إشكالية الحكم بالأروش وتوابعها في اليمن

 

إشكالية الحكم بالأروش وتوابعها في اليمن

أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين

الاستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء

 

من الاشكاليات العملية التي يتكرر وقوعها اشكالية الحكم بأروش الجنايات وتكاليف العلاج والتعويضات عن تلك الجنايات, وتظهر هذه الاشكاليات في مظاهر شتى متغايرة, ومن ذلك تقدير مبالغ الاروش بالريال اليمني ااذي تتدهور قيمته باستمرار وتبعا لذلك صارت مبالغ الدية الارش في الوقت الراهن لاتساوي شيئا؛ بالاضافة الى اشكالية فحص وتحديد الجنايات الموجبة للأرش والتلاعب في تحديدها وتقديرها واقتضائها؛ وكذا اشكالية تحديد وتقدير نفقات العلاج والتعويض عن الجنايات والاصابات لان الارش عقوبة وليس تعويض,كما انه من المناسب ان نذكر توصيتنا الى المشرع اايمني بتعديل النص القانوني الذي حدد الدية والارش بالريال اليمني واصدار قانون للطب العدلي وانشاء هيئة للطب العدلي  لمعالجة هذه الاشكاليات ؛ ولذلك فقد وجدنا انه من المناسب الاشارة الى هذه الاشكاليات بمناسبة التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 15/2/2011م في الطعن الجزائي رقم (40232) لسنة 1431هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها  هذا الحكم ان احد  الاشخاص كان قد شرع في قتل شخص اخر حيث قام بإطلاق النار عليه فالحق به اصابات بالغة استدعت سفره للعلاج منها خارج اليمن, وعند تقديم المتهم للمحاكمة حكمت عليه محكمة اول درجة (بالحبس لمدة سنتين من تاريخ القبض عليه استنادا الى المادة (236) عقوبات والزام المدان بدفع مليون وخمسمائة الف ريال للمجني عليه وذلك كأرش ما لحق بالمجني عليه وتكاليف علاج داخل الجمهورية وخارجها وتعويض ما فاته من كسب اثناء رقوده مريضا ومخاسير التقاضي على ان يخصم ما دفعه والد المتهم للمجني عليه وهو مبلغ مائتين وستة وسبعين الف ريال من المبلغ المحكوم به) وقد ورد ضمن اسباب الحكم         الابتدائي (حيث ان المتهم قد اقر بما نسب اليه من النيابة وهي واقعة الشروع في قتل المجني عليه فقد ناقشت المحكمة اقرار المتهم عملا بالمادة (352) اجراءات حيث اطمأنت للإقرار المدون في محضر جلسة المحاكمة وتأكد لها ثبوت التهمة قبل المتهم) فلم يقبل المجني عليه بالحكم الابتدائي فقام باستئناف الحكم امام المحكمة الاستئنافية كما ان المتهم قام باستئناف الحكم الا ان محكمة الاستئناف رفضت الاستئنافين وايدت الحكم الابتدائي, وقد ورد ضمن اسباب الحكم الاستئنافي (ان المتهم المستأنف قد نعى على الحكم الابتدائي انه اعتمد على تقرير طبي مشكوك فيه وحيث انه من البين ان الحكم الابتدائي قد اعتمد في تقدير المبالغ المحكوم بها على تقرير طبي لا يجوز الطعن فيه الا بالطرق المحددة قانونا كما ان المتهم لم يعترض على ما ورد في ذلك التقرير في مواجهته كما ان استئناف المجني عليه نعى على الحكم الابتدائي من حيث ان المبلغ المحكوم فيه لايتناسب مع الاصابات التي لحقت به ؛ والشعبة تجد ان محكمة اول درجة قد اعتمدت في تقديرها على التقرير المشار اليه ) فقام المجني عليه بالطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي وذكر في طعنه : ان محكمة اول درجة ومن بعدها محكمة الاستئناف قد تجاهلت طلباته بالتكاليف الحقيقية للعلاج و أروش الاصابات التي لحقت به بموجب التقرير الطبي والأروش التي قدرها الامين الشرعي بأكثر من ثلاثة مليون وثلاثمائة وستة وثلاثين الف ريال بخلاف تكاليف العلاج داخل اليمن وخارجها وكذا التعويضات عما لحقه من ضرر وما فاته من كسب بسبب  الاصابة, وقد قبلت المحكمة العليا الطعن   ونقضت الحكم الاستئنافي ؛ وقد ورد ضمن اسباب حكم المحكمة العليا (وفي الموضوع تجد الدائرة ان مناعي الطاعن في محلها فالثابت من الاوراق عدم قيام محكمة الموضوع بالفصل في طلبات الطاعن  حيث تجاهلت طلباته مما يوصم حكمها بالبطلان لقصوره حيث اقتصر في تسبيبه على تناول الاستئناف المقدم من المتهم دون التعرض لطلبات الطاعن المثبتة في استئنافه) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب ما هو مبين في الاوجه الاتية :

الوجه الأول : اشكالية تحديد الارش في القانون اليمني :

تظهر هذه الاشكالية في  ان القانون اليمني حدد الارش على اساس العملة اليمنية السائدة وهي الريال اليمني  خلافا للأسس المعتمدة في الفقه الاسلامي حيث يتم  احتساب الارش على اساس نسبة من الدية الكاملة, ومعلوم ان مقدار الدية الكاملة كبير جدا (مائة من الابل او الف مثقال من الذهب) وقد قرر الفقه الاسلامي الدية بهذا القدر العظيم استعظاما لحرمة الدماء وحفظا لها باعتبار النفس مقصدا من مقاصد الشريعة, ولذلك فالفقه الاسلامي متفق على ان الدية عقوبة وليست تعويض وكذلك الحال بالنسبة للارش , ومن جهته قرر قانون الجرائم و العقوبات اليمني ان الدية والارش عقوبة وليس تعويضا ؛ وكان هذا القانون يقرر الدية والارش على اساس ان الدية الكاملة الف مثقال من الذهب الخالص الذي يعادل خمسمائة جنية ذهب ابو ولد والارش يكون نسبة من هذه الدية وبعد ذلك تم تعديل هذا النص عام 2006م حيث تم تحديد الدية على اساس العملة اليمنية الورقية وحسبما ورد في المادة (40) على ان تكون دية العمد وشبه العمد خمسة ملايين وخمسمائة الف ريال ودية الخطأ مليون وستمائة الف ريال والارش نسبة معينة من الدية بحسب الجناية وعند تقدير الديةبهذا المبلغ خلافا لاحكام الشريعة دافع بعض اعضاء مجلس النواب بان هذا المبلغ بساوي قيمة مائة من الابل !!!! وبموجب هذا التعديل فقد صارت الدية مبلغا تافها وذلك يخالف مقاصد الشريعة في استعظام الاعتداء على النفس او ما دون النفس, وفي الوقت الحاضر فقد صارت هذه العقوبة (الدية او الارش) غير رادعة بسبب تساهل القانون اليمني في ذلك خاصة حوادث السير التي تحصد ارواح اليمنيين, ولذلك نجد ان المجني عليه او  اولياء الدم يشعرون بعدم عدالة الارش او الدية, وذلك بدوره يحدث اشكاليات اخرى كالانتقام والثأر .

الوجه الثاني : اشكالية تحديد الجنايات وتسميتها :

في العصر الحاضر ظهرت وسائل الكشف الطبي الدقيقة التي تستطيع ان تحدد انواع الجراحات والجنايات واطوالها واعماقها وسمكها وعرضها ...الخ, وبناء على ذلك فلا اشكالية في الفحص والكشف وتشخيص وتحديد نوع الجراحات لان الاجهزة الطبية محايدة ولكن الاشكاليات تكمن في الضغوط والاغراءات والتهديدات التي يتعرض لها الاشخاص المكلفين بإعداد التقارير الطبية التي تتضمن البيانات الطبية عن الجراحات التي يتم الاستعانة بها لاحقا في تسمية وتحديد نوع  الجناية (هاشمة, ناقلة , باضعة, دامغة, ....الخ) فالتقرير الطبي في هذا الشأن يقتصر دوره على بيان مساحة الجراح والجناية وعمقها ....الخ, اما تحديد نوع الجناية بحسب المصطلح الفقهي (هاشمة, ناقلة ....الخ) فليس من اختصاص التقرير الطبي وانما هو من عمل القضاء اذا كانت القضية لدى القضاء او المحكمين ان كانت القضية منظورة عند محكمين, والغالب في اليمن ان  يتم تحديد نوع ومسمى الاصابة من قبل الامين الشرعي الذي يعتمد على البيانات الواردة في التقرير الطبي ولا مشكلة في ذلك اذا كانت القضية منظورة امام القضاء, حيث ان القضايا لا تحال الى القضاء الا بعد فترة من وقوع الحادث مع ان القانون قد نص  على ان تحال القضايا الجزائية الى النيابة خلال 24 ساعة الا ان اجراءات التقاضي طويلة ومعقدة حيث يقوم المجني عليه اواقربائه بإسعافه واخراج التقرير الطبي بأنفسهم ثم يذهبون الى الامين الشرعي لتحديد نوع ومسمى الجنايات وتقدير الاروش المحددة لها بالريال اليمني وعندئذ يكون التقرير الطبي ووثيقة تقدير الارش محل شك لان المجني عليه هو الذي سعى واستخرج هاتين الوثيقتين (التقرير الطبي ووثيقة تقدير الاروش) ولذلك نجد.ان الحكم محل تعليقنا لم يعتمد تقدير الارش الذي حدده الامين الشرعي بأكثر من ثلاثة مليون .

الوجه الثالث : اشكالية تحديد مصاريف وتكاليف العلاج و توصيتنا بإصدار قانون وهيئة للطلب العدلي:

الواقع ان هذه ليست اشكالية واحدة وانما اشكاليات عدة ؛ فتكاليف العلاج تختلف  من مستشفى الى مستشفى فإيهما المعتمد؟ ومامدى سلامة وصحة هذه  التقديرات ؟ ثم مامدى مناسبة هذا التقدير للجنايات التي لحقت بالمجني عليه, ثم ما مدى نهائية تقدير تكاليف العلاج والجنايات في احيان كثيرة تظهر مضاعفاتها في اوقات لاحقه على تقدير نفقات علاجها؟ ثم انه عند تقدير تكاليف العلاج طالما وهي متفاوتة من مستشفى الى اخر هل يتم مراعاة حالة المريض المجني عليه ام الحالة المالية للجاني المكلف بدفع تكاليف العلاج؟ لا شك ان الاجابة على هذه الاسئلة يعجز عنها القضاء والفقه والقانون ولن تجد لها اجابة شافية الا اذا قامت الدولة بإصدار قانون للطلب العدلي وهيئة تتولى الاشراف والتنظيم على تطبيق القانون المشار اليه, ولذلك فنحن نوصي وزارة العدل بالسعي الحثيث لاصدار قانون للطلب العدلي وكذا انشاء هيئة للطب العدلي .

الوجه الرابع : اشكالية تحديد التعويض عن الاضرار المادية والمعنوية التي تلحق بالمجني عليه من الجريمة :

ورد في منطوق حكم محكمة الموضوع ضمن وقائع الحكم محل تعليقنا ان المحكمة قد حكمت على المتهم بدفع مبلغ مليون وخمسمائة الف ريال للمجني عليه كارش ما لحق بالمجني عليه وتكاليف علاج داخل الجمهورية وخارجها وتعويض ما فاته من كسب اثناء رقوده مريضا ومخاسير ومصاريف تقاضي حسبما ورد في منطوق الحكم, وتظهر اشكالية تقدير التعويض في ان بعض احكام القضاء لا تشير الى ما لحق المجني عليه من ضرر مادي ونفسي من الجريمة حيث يتم اغفال هذا التعويض على اساس ان الارش وتكاليف ومصاريف العلاج هل بديل لجججكككهذا التعويض, وهذا الامر غير صحيح لان الارش عقوبة مالية وفقا لأحكام الشريعة والقانون فليست تعويضا كما ان مصاريف العلاج هي مستحقات مستشفيات وقيمة علاج وخدمات طبية فهي لا تسلم اصلا للمجني عليه وانما للجهات التي قدمت الخدمات الطبية والعلاجية للمجني عليه, ولذلك فان من حق المجني عليه شرعا وقانونا الحكم له بتعويضه عن الاضرار المادية والنفسية التي لحقت به جراء الجريمة .

الوجه الخامس : تداخل الارش والتعويض ومصاريف العلاج في الحكم محل تعليقنا :

تقدم القول بان محكمة الموضوع قد حكمت على المتهم بان يدفع للمجني عليه مبلغ مليون ونصف مقابل ارش وتعويض ومصاريف علاج ومخاسير تقاضي, أي ان المبلغ المحكوم به قاطع مقطوع دون تحديد  للأرش على حدة ومصاريف العلاج على حده وللتعويض عما فات المجني عليه من كسب على حدة ومخاسير التقاضي على حدة, ويلجأ بعض القضاة الى هذا التداخل والحكم بمبلغ اجمالي مقطوع لان التفصيل سوف تظهر تفاهة  المبالغ المحكوم بها للمجني عليه, ويعلل بعض القضاة هذا الامر على ان الشك يفسر لمصلحة المتهم, وهذا توسع في فهم هذه القاعدة.ماانزل الشرع والقانون به من سلطان ؛ ولكن الواقع ان التعاطف مع المتهم يغلب على التعاطف مع الضحية وهذا ليس نهج مقصور على بعض القضاة وانما قانون الجرائم والعقوبات قائم في كل احكامه على التعاطف الشديد مع الجناة واهمال ضحاياهم وقد ذكر ذلك اكثر من باحث, ولذلك نجد ان قانون الجرائم والعقوبات لم يحقق الوظيفة والهدف العام له في الردع والزجر العام والخاص وهذا بدوره يفسر كثرة وقوع الجرائم في اليمن؛اضافة الى ان الحكم بمبلغ اجمالي مقطوع عيب يترتب عليه غياب الرقابة القانونية على الحكم فلا تستطيع المحكمة العليا او غيرها معرفة الاحكام والضوابط القانونية التي استند اليها الحكم في تقدير المبالغ التفصيلية المكونة للمبلغ الاجمالي المقطوع، والله اعلم.