مفهوم جريمة البلاغ الكاذب
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
لا يمكن للدولة أو للإفراد الاعتماد والاستناد على البيانات والمعلومات والشكاوي والبلاغات والاقتراحات طالما والكذب والكيد والاتهامات الكاذبة لاعقوبة عليها الا إذا كان ذلك بسوء نية كما نص قانون الجرائم والعقوبات !!! ولايعاقب على تلك البلاغات الا إذا تم توجيهها إلى السلطات العامة !!!! أما اذا كانت الاتهامات والبلاغات الكاذبة منشورة في وسائل التواصل الاجتماعي فلا تكون من قبيل جريمة البلاغ الكاذب،لان الفعل في هذه الحالة يعد من مظاهر حرية الراي أو يكون جريمة سب حسبما نص قانون الجرائم والعقوبات،ولذلك فأنه يجب على الجهات المختصة معالجة هذه المسالة حتى تستطيع الدولة والمواطنين الثقة والاطمئنان إلى صحة البلاغات والشكاوي والمعلومات التي تنشر في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، فمعالجة مفهوم جريمة البلاغ الكاذب أصبحت ملحة في ضوء المعطيات والمتغيرات العصرية، لان الكذب صار ثقافة شائعة مزدهرة لاينكرها منكر وان انكرها يتم اتهامه بالرجعية وعدم تفهمه لحرية الراي والفكر، في الحقيقة نحن بحاجة ماسة إلى حماية قانونية لاعراض الناس وسمعتهم من السنة السفهاء والجهلاء والمتهورين،فالكذب ضارب اطنابه في وسائل التواصل والنشر كذب في الاخبار كذب في المعلومات كذب في النكت كذب في البلاغات عن الأشخاص، مع ان لائحة قانون مكافحة الفساد تنص في المادة(15) على ان ما ينشر في وسائل النشر يعد من قبيل البلاغات التي تتولى هيئة مكافحة الفساد دراستها والتاكد من صحتها، لذلك يجب ان تتجه القوانين والسياسة العقابية إلى مواجهة الظواهر السلبية وفي مقدمتها ظاهرة الكذب والبلاغات الكاذبة والاتهامات الباطلة التي تزخر بها وسائل النشر والتواصل الاجتماعي وغيرها، ويكشف الحكم محل تعليقنا عن مفهوم جريمة البلاغ الكاذب، فالحكم محل تعليقنا هو الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 22/1/2013م في الطعن رقم (44110) وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان شخصين قاما بكتابة رسالة موجهة إلى محافظ المحافظة ومدير فرع الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة عن طريق الفاكس تضمنت الشكوى بمدير فرع ... بانه يقوم بجباية الاموال من التجار بصورة غير قانونية وجاء في نهاية الشكوى (تجار مدينة ...عنهم فلان وفلان) وعندما شرعت الجهات المعنية باستدعاء المشكو به انكر قيامه بالفعل المنسوب له في الشكوى وعند الرجوع إلى تجار ... افادوا بأنهم لم يقدموا أي شكوى بالمذكور، فتمسك المشكو به بحقه حيث تقدم إلى النيابة بشكوى مفادها ان الشخصين اللذين قاما بالإبلاغ عنه كاذبان، وقد توصلت المحكمة الابتدائية إلى الحكم بإدانة الشخصين المشار اليهما بتهمة البلاغ الكاذب وحبس المتهمين أربعة أشهر مع النفاذ لثبوت التهمة المنسوبة لهما، فقام المتهمان باستئناف الحكم حيث قضى الحكم الاستئنافي بتعديل الحكم الابتدائي ببراءة المتهم الأول فقامت النيابة العامة والمجني عليه بالطعن بالنقض في الحكم، غير ان الدائرة الجزائية رفضت الطعن وأقرت الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن اسباب حكم المحكمة العليا (اما من حيث الموضوع فقد تضمنت عريضة الطعن النعى على الحكم المطعون فيه مخالفته القانون، لان جريمة البلاغ الكاذب على المتهمين الأثنين ثابتة بالأدلة والوقائع وتحققت اركانها وعناصرها وفقاً لما هو منصوص عليه في المادة (178) عقوبات، والدائرة تجد ان هذا النعي غير سديد، لانه من الثابت في الحكم المطعون فيه ان الحكم قد اقام قضاءه على اساس قانوني صحيح حيث ذكر الحكم في اسبابه : ان الحكم الابتدائي قضى بادانة المتهمين رغم انتفاء الركنين المادي والمعنوي في حق المتهم الاول، فالشكوى مرفوعة باسم تجار ... والمذكور ليس تاجراً) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :
الوجه الأول : التجريم والعقاب للبلاغ الكاذب :
تبين المادة (178) عقوبات الجريمة والعقوبة بالنسبة للبلاغ الكاذب حيث نصت هذه المادة على انه (يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن ثلاث سنوات او بالغرامة من ابلغ كذباً بنية الاساءة النيابة العامة أو إحدى المحاكم القضائية أو اية جهة ادارية ضد شخص بأمر يعد جريمة ولو لم يترتب على ذلك إقامة الدعوى الجزائية) ومن خلال مطالعة هذا النص يظهر ان جريمة البلاغ الكاذب لا تقع إلا اذا كان الجاني يقصد الاساءة اما اذا لم يكن كذلك فلا تقع هذه الجريمة!!! ولذلك فان اغلب من يوجه البلاغات والاتهامات الكاذبة إلى يحفظ هذا النص عن ظهر قلب حيث يذكر ان قصده من توجيه البلاغات والاتهامات الكاذبة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإصلاح الاوضاع وردع وفضح الجناة والسرق ...الخ، كما يلاحظ على هذا النص ايضاً انه لا يجرم الا البلاغات والاتهامات الكاذبة الموجهة إلى النيابة العامة والمحاكم والجهات الادارية اما توجيه الاتهامات والاخبار والبلاغات الكاذبة إلى الجمهور عن طريق النشر ووسائل التواصل الاجتماعي فلا تتحقق بفعلها جريمة البلاغ الكاذب!!! مع ان توجيه البلاغات إلى الجمهور أكثر خطراً وتأثيراً من توجيهها إلى الجهات العامة، والظاهر ان قصد القانون من ذلك ان البلاغات الكاذبة الموجهة إلى الجمهور تنطبق عليها جريمة السب المنصوص عليها في (291) عقوبات التي عرفت السب بانه اسناد واقعة جارحة للغير، والتي قررت المادة (293) عقوبات بان دعوى السب لا تقبل اذا كان الفاعل حسن النية!!! علماً بان الفقه الإسلامي يقرر ان الجريمة في هذه الحالة هي جريمة القذف التعزيري الذي يقع باتهام الشخص لغيره بواقعة تحتمل التصديق والتكذيب غير الزنا كأن يقول الجاني لغيره يا سارق يا فاسد يا قاتل ...الخ لان هذه وقائع تحتمل التصديق والتكذيب وتثير في المجتمع الشك والارتياب والبلبلة وتفقد المجتمع الثقة بأفراده في حين يكون القذف حدّياً اذا تضمن اتهام الشخص لغيره بالزنا او نفى نسبه، اما جريمة السب في الفقه الإسلامي فهي الكذب البين الذي لا يحتاج إلى إثبات لانه كذب ظاهر وبين كقول الشخص لغيره : يا كلب يا حيوان ...الخ فهذه الكلمات وغيرها لا تنطبق على المسبوب لأن الواقع يشهد أن هذه الكلمات كاذبة من حاجة إلى اثبات ، والسب في الفقه الإسلامي اقل خطراً من القذف التعزيري الذي يتضمن توجيه تهم أو وقائع تحتمل التصديق والتكذيب غير الزنا حيث يعاقب الساب في الشريعة الإسلامية بالحبس ثلاثة أيام اما القاذف بغير الزنا فانه يعاقب بالحبس ما بين ستة اشهر وسنة (التشريع الجنائي، أ.د.عبدالمؤمن شجاع الدين، صـ75). ولذلك فاننا نوصي بإعادة النظر في صياغة المادتين (187 و 291) عقوبات، حتى يمكن الحد من نشر الاكاذيب والاتهامات والبلاغات الكاذبة التي يتم نشرها في وسائل التواصل الاجتماعي والتي تعد اكثر خطراً وتأثيراً من توجيه البلاغات الكاذبة إلى السلطات العامة، بل ان هناك نيابات ترفض الشكاوى التي يرفعها المتضررون من نشر الاتهامات والاكاذيب في وسائل التواصل الاجتماعي فنيابة الصحافة تذكر ان هذا ليس من اختصاصها في حين ان بعض النيابات الاخرى تقول ان هذا الفعل غير مجرم أي نشر الاكاذيب والاتهامات الكاذبة الماسة بالأشخاص في وسائل التواصل الاجتماعي.
الوجه الثاني : مدى اشتراط ان يكون المبلغ تاجراً :
في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا كان الحكم الابتدائي قد ادان المتهمين معاً لانه ثبت قيام احدهما بكتابة البلاغ الكاذب ووضع اسمه واسم المتهم الثاني نيابة عن تجار مدينة ... في حين قام المتهم الثاني بارسال البلاغ الى محافظ المحافظة وفرع جهاز المحاسبة عن طريق الفاكس، لان اركان جريمة البلاغ الكاذب قد تحققت في فعلهما سواء كانا تاجرين ام لا، في حين قضى الحكم الاستئنافي ببراءة المتهم الأول لانه غير تاجر، ومن وجهة نظرنا ان الحكم الابتدائي هو الذي كان على الصواب.
الوجه الثالث : الحكمة من التجريم والعقاب في البلاغ الكاذب :
الغرض من التجريم والعقاب في هذه الحالة هو حماية سمعة الاشخاص من السنة ارباب الشر والفسوق وايضاً عدم إشغال السلطات العامة في التحري والتحقيق والادعاء والمحاكمة في اتهامات واكاذيب حيث تبذل السلطات العامة في هذا السبيل الكثير من الجهد والوقت والمال في أثناء قيامها باعمال التحري والتحقيق والادعاء والمحاكمة في تهم وبلاغات كاذبة.
الوجه الرابع : دراسة هيئة مكافحة الفساد للأخبار والمعلومات المنشورة عن جرائم الفساد :
تنص المادة (15) من لائحة قانون مكافحة الفساد على أن (تعمل هيئة مكافحة الفساد على متابعة ودراسة ما تنشر وسائل الإعلام من معلومات أو وقائع تتضمن صراحة أو ضمناً ما قد يشكل جريمة من جرائم الفساد والقيام بالتحري فيها وجمع الوثائق والحقائق بشأنها والتصرف من واقعها) وبناءً على ذلك فان هيئة مكافحة الفساد تتحرى وتتصرف بشان الاخبار والاتهامات المنشورة في وسائل التواصل الاجتماعي ولو لم تكن موجهة إلى أي من الجهات العامة، أي ان مفهوم البلاغ لدى هيئة مكافحة الفساد اوسع نطاقاً من مفهومه في المادة (187) عقوبات التي قصرت البلاغ الكاذب على البلاغ الموجه إلى السلطات العامة، والله اعلم.