الجهة المعنية بتحديد الجنايات وأروشها

 

الجهة المعنية بتحديد الجنايات وأروشها

أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

من الإشكاليات العملية الواقعية التي يتكرر وقوعها قيام أشخاص عدة بتحديد الجنايات والأروش المترتبة على الحوادث والاعتداءات التي تحدث بين الافراد، حيث توجد اختلالات في هذا التحديد،  فيسبب ذلك إشكاليات اخرى، ولأهمية هذا الموضوع فقد اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 19/1/2013م في الطعن رقم (43930) وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان رجلين تعاركا فاصاب كل واحد منهما الاخر باصابات وجنايات، فحكمت المحكمة الابتدائية لكل واحد منهما أرش الجنايات التي لحقت به على أساس اعترافهما بالعراك وثبوت اعتدائهما على بعضهما وان القاعدة تقضي بان ما لحق بكل طرف من جنايات واصابات ماهي الا بفعل الطرف الاخر المتعارك معه، وتم تحديد الأروش بموجب التقريرين الطبيين ووثيقة تحديد الأرش الصادرة من الأمين الشرعي المختص وكانت مبالغ الارش المقدرة لاحد الطرفين أكثر من الاخر، ، وقد أيدت محكمة الاستئناف الحكم الابتدائي إلا أن الطرف الذي ارشه أقل لم يقنع بالحكم الاستئنافي فقام بالطعن فيه بالنقض ،فقبلت الدائرة الجزائية الطعن ونقضت الحكم ،وقد ورد في أسباب حكم المحكمة العليا (فان أهم مناعي الطاعن على الحكم الاستئنافي ان مزعوم الجنايات المدعى وقوعها في المطعون ضده غير صحيحة لعدم وجود تقرير طبي كما أن كاتب وثيقة الأروش التي احضرها المطعون ضده ليس له صفة وغير مخول بكتابة مثل هذا التقرير لإثبات وجود هذه الجنايات وتحديد أرشها، وحيث كان رد المطعون ضده على هذا النعي: بان كاتب وثيقة الجنايات وارشها هو الأمين الشرعي إلا ان المطعون ضده لم يقدم أمام المحكمة ما يؤكد ذلك، ولما كان ما اثاره الطاعن حالياً قد سبق له ان ذكره امام محكمة الاستئناف إلا أن الشعبة حسبما ورد في أسباب حكمها قد اعتبرت المحرر المقدم من المطعون ضده تقرير خبير دون بحث أو تحقيق للتاكد من صفة كاتب ذلك المحرر وما اذا كان مختصا بإصدار تقرير يثبت وجود الجنايات أو الاصابات بأي شخص بل أن المحكمة  لم تتاكد من الشهود المذكورين في ذلك المحرر  لإثبات وجود تلك الجنايات بالمطعون ضده، لذلك فان ما توصلت الشعبة اليه بإثبات الجنايات في المطعون ضده استناداً إلى محرر الأرش من غير بحث ومناقشة يكون قصورا في التسبيب مما يجعل الحكم الاستئنافي معيباً بالقصور في التسبيب) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الاتية :

الوجه الأول : الخبرة الطبية في تحديد الجنايات وإشكالاته :

عملية تقدير الأروش تحتاج إلى خبرة طبية ، لان الجراحات والجنايات المختلفة تحتاج إلى خبرة طبية تبين المعلومات الطبية مثل مقاسات الجرح كطول الجرح وعرضه وعمقه وتأثيره وسبب حصوله والاداة المستعملة في احداثه، وللخبرة الطبية أهمية بالغة لا سيما في الوقت الراهن الذي توفرت فيه التقنية الطبية الحديثة واجهزة الكشف والقياس، فاللخبرة الطبية اهميتها في ضبط الجراحات والجنايات وتقديم العون الفني الطبي  عند تقدير أروش الجراحات والجنايات،وفي الوقت ذاته فان المعلومات والبيانات الطبية التي يتضمنها التقرير الطبي عن الجراحات والجنايات والاصابات تعد وسيلة من وسائل إثبات نسبة الجنايات والجراحات إلى الجاني، ويتولى اعداد التقارير الطبية المشار إليها اطباء مختصون يقدمون نتائج خبرتهم الطبية في تقارير طبية، وتبرز بشان الخبرة الطبية لتحديد الجنايات إشكالات كثيرة ومختلفة، من اهمها :

1-     يطلق الاطباء في تقاريرهم الطبية مصطلحات طبية بحتة على الجراحات والاصابات مثل (سحجات، الجراح القطعي، الجروح الرضية، الحروق السلقية ..الخ) وهذه المصطلحات الطبية تحتاج إلى موائمة  للمصطلحات الشرعية التي تطلق على الجروح والاصابات مثل مصطلح ( القارشة والخارصة والباضعة والهاشمة ...الخ) ولذلك نوصي بان يتضمن التقرير الطبي المصطلح الشرعي والمصطلح الطبي المقابل له.

2-     إثبات تقدير الجنايات والاصابات يحتاج إلى سرعة فائقة لتحديدها وإثبات حالتها فور وقوعها أي عند اسعاف المصاب، في حين يتم تحديد أروش هذه الأصابات في أوقات لاحقة بعد أن تتغير هذه الجراحات بل في بعض الأحيان بعد أن يشفى المصاب من الاصابات المطلوب تحديد أرشها، وفي الوقت ذاته فان بعض الجراحات والاصابات تكون قد تفاقمت، وفي حالات أخرى خاصة في الاصابات والجروح الطفيفة لايلجاء المصاب إلى المستشفى ، وفي هذا الشأن فاننا نوصي باعتماد الاصابات التي يتم إثباتها في التقرير الطبي حين إسعاف المصاب اما اذا تفاقمت الاصابات بعد وقت الاسعاف فنوصي باعتماد نتائج المقارنة بين التقرير الطبي عند اسعاف المصاب والتقرير الطبي عن حالة المصاب عند المحاكمة.

3-     امتناع او عدم قدرة بعض المصابين على الذهاب إلى المستشفى لتحديد الاصابات التي لحقت بهم ،وبدلاً من ذلك يذهب هؤلاء إلى الأمين الشرعي أو الشخص الذي يتولى ابرام العقود والتصرفات ويطلب منه تحديد الأروش فيقوم بتحديدها من غير أن يسبق ذلك تقرير طبي، فيقوم الكاتب بتقدير الأروش بحسب الاصابات الظاهرة دون تحديد لمقاساتها وعمقها ...الخ.

4-     غالبية التقارير الطبية تصدر من مستشفيات ومستوصفات ومراكز وعيادات مجارحة خاصة، والتقارير الطبية الصادرة عن هذه الجهات لا تكون تقارير رسمية، كما ان الشكوك تحيط ببعضها.

5-     غالبية التقارير الطبية الخاصة بالجنايات لا تصدر من لجنة طبية تتولى مراجعة مضمون التقرير وانما من الطبيب المعالج وادارة المستشفى فقط.

6-     كل التقارير الطبية صادرة بناءً على طلب المصاب أو المسعفين له أو اقاربه، وليس بموجب تكليف من القضاء، لان دور القضاء يأتي لاحقاً للحادث الذي تسبب في الاصابات.

7-     ليس هناك في اليمن هيئة للطب العدلي تهتم وتشرف على المستشفيات التي تعد تقارير إثبات الجنايات والاصابات أو تعتمد ما ورد في تلك التقارير، كما لا يوجد في اليمن قانون للطب العدلي  ينظم التقارير الطبية المتضمنة الاصابات والجنايات ويبين كيفية اعدادها ومكوناتها وحجيتها، ولذلك  فاننا  نوصي بانشاء هيئة للطب العدلي وكذا اصدار قانون للطب العدلي.

الوجه الثاني : إشكاليات قيام الامناء الشرعيين بإثبات الاصابات والجنايات وتحديد الأروش :

تظهر هذه الإشكاليات بمظاهر مختلفة يمكن تلخيص اهمها على النحو الاتي :

1-     اصدرت وزارة العدل تعميماً بمنع الامناء الشرعيين من تحرير الوثائق المتضمنة تحديد الاصابات وتقدير أروشها، لان ذلك من مسائل الخبرة الطبية التي لا يختص بها الامناء.

2-               عدم وجود تكليف من النيابة أو المحكمة المختصة للأمين بإعداد وثيقة تحديد وتقدير الأروش.

3-     ان الأرش وفقاً لقانون الجرائم والعقوبات عقوبة تحكم بها المحكمة وفقاً لأحكام الشرع والقانون، فالمحكمة هي المختصة بتقدير الأرش والقضاء به في حكمها، غير انها تسترشد في ذلك وتستأنس بالتقرير الطبي الذي يتضمن المعلومات اللازمة عن الاصابات والجنايات.

4-     قانون التوثيق لا يجيز للأمناء الشرعيين تحرير وثائق إثبات وتقدير الأروش، وبناءً على ذلك فان تلك الوثائق تكون صادرة من غير مختص.

الوجه الثالث : وجوب تنظيم طريقة وكيفية اعداد تقرير إثبات الاصابات وتحديد الأرش :

من خلال ما تقدم ظهرت لنا الإشكاليات المختلفة بشأن هذا الموضوع، ولذلك ينبغي ان تقوم وزارة العدل ووزارة الصحة بتحرير تعميم مشترك إلى كافة المستشفيات والمراكز والمستوصفات والعيادات الجراحية، على ان يتضمن هذا التعميم كيفية اعداد تقارير إثبات وتحديد الاصابات والجروح وتحديد نوعها الشرعي ولا يتم تقدير الأرش في هذه التقارير وان يترك ذلك للمحكمة، ونقترح أيضاً ان ترفق بالتعميم المشار اليه نماذج للتقارير الطبية المتضمنة تحديد الاصابات والجروح، ويتم العمل بهذا  التعميم حتى يتم صدور قانون للطب العدلي.

كما أننا نوصي بتعديل جدول الاروش والنص الخاص بالاروش في قانون العقوبات حتي يكون موافقا لاحكام الشريعة، لأن الارش عقوبة ينبغي ان تحقق وظيفتها في الزجر والردع ، فالأمانة العلمية تستوجب القول : أن تقدير الدية والارش بالريال اليمني تقدير غير موفق يخالف الشريعة والواقع ،فمن غير المقبول أن تكون قيمة دية الانسان الذي كرمه الله أحسن تكريم كقيمة جمل في حين أن الشافعية يقدرونها بقيمة مائة جمل ويقدرها الزيدية بالف مثقال ذهب، فمن اين جاء القانون اليمني بهذا النص المخالف الذي لم يقل به أحد من فقهاء الامة،فلاريب أن الموقف السلبي للقانون في هذه المسالة قد شجع المجرمين وارباب الشر والفسوق على ارتكاب جرائم القتل والاعتداء على الاخرين، والله أعلم.