الحكم بصحة طلب الشفعة وثبوت صحة سببها وسلامة التدرج في منطوق الحكم :

من خلال مطالعة الحكم محل تعليقنا نجد ان الحكم ألاستئنافي قد قضى ( بصحة طلب الشفعة وثبوت صحة سببها؛) حسبما ورد في منطوق الحكم ألاستئنافي لان الخلاف فيما بين طالب الشفعة والمشتري كان منحصراً بشأن بقاء حق طالب الشفعة بعد تراجع المشتري والبائع للعين المشفوعة عن البيع ، ولذلك فقد  حسم الحكم هذه المسألة وقضى بصحة طلب الشفعة وبقائه بعد التراجع ، وبعد ذلك تدرج منطوق الحكم ألاستئنافي حيث قضى بعد ذلك بثبوت صحة سبب الشفعة ؛ وهذا مسلك يحمد له الحكم ألاستئنافي ؛ اذ الأصل ان يبدأ منطوق الحكم أولاً باثبات سبب الشفعة ثم يتدرج الى الحكم باثبات صحة طلب الشفعة الا ان الشعبة قدمت الحكم في صحة طلب الشفعة أولاً لأنه موضوع النزاع أصلا ثم تدرجت في حكمها تدرجاً رائعاً فقضت بثبوت صحة طلب الشفعة ثم بثبوت سبب الشفعة ثم إلزام المشتري بتسليم  بصيرة الشراء إلى طالب الشفعة ثم إلزام طالب الشفعة بدفع الثمن المحدد في البصيرة مع أجرة الكتابة والسعاية ، ولذلك نجد ان ترتيب منطوق الحكم وتدرجه بهذه الطريقة يدلً على المهنية العالية والاحترافية في صياغة المنطوق ، لان ذلك له أهميته البالغة عند تنفيذ  الحكم الذي يتم على وفق هذا التدرج .

الوجه الرابع : لغة الحكم :

عند التأمل في الألفاظ المستعملة في صياغة منطوق الحكم ألاستئنافي المقر من قبل المحكمة العليا نجد انه لم يتميز فقط بسلامة وروعة بناء  وتدرج منطوق الحكم وترتيبه بل انه تميز ايضا  بالعناية البالغة بالألفاظ المناسبة للشيء المقضي به ، وفي ذلك دليل على العناية البالغة في اختيار ألفاظ المنطوق فمثلاً كلمة (بثبوت) تعني انه قد ثبت للشعبة من خلال وسائل وأدلة الإثبات المقدمة إليها من الخصوم كما ان هذا اللفظ مناسبً لنوع الحكم وهو تقريري قرر وجود حق سابق على النطق به وهو الصحة والاحقية، وكذا استعمال الحكم  لأداة (على) الإلزامية التي تفيد اللزوم والحتم حينما قضى الحكم بأنه على المستأنف وعلى المستأنف ضده .

الوجه الخامس : إجراءات تقييد طلب الشفعة :

الوصف: 2.pngذكرنا فيما سبق أن الحكم ألاستئنافي الذي أقرته المحكمة العليا قد تدرج في منطوقه تدرجاً سليماً يطابق إجراءات تنفيذ الحكم التي ستتم مرتبة ومتدرجة أيضا بحسب تدرج منطوق الحكم وترتيبه حيث وصل تدرج الحكم إلى إلزام المشتري للعين المشفوعة بتسليم  بصيرة العين المشفوعة الى طالب الشفعة وإلزام طالب الشفعة بدفع ثمن العين المشفوعة الى المشتري بحسب المبالغ المحددة في بصيرة شراء المشتري للعين المشفوعة ، ومن المعلوم أن ملكية العين المشفوعة تنتقل إلى الشفيع بسبب الشفعة ولذلك أهميته عند تحرير وثيقة انتقال الملكية إلى الشفيع حيث يتم إثبات انتقال العين المشفوعة على ظهر وثيقة شراء المشتري للعين او يتم تحرير وثيقة انتقال الملكية إلى الشفيع بوثيقة مستقلة عن وثيقة شراء المشتري ، فالمهم ان تتضمن هذه الوثيقة سواءً اكانت مستقلة ام على ظهر وثيقة الشراء فيجب في الحالتين أن تتضمن هذه الوثيقة ما يفيد أن سبب انتقال الملكية الى الشفيع  هو الشفعة وان المشتري قد سلم أصل وثيقة شرائه إلى الشفيع وان الشفيع قد دفع ثمن العين المشفوعة إلى المشتري وان وثيقة شراء المشتري للعين عاطلة لا يعمل بها هذا كله اذا كانت الشفعة قد تمت خارج نطاق القضاء؛ اما اذا تمت الشفعة بموجب حكم قضائي مثل ما حصل في الحكم محل تعليقنا  فكان الواجب ان يتضمن المنطوق جملة (يعد هذا الحكم وثيقة تثبت انتقال الملكية إلى الشفيع ويحق للشفيع  تسجيل الحكم لدى الجهة المختصة) وقد طالعنا احكام كثيرة يتضمن منطوقها(تمليك الش فيع)، والله اعلم.