اشكالية عدم تحرير الاحكام في ميعادها
أ.د. عبد المؤمن
شجاع الدين
الاستاذ بكلية
الشريعة والقانون جامعة صنعاء
من الاشكاليات
الواقعية والعملية السائدة في اليمن ان يتم النطق بالحكم الا ان تحرير الحكم لا
يتم الا بعد فترة من الزمان تطول او تقصر؛ ولا شك ان هناك مبررات قد تستدعي عدم
تحرير نسخة الحكم في الميعاد المحدد قانونا وتسليم نسخ منه لأطراف الخصومة لدراسته واتخاذ مايرونه
كتنفيذ الحكم او الطعن فيه ؛ الا انه من المؤكد ان هذه الظاهرة مهما كانت مبرراتها
ودواعيها ينبغي تجاوزها لما لها من اثار سلبية على العدالة والقضاء وتاخير وصول
الحقوق الى اصحابها اضافة الى ان هذه الظاهرة من اسباب المشكلة الرئيسية والمركزية
في القضاء اليمني وهو اطالة اجراءات التقاضي, ولذلك فان اية محاولات لإصلاح القضاء
وتطويره يجب ان تتجه الى دراسة مشكلة عدم تحرير الاحكام في ميعادها المحدد قانونا,
وقد حاولت القوانين والاعراف النافذة تكريس هذه الظاهرة والاعتراف بها وتقديم
بدائل لتحرير الحكم في وقته, ولذلك نجد ان هناك احكام لا يتم تحريرها وتوقيعها
وتسليمها للخصوم الا بعد ثلاث سنوات من تاريخ النطق بها بل ان غالبية الاحكام لا
يتم تحريرها في ميعادها المحدد قانونا , وحتى لا يتحمل الخصوم تبعة التأخير في
تحرير الحكم فقد وردت في القانون رخصة الشهادة الخطية التي تمنحها المحكمة للخصوم
والتي تتضمن ان الحكم المطعون فيه لم يتم التوقيع عليه وتسليمه الا في تاريخ كذا ؛
ومع ذلك فان هذه الرخصة تثير جدلا سوف نجد صداه في الحكم محل تعليقنا وهو الحكم
الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا بتاريخ 23/9/2011م في الطعن الجزائي
رقم (40476) لسنة 1431هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان محكمة
الاستئناف قامت بالنطق بالحكم في قضية جزائية ولكنها لم تقم بتحرير نسخة الحكم
الاصلية خلال المدة المحددة قانوناً فقامت النيابة العامة بالطعن بالنقض في ذلك
الحكم امام المحكمة العليا ؛ حيث ورد في
طعن النيابة بالنقض في الحكم الاستئنافي (ان المادة (375)اجراءات اوجبت تحرير نسخة
الحكم الاصلية خلال خمسة عشر يوما من تاريخ النطق به والا كان الحكم باطلا في حين
انه من الثابت ان الشعبة الجزائية لم تقم بتحرير نسخة الحكم الاصلية الا بعد مضي
المدة المقررة قانونا مما يجعل حكمها باطلاً حسبما القانون ) الا ان المحكمة العليا رفضت طعن
النيابة واقرت الحكم الاستئنافي ؛ وقد ورد ضمن اسباب حكم المحكمة العليا (اما من
حيث الموضوع فقد نعت النيابة على الحكم المطعون فيه مخالفة الشعبة لنص المادة
(375) اجراءات عندما لم تقم بتحرير نسخة الحكم الاصلية خلال خمسة عشر يوما من
تاريخ النطق بالحكم فلم تقم الشعبة بتحرير الحكم الا بعد انقضاء المدة المحددة
لذلك قانونا , والدائرة تجد انه من خلال
استقراء المادة (375) اجراءات تجد ان المادة اوجبت ايداع مسودة الحكم المشتملة على
اسبابه ومنطوقه وموقعة من القضاة الذين
اشتركوا عند النطق به والا كان باطلا اما بالنسبة لتحرير نسخة الحكم فقد حدد
القانون مدة خمسة عشر يوما من تاريخ صدوره ويوقع عليه رئيس المحكمة وكاتبها وفي
سياق ذلك النص وضمانا لعدم تفويت حق الطعن بسبب انقضاء المدة المحددة للطعن اذا لم تتمكن المحكمة لظروف خارجة عن ارادتها
من تحرير نسخة الحكم خلال المدة المذكورة اشترط النص القانوني منح صاحب الشأن بناء
على طلبه شهادة بعدم توقيع الحكم في الميعاد المحدد لتحرير الحكم ؛ فهذا الامر لا
يصم الحكم بالبطلان ولا يؤثر في حجيته, وبذلك فان ما نعته النيابة على الحكم
المطعون فيه لا محل له ولا يؤثر على سلامة الحكم المطعون فيه) وسيكون تعليقنا على
هذا الحكم بحسب ما هو مبين في الاوجه الاتية :
الوجه الأول : المقصود بتحرير الحكم واهمية ذلك :
تحرير الحكم هو
المرحلة التالية للنطق بالحكم حيث يتم طباعة الحكم او كتابته بصيغته النهائية
مشتملا على البيانات الكاملة والتوقيع عليه وترقيمه وتسليم الخصوم نسخ منه, فلا
يستطيع الخصوم تنفيذ الاحكام الا اذا حصلوا على نسخ من الاحكام وتذيليها بالصيغة
التنفيذية كما انهم لا يستطيعون اعداد الطعون
الا بعد مراجعة ودراسة الاحكام لمعرفة اوجه مخالفتها للقانون او اوجه
القصور والنقص والعيب فيها واعداد الطعن بالأحكام في ضوء ذلك وارفاق صورة من الحكم
المطعون فيه .
الوجه الثاني : المدة اللازمة لتحرير الحكم :
اوجب قانون
الاجراءات تحرير مسودة الحكم قبل النطق بالحكم وايداعها عند النطق بالحكم ؛ وحدد
القانون مدة تحرير الحكم بانها خمسة عشر يوما من تاريخ النطق بالحكم حيث نصت
المادة (375) اجراءات على انه (يجب في جميع الاحوال ان تودع مسودة الحكم المشتملة
على اسبابه الموقعة من القضاة الذين اشتركوا في اصداره عند النطق بالحكم والا كان
باطلا, وتحرير نسخة الحكم الاصلية خلال خمسة عشر يوما من تاريخ صدوره ويوقع عليه
رئيس المحكمة وكاتبها واذا حصل مانع للرئيس يوقعه احد القضاة الذين اشتركوا معه في
اصداره واذا كان الحكم صادرا من قاضي فرد قد وضع اسبابه بخطه يجوز لرئيس محكمة
استئناف المحافظة ان يوقع بنفسه على نسخة الحكم الاصلية او يندب احد القضاة
للتوقيع عليها بناء على تلك الاسباب فاذا لم يكن القاضي قد كتب الاسباب بخطه يبطل
الحكم لخلوه من الاسباب وعلى دائرة الكتاب ان تعطي صاحب الشأن بناء على طلبه شهادة
بعدم توقيع الحكم في الميعاد المذكور) .
الوجه الثالث: جزاء عدم الالتزام بتحرير نسخة الحكم خلال المدة المحددة في القانون :
حسبما سبق فقد حدد
القانون مدة خمسة عشر يوما لتحرير الحكم تبدأ هذه المدة من تاريخ النطق بالحكم,
وفي القانون المصري قرر المدة بثمانية ايام فقط, ومع ان المادة (375) اجراءات يمني
قد ذكرت ان بطلان الحكم جزاء عدم تحرير مسودة الحكم وايداعها خلال مدة الخمسة عشر
يوما من تاريخ النطق بالحكم الا انها لم تقرر البطلان جزاء لعدم تحرير نسخة الحكم
خلال المدة المشار اليها . اما القانون المصري فان الامر يختلف عن القانون اليمني حيث قررت المادة (312؛)
اجراءات مصري بانه لا يجوز تأخير توقيع الحكم على الثمانية الايام المقررة
الا لأسباب قوية وفي كل الاحوال يبطل
الحكم اذا مضي ثلاثون يوما دون التوقيع على الحكم
ما لم يكن الحكم صادرا بالبراءة, والاعتبارات التي جعلت القانون اليمني لا
يقرر بطلان الحكم كجزاء على عدم تحرير نسخة الحكم الاصلية في الميعاد اعتبارات
كثيرة اهمها بطلان الحكم في هذه الحالة سيتحمل عاقبته واثاره الخصوم في حين ان
السبب في تأخير تحرير نسخة الحكم يرجع الى المحكمة وليس الخصوم اضافة الى ان هناك
اسباب وظروف معقولة ومقبولة قد تحول دون قيام المحكمة بتحرير نسخة الحكم خلال
المدة المحددة قانونا مثل المرض العارض للقاضي
والكاتب او الطباع او كثرة الاحكام التي يتم تحريرها واولوياتها علاوة على
ان تقرير بطلان الاحكام في هذه الحالة يكون عبثا اجرائيا يتعارض مع مبدأ عدم الهدر
الاجرائي,فالحكم قد وجد صحيحا مكتمل الاركان والشروط عند النطق به وايداع المسودة
المتضمنة اسباب الحكم ومنطوقه وقد تم ذلك بعد وقت وجهد ومصاريف وتكاليف دفعتها
الدولة والخصوم فلا يعقل ان يتم اهدار ذلك
بسبب عدم تحرير الحكم خلال تلك المدة وانما ينبغي البحث عن وسائل اخرى لمعالجة هذا
الامر غير بطلان الحكم.
الوجه الرابع : اسباب عدم تحرير الاحكام في المدة المحددة :
هناك اسباب عادية
وهناك اسباب قوية لعدم تحرير الاحكام في المدة المحددة لذلك مثل المرض العارض
للقاضي او المختصين او سفره العارض او حدوث اضراب عن العمل ....الخ وهي الاسباب
القوية التي اشار اليها نص المادة (312) مصري, ومن وجهة نظرنا فان هذه الاسباب
نادرة الوقوع كونها اصلا عارضة وتبعا لذلك فليست سببا في وجود ظاهرة دائمة مستمرة
في كل الظروف والاحوال وهي ظاهرة عدم تحرير الاحكام في المدة المحددة, ولذلك لابد
من البحث عن الاسباب العادية الموجودة في المحاكم باستمرار والتي تحول دون تحرير
كثير من الاحكام في الاوقات المحددة لها ؛ ويمكن تلخيص هذه الاسباب على النحو
الاتي :
1-
قلة الكتبة
والطباعين : فقد اخبرني اكثر من خمسة عشر قاضيا من الثقات بانهم قد نطقوا بأحكام
تتراوح ما بين 5 و 40 حكما منذ مدة ولا زالت في طور التحرير بسبب قلة الكتبة
والطباعين . وهذا هو السبب الرئيس لعدم تحرير الاحكام في المدة المحددة لها ؛
ولذلك ينبغي على الجهات المختصة معالجة هذا السبب.
2-
عدم استعمال
الحاسوب في توثيق اجراءات المحاكمة لان الجزء الغالب من الحكم يكون من نصيب (محصل
الشجار او الخلاف او محصل اجراءات المحاكمة) فعدم توثيق اجراءات المحاكمة في
الحاسوب اولا بأول تجعل عملية تحرير الحكم طويلة جدا لان الجهد الغالب في التحرير
يكون من نصيب تحصيل اجراءات المحاكمة ففي حالة عدم التوثيق عن طريق الحاسوب يقوم
الكاتب او القاضي بالنقل اليدوي لكافة اجراءات المحاكمة او التقاضي الى نسخة الحكم
بعد النطق بالحكم وهذا عمل شاق ومرهق وطويل لاسيما اذا تمت عملية التحرير يدويا
وليس عن طريق الطباعة اضافة الى ان الكاتب او القاضي قد يضطر الى تجاهل بعض
اجراءات المحاكمة لعدم اهميتها من وجهة
نظره وهذا امر معيب ولكنه يريد انجاز
تحرير الحكم ؛ فلو كانت اجراءات المحاكمة موثقة طباعة عن طريق الحاسوب وقام القاضي
بنفسة بكتابة المسودة (طباعة) عن طريق الحاسوب الشخصي لاستطاع القاضي ان يسلم نسخة
الحكم الاصلية مع المسودة في وقت واحد مثلما يحصل من قضاة قلائل نعتز بهم ويفخر
بهم القضاء اليمني .
3-
كتابة مسودة الحكم
بخط القاضي وعدم طباعتها لان مسودة الحكم المتضمنة اسباب الحكم ومنطوقه هي الجزء
الاخير من الحكم التي تشكل مع محصل الشجار الصيغة النهائية او النسخة النهائية
للحكم , فلو كان محصل الشجار مطبوعا قبل النطق بالحكم ولو كانت مسودة الحكم مطبوعة
قبل النطق بالحكم لقام القاضي بتسليم نسخة الحكم عند النطق به, علما بان طباعة
مسودة الحكم عن طريق القاضي نفسه وبجهاز
الحاسوب الخاص به فان ذلك لا يخالف
قاعدة(كتابة المسودة بخط القاضي )لان الطباعة في الجهاز الشخصي بمثابة الكتابة
اليدوية لان القاضي يستعمل الحروف المثبتة في جهاز الحاسوب بدلا عن القلم حسب ما
قضت محكمة النقض الفرنسية ومحكمة النقض المصرية ومحكمة التعقيب التونسية وغيرها؛
وانا اشكر القضاة الرواد في اليمن في هذا المجال (بدر ,زيد, سوسن
,رضوان...الخ)والرحمة والمغفرة للقاضي الشهيد عبدالجليل نعمان الذي كان يطبع
مسودات أحكامه؛ وقد سبق لنا التعليق على حكم ذكرنا فيه ضوابط واحكام طباعة مسودة
الحكم .
الوجه الخامس :الشهادة السلبية بعدم تحرير الحكم والتوقيع عليه في الميعاد المحدد :
ذكرنا فيا سبق ان القانون قد حدد مدة لتحرير الحكم الا انه لم يقرر البطلان على عدم تحريرها في ذلك الميعاد وذكرنا ايضا ان هناك مدة محددة امام الخصوم للطعن في الاحكام في حين ان هذه الاحكام قد لا تصدر الابعد مضي المدة المحددة للطعن ,ولذلك قرر القانون وسيلتين لمعالجة هذه المسألة الوسيلة الاولى : مذكرة التقرير بالطعن المتضمنة قرار الخصم الطعن بالحكم الذي يفصح فيه الخصم بعدم قبوله بالحكم الصادر وانه يطعن فيه وانه سوف يقدم مذكرة تتضمن اسباب الطعن في الحكم لأنه لم يستلم نسخة الحكم بعد ؛ والوسيلة الثانية هي الشهادة السلبية بعدم تحرير الحكم والتوقيع عليه في الميعاد المحدد حيث نصت المادة (375)على انه (وعلى دائرة الكتاب ان تعطي صاحب الشأن بناء على طلبه شهادة بعدم توقيع الحكم في الميعاد المذكور )ولا تعطى هذه الشهادة الا اذا طلبها الخصم لأنه صاحب الشأن في القرار في الطعن وغيره ؛ فالخصم الطاعن يستدل بهذه الشهادة السلبية لقبول عذره في تأخره في ايداع المذكرة المتضمنة اسباب الطعن بالحكم ,وقد قضت محكمة النقض المصرية بأن (الشهادة السلبية دليل اثبات عدم تحرير الحكم وتوقيعه في الميعاد يغني عنها بقاء الحكم خاليا من التوقيع حتى نظر الطعن )وقضت ايضا بان (طلب الطاعن امتداد ميعاد الطعن غير مقبول مادام لم يقدم شهادة سلبية دالة على عدم وجود الحكم بقلم الكتاب موقعا عليه في الميعاد القانوني وقت صدورها) وقضت بان (الشهادة ينبغي ان تكون سلبية فالشهادة التي تتضمن انه تم ايداع الحكم في وقت معين لا تكون شهادة سلبية) وقضت بأن (الشهادة السلبية لا تعدو ان تكون دليل اثبات يغني عنه ما ورد بكتاب نيابة النقض من ان اسباب الحكم لم يتم تحريرها الا بعد الميعاد القانوني) وقضت بان (الشهادة السلبية التي يعتد بها هي التي تصدر بعد انقضاء ثلاثين يوما من اليوم التالي المحدد لتاريخ صدور الحكم) والله اعلم.