التحكيم في المال العام

 

التحكيم في المال العام

أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

من المعلوم ان التحكيم لا يجوز فيما لا يجوز التصالح فيه، ومن المؤكد عدم جواز التصالح في مال الوقف أو المال العام أو أموال القاصرين لما ينطوي عليه الصلح من اسقاط أو تنازل، إلا أن المؤسسة العامة او الجهة العامة التي تدير المال ضمن اغراض انشائها قد تباشر نشاطاً تجارياً مثلها في ذلك مثل الشركات أو المؤسسات التجارية الخاصة ففي هذه الحالة قضى بجواز التحكيم  الحكم الصادر عن الدائرة التجارية في جلستها المنعقدة بتاريخ 17/10/2018م في الطعن رقم (60154) ، وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان بنكاً حكومياً قام بتحكيم محكمين من مركز تحكيم خاص وذلك للفصل في النزاع الذي حدث فيما بينه وبين مؤسسة تجارية خاصة وكانت قيمة القضية كبيرة، حيث توصلت هيئة التحكيم إلى الحكم بإلزام البنك بدفع مبالغ كبيرة المؤسسة التجارية  الخاصة ،فقام  البنك بتقديم دعوى بطلان حكم التحكيم مدعيا عدم جواز التحكيم في المال العام، لان البنك تملكه الدولة كاملاً ،وقد قبلت الشعبة التجارية الدعوى وابطلت حكم التحكيم ،وسببت حكمها بأن هيئة التحكيم قد تلاعبت حينما اعتمدت على تقرير المحاسب المخالف للنتائج التي توصل إليها تقرير جهاز الرقابة والمحاسبة الذي  اثبت وجود تلاعب من قبل المؤسسة التجارية بأموال البنك وان هذه القضية الجنائية منظورة أمام نيابة الأموال العامة، فلم تقبل المؤسسة التجارية بالحكم الاستئنافي فقامت بالطعن بالنقض في الحكم وذكرت في طعنها ان الدفع المقدم من البنك بعدم جواز التحكيم في المال العام  فصلت فيه هيئة التحكيم وناقشته في حيثيات حكمها كما ذكرت المؤسسة في طعنها بانه لا يجوز للشعبة الخوض في مسألة تقدير الأدلة مثل قولها بان تقرير المحاسب القانوني مخالف لتقرير جهاز الرقابة والمحاسبة الذي اثبت تلاعب المؤسسة الخاصة بأموال البنك ،وقد قبلت الدائرة الطعن ونقضت الحكم المطعون فيه، وقد جاء في حكم المحكمة العليا (إذ أن الشعبة في أسباب حكمها قد اعتبرت ان الدفع المقدم من المطعون ضده بعدم جواز التحكيم في المال العام بإعتباره متعلقاً بالنظام العام، فالدائرة تجد ان العلاقة فيما بين البنك والطاعنة هي علاقة عقدية قائمة على أساس عمل تجاري وفقاً لنص المادة (10) تجاري التي نصت على انه تعد اعمالاً تجارية الأعمال المتعلقة بالأمور الاتية بصرف  النظر عن صفة القائم بها أو نيته ومنها معاملات البنوك، ومن هنا يتبين ان العلاقة بين البنوك وعملائها علاقة تجارية بحتة  حيث يخضع ذلك العقد لمبدأ سلطان الادارة إذ تم تحديد حقوق طرفيه بالشروط الواردة بالعقد ،وان ذلك الدفع ليس له علاقة لا بالنظام العام ولا بالمال العام كما جاء في الحكم المطعون فيه) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :

الوجه الأول : التحكيم في المال العام في الفقه الإسلامي :

يتفق الفقه الإسلامي على منع التحكيم والصلح في المال العام إلا اذا لم يكن مع الدولة دليل يثبت صحة دعواها اذا كانت هي المدعية أو كان هناك دليل قاطع ضد الدولة اذا كان  الخصم هو المدعي على الدولة، لان الصلح والتحكيم فيهما اسقاط وتنازل عن الحق أو المال ومخاطر على حق الدولة ،فالولي على المال العام  لا يجوز له الاسقاط او التنازل عن المال العام أو الحق العام، لان ولايته قاصرة على ادارة هذا المال وليس التصرف فيه أو اسقاطه أو التنازل عن بعضه أو كله.

الوجه الثاني : موقف قانون قضايا الدولة من التحكيم في المال العام :

اجاز قانون قضايا الدولة في المادة (35) التحكيم في المنازعات التي تكون الدولة طرفاً فيها حتى لو كان الطرف الآخر غير حكومي شريطة ان يطلب هذا الطرف التحكيم الحكومي، ومع ان هذه المادة قد اجازت التحكيم في مسائل الأموال العامة، إلا أن المواد التاليةلها وكذا المواد ذات الصلة المنصوص عليها في قانون قضايا الدولة قد جعلت هذا التحكيم بنظر الدولة وتحت اشرافها (وزارة الشئون القانونية) حتى لا يتم التلاعب والاضرار بالأموال والحقوق العامة.

الوجه الثالث : مدى جواز التحكيم الخاص في الأموال العامة :

الأصل المقرر في المادة (5) تحكيم انه لا يجوز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح ومنها الأموال العامة حسبما نصت الفقرة (د) من المادة (5) تحكيم التي نصت على انه (لا يجوز التحكيم فيما يأتي : -د- سائر المسائل التي لا يجوز فيها الصلح) فهذا النص صريح في عدم جواز التحكيم في الأموال العامة إلا أن قانون قضايا الدولة قد اجاز التحكيم الحكومي في منازعات الأشخاص والجهات الخاصة مع الحكومة، وذلك بإشراف الدولة (وزارة الشئون القانونية) على النحو السابق بيانه، وعلى هذا الأساس فلا يجوز تحكيم مراكز التحكيم الخاصة أو المحكمين غير الحكوميين في الاموال والحقوق العامة، ومن وجهة نظرنا فان الحكم الاستئنافي كان أكثر موافقةً للقانون، والله اعلم.