حجية صور المحررات وتطوير قانون الاثبات

 

حجية صور المحررات وتطوير قانون الاثبات

أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين

الاستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء 

من الاشكاليات السائدة كثرة استعمال الاشخاص لصور المحررات في اثبات الحقوق والاشياء واضطرارهم الى ذلك في احيان كثيرة, وزاد من حدة هذه الاشكاليات اهدار قانون الاثبات  حجية صورالمحررات, وتتعاظم هذه الاشكاليات حينما يكون قانون الاثبات راكدا ينظر الى المحررات النظرة ذاتها التي كانت سائدة في الفترة السابقة لعام 1976م تاريخ صدور اول قانون اثبات اضافة الى قانون الاثبات لم ينظم وسائل الاثبات للمحررات الكترونية مثل الرسائل النصية والواتس والايميل والتيليغرام والتصوير الفيلمي والمكالمات الهاتفية؛  وحجية صور المحررات والمحررات والتسجيلات الكترونية ليست اشكالية تهم القضاء وحده وانما تتعلق باثبات حقوق ومصالح الشعب اليمني كافة سواء اكانت حقوقه وامواله ومصالحه منظورة امام القضاء او في جهة اخرى, ومن المعلوم ان لكل محرر في الغالب اصل واحد فقط ولذلك ينبغي تطوير قانون الاثبات حتى يتعامل مع المحررات وينظر اليها نظرة عصرية تراعي تطورات العصر ومقتضياته بما في ذلك النقل والتداول الالكتروني للمحررات وكيفية التعامل معه بمنطق اصول وصور المحررات, ومن هذا المنطلق فقد جاءت فكرة التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 25/12/2010م في الطعن المدني رقم (41539) لسنة 1431هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان نزاعا حدث بين شخصين على ارض حيث ادعى المدعي امام محكمة اول درجة ان الارض محل النزاع ملك له وانه حائز وثابت عليها وابرز صورة (البصيرة ) وثيقة ملكيته لتلك    الارض حيث قامت محكمة الموضوع بمعاينة الارض ومساحتها في ضوء صورة وثيقة الملكية التي  كان يتمسك بها المدعى عليه  الحائز للارض محل النزاع في حين كان المدعي  يدفع بعدم حجية صورة البصيرة  لأنها صورة وليست اصل فلا حجية لها وفقا لقانون الاثبات ومع ذلك فقد حكمت محكمتا الموضوع لصالح المدعى عليه الحائز للأرض محل النزاع المتمسك بصورة البصيرة ؛ فقام المدعي بالطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي امام المحكمة العليا وذكر في عريضة طعنه ان مساحة الارض محل النزاع والمعاينة وتطبيق حدودها قد تم بموجب صورة بصيرة ابرزها المطعون ضده وان ذلك مخالف لقانون الاثبات الذي قرر ان الحجية تكون لأصول المحررات وليس لصورها فالاحتجاج  يكون بأصل البصيرة  فلا حجية لصورة البصيرة الا بوجود اصلها ومطابقتها على الاصل فكان ينبغي  على قاضي الموضوع الزام المدعى عليه بإبراز اصل البصيرة, الا ان الدائرة المدنية رفضت الطعن بالنقض واقرت الحكم الاستئنافي المطعون فيه ؛ وقد جاء في اسباب حكم المحكمة العليا (انه بالرجوع الى الحكم المطعون فيه واسبابه والحكم الابتدائي السابق له فقد وجدت الدائرة ان المحكمة الابتدائية قد سببت لحكمها المؤيد بالحكم الاستئنافي المطعون فيه فالمحكمة المذكورة اجرت معاينة للأرض محل النزاع وقامت بمساحة الارض بواسطة عدل وناقشت وردت على حجج المدعي الطاعن      بالنقض وناقشت حجج طرفي النزاع ومنها اختلاف شهادات شهود المدعي, وعليه فان ما ذهبت اليه الشعبة الاستئنافية من تأييد الحكم الابتدائي كان في محله) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب ما هو مبين في الاوجه الاتية :

الوجه الاول : حجية صور المحررات في قانون الاثبات اليمني :

من خلال مطالعة نصوص قانون الاثبات وتحديدا المواد التي نظمت المحررات كوسيلة من وسائل الاثبات وهي المواد من (97) الى (128) نلاحظ الاتي :

اولا : حجية صور المحررات الرسمية:اشارت تلك النصوص  الى حجية صور المحررات الرسمية: وجعلت حجيتها متفاوتة كما يأتي :

أ‌-     اذا كان اصل المحرر موجودا فتكون له الحجية الكاملة طالما انه مطابق للأصل حيث نصت المادة (101) على انه (اذا كان اصل المحرر الرسمي موجودا فان صورته الرسمية خطية كانت او فوتوغرافية تكون حجة بالقدر الذي تكون فيه مطابقة للأصل وتعتبر الصورة مطابقة للأصل مالم ينازع في ذلك احد الطرفين وفي هذه الحالة تراجع الصور على الاصل ولكي تكون الصورة رسمية يجب ان يوقع عليها الموظف المختص بالمراجعة وان تختم  بالختم الرسمي للجهة التي اصدرتها وان يبين فيها انها مطابقة للأصل) ومن خلال مطالعة هذا النص نجد ان حجية الصورة مرهونة بالمصادقة عليها وختمها بما يفيد انها صورة طبق الاصل.

1-  حجية صورة المحرر الرسمي طبق الاصل اذا كان اصله موجودا : حددت ذلك المادة (102) اثبات التي نصت على ان (تكون للصورة الاصلية المعمدة المنقولة من الاصل مباشرة والمقابلة عليه تنفيذية كانت او غير تنفيذية حكم اصلها متى ما كان مظهرها الخارجي لا يسمح بالشك في مطابقتها للأصل) وهذا النص لا فائدة منه ولا جدوى فيه لأنه قد اشترط وجود الاصل مع الصورة فعند وجود الاصل لايحتاج الشخص للاحتجاج بالصورة طالما والاصل موجود.

2-  حجية صورة المحرر الرسمي وحدها بدون وجود الاصل معها : وقد بينت ذلك الفقرة (ب) من المادة (102) اثبات التي نصت على ان (يكون للصورة الرسمية المعتمدة طبق الاصل المنقولة من الصورة الاصلية الحجية ذاتها ولكن يجوز في هذه الحالة لكل من الطرفين ان يطلب مراجعتها على الصورة الاصلية التي اخذت منها) ومن خلال هذا النص نجد ان القانون قد جعل  حجية صورة المحرر مرهونة بقبول طرفي العلاقة التي يثبتها المحرر, وهذا يعني انه عند النزاع او الخلاف وهو وقت الاحتجاج بها فانه لا حجية لها لان احد الاطراف سيطلب الاصل حتما.

3-  صورة المحرر الرسمي العادية غير المعمدةالتي لاتتضمن عبارة (صورة طبق الاصل) : فهذه الصورة لا يحتج بها  الا لمجرد الاستئناس !!! حسبما ورد في الفقرة (ج) في المادة (102) التي نصت على ان (ما يؤخذ من صور رسمية للصورة المأخوذة من الصور الاصلية فلا يعتد به الا لمجرد الاستئناس تبعا للظروف) ومن خلال مطالعة هذا النص نجد انه قد اهدر حجية صورة المحرر بصفة نهائية, في حين ان صورة المحرر الرسمي في قوانين الاثبات في الدول العربية تزول عنه فقط الحجية الرسمية وتبقى له حجيته كمحرر عرفي وهو ما استقر عليه قضاء محكمة النقض المصرية كما سنرى .

ثانيا : حجية صورة المحرر العرفي في قانون الاثبات اليمني : نظم قانون الاثبات احكام المحررات العرفية في المواد من (103) الى المادة (121) ولم يتعرض القانون فيها لحجية صورة المحرر العرفي,, ولذلك فان هناك اتجاه قوي في القضاء اليمني يتعامل مع صورة المحرر العرفي كقرينة تتساند مع غيرها من الادلة في اثبات الحقوق التي عصمها الله تعالى ثم القانون فهذا الاتجاه لا يهدر صور المحررات العرفية ؛ فالقاضي بما له من خبرة ومهارة ودراية وبحسب احاطته بظروف ووقائع القضية والقرائن المحيطة بها يستطيع الوقوف على حقيقة صورة المحرر العرفي ومدى سلامتها, وهذا الاتجاه يظهر في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا حبنما تأكد للقاضي  صحة صورة البصيرة وهي محرر عرفي من خلال القرائن المحيطة بالقضية مثل الحيازة والثبوت لمدة طويلة جدا وشهادات الشهود الذين اكدوا ذلك, وهناك اتجاه اخر في القضاء يتشدد في هذه المسألة التي فيها متسع .

الوجه الثاني : حجية صور المحررات في الشريعة الاسلامية :

منهج الشريعة الاسلامية في هذه المسألة سهل وواضح, حيث تشددت الشريعة الاسلامية في وسائل وشروط الاثبات في قضايا الحدود والقصاص لعظم هذه الجرائم وجسامة عقوباتها ولذلك ضيقت الشريعة من نطاق الاثبات في هذا المجال من حيث وسائل الاثبات ذاتها ومن حيث الشروط الواجب توفرها في هذه الوسائل, وبناء على ذلك فلا مجال للأثبات في قضايا  الحدود والقصاص بصور المحررات لان الشبهات تعتريها ؛ والحدود والقصاص تدرأ بالشبهات ولا تثبت بها, اما في مسائل الاموال فان الشريعة الاسلامية قد اخذت بمبدأ حرية الاثبات وشجعت عليه لإحقاق الحقوق وابطال الباطل فحرية الاثبات  بالنسبة للأموال مبدأ اصيل في الشريعة الاسلامية حتى تكفل الشريعة الاسلامية وتحمي الاموال التي نهى الله تبارك وتعالى عن اكلها بالباطل وذلك في اكثر من ست آيات في القران الكريم اكد فيها الله تبارك وتعالى هذا التحريم حيث قال تعالى (ولا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل) ولا شك ان العزوف والاعراض عن صور المحررات المثبتة للحقوق  مع وجود قرائن على سلامتها تمكين للظلمة والمفسدين في الارض من اكل اموال  الناس بالباطل.

الوجه الثالث : حجية صور المحررات في قوانين الاثبات العربية :

صور المحررات الرسمية لها حجيتها في قوانين الاثبات العربية, فلانها صور وليست اصول فأنها تسقط عنها فقط الصفة الرسمية فلا تكون محررات رسمية حيث تكون لهذه الصور الحجية ذاتها المقررة للمحررات العرفية ؛ وقد استقر قضاء محاكم النقض والتعقيب والتمييز العربية على اعتبار صور المحررات الرسمية بمثابة محررات عرفية من حيث حجيتها .

الوجه الرابع : اهمية الاثبات بصور المحررات :

تصدى الفقه العربي لا سيما في مصر والجزائر لبيان ضرورة واهمية الاثبات بصور المحررات اذا دلت قرائن الحال على صحتها ؛ لان اهدار حجيتها كلية يعني اهدار الحقوق التي تثبتها تلك الصور لذلك ينبغي النظر والتعامل معها كدليل مساند للأدلة والقرائن الاخرى ؛ فلا يكون صور المحررات دليلا واحدا مثبتا للحق, وهذا هو الفرق بين حجية اصل المحرر الذي تكون حجيته واحدة كافة لثبوت الحق اما صورته فلا تكون لها وحدها الحجية الكاملة وانما ينبغي ان تساندها ادلة اخرى على النحو الوارد في الحكم محل تعليقنا؛ كما ينبغي الاستفادة من اعمال الخبرة التقنية العصربة المتقدمة في معرفة صحة صورة المحرر لان هناك خبرة وخبراء في مجال تصوير المستندات تستطيع بيان مااذا كانت صورة المحرر سليمة ام لا .

الوجه الخامس : توصية لتطوير قانون الاثبات اليمني :

قانون الاثبات اليمني قديم جدا اصله يرجع الى عام (1976م) بل انه عبارة عن نقول من كتب الفقه  الاسلامي, وهذه مسألة معلومة ومفهومة عند القضاة والباحثين, ولذلك نجد نظرته الشديدة المتشددة للاثبات بصور المحررات, وحتى لا تهدر الحقوق ويتجرأ الظلمة والمفسدون في الارض فيستغلون هذه الثغرة؛  فأقول براءة للذمة : اقول انه يجب على قانون الاثبات ان يتضمن وسائل الاثبات الالكترونية وان يبين حجيتها باعتباره القانون الخاص بالإثبات وليس غيره, وبالصريح يجب عدم الركون على ما ورد في قانون الدفع  الالكتروني وانا كنت واحدا ممن راجعوا مشروع ذلك القانون ؛ اقول : ان ذلك القانون له هدفه وغاياته ونطاقه فهو اصلا قانون للبنوك والمصارف والشركات والموسسات  وليس فيه الا مادة واحدة تناولت حجية المراسلات الالكترونية المتعلقة بنظم الدفع الالكتروني, اقول الكلام هذا  لانه كلما ارتفعت الاصوات منادية  بتطوير قانون الاثبات قال : المعوقون لتطوير قانون الاثبات: لقد نظم ذلك قانون الدفع الالكتروني, فقانون الاثبات يحمي اموال وحقوق اكثر من ثلاثين مليون يمني في حين ان قانون الدفع الالكتروني لا يحمي الا حقوق بضعة شركات ومؤسسات مالية عملاقة اجنبية وغير اجنبية, فلا ينبغي بعد الان ان يسكت قانون الاثبات عن حجية المكالمات الهاتفية المسجلة والرسائل النصية ورسائل الواتس والتصوير الفيلمي والفوتوغرافي واليوتيوب والتيليغرام وغيرها, فلا ينبغي ان تترك حجية هذه الوسائل الحديثة للاجتهادات الشخصية ؛ والله اعلم.