اعتماد الفواتير في تقدير التعويض
أ.د عبد المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة
صنعاء
من أهم الإشكاليات الواقعية العملية تقدير
القضاء للتعويض والوسائل والأدوات التي يعتمدها القضاء في التعويض لاسيما في ظل
اجراءات التقاضي السائدة التي تغلب عليها ظاهرة التذاكي والشطارة والمبالغة في
التقدير والموثرات والاغراءات والتهديدات والضغوط التي يتعرض لها الخبراء وغيرهم
عند تقديرهم للتعويض، ومن خلال المطالعة لأحكام القضاء في اليمن نجد أنها تدرك
المناخ والوسط الذي يتم فيه تقدير التعويض وان هذه الأحكام تعتمد التقديرات
العادلة للتعويض نظراً للخبرة والدراية التي اكتسبها القضاة ، ومن الإشكاليات التي
تتعلق بهذا الموضوع أيضاً عدم فهم غالبية المتقاضين والخصوم لنسبية التعويض أو التناسب فيما بين الضرر
والتعويض فهذه المسالة تناولها رجال الفقه الإسلامي أولاً ثم جاء من بعدهم بفترة
طويلة رجال القانون في الغرب الذي بحثوا
في هذه المسألة الجدلية (التناسب) ومع هذا وذاك فالحق يقال : ان هذه المسالة غائبة
تماماً عن أذهان الخصوم أو المتقاضين في اليمن وعدم فهم هذه المسألة يسهم في أطالة
إجراءات التقاضي وتعقيدها حيث ان غالبية الخصوم يطلب تعويضاً أكثر من الضرر الذي
لحقه ولا يتسأهل أن جاء التعويض مساوياً للضرر أو أقل منه بقليل ولذلك نجد كثرة
اعتراضات الخصوم وطعونهم في تقدير التعويض ، ومن هذا المنطلق نجد أنه من المناسب
الإشارة إلى هذه المسائل في سياق التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة التجارية
بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 15/12/2011م في الطعن التجاري رقم
(42164) لسنة 1431هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان احد التجار
اليمنيين قام باستيراد كمية من حديد البناء حيث تم شحن تلك الكمية على سفينة أجنبية
لها وكيل ملاحي في اليمن وعند وصول الحديد إلى الميناء اليمني اكتشف التاجر أن تلك
الكمية قد لحق بها الصداء جراء تسرب مياه البحر اليها في أثناء سيرها في عرض البحر
كما تسرب اليها زيت الهيدروليك حيث تعيبت تلك الكمية وفور وصول تلك البضاعة قامت
الجهات المعنية بفحص البضاعة فثبت لها وجود أضرار بالبضاعة في الصداء الذي أصاب
بعض الكميات بالتضافة الى تسرب الزيت
المشار اليها وبعدئذ قام التاجر برفع دعواه أمام المحكمة التجارية المختصة طلب
فيها الحكم له التعويض عن الضرر الذي لحقه جراء إهمال الناقل فطلب المدعي تعويضه
بمبلغ أربعة مليون وخمسمائة ألف دولار علماً بان القيمة الإجمالية للكمية هو سبعة
مليون وتسعمائة واثنان وسبعون ألف دولار وقد ردت المدعى عليها شركة الملاحة بأنها
تستغرب تعديل المدعي لقيمة التعويض من مليوني دولار إلى أربعة ملايين وخمسمائة ألف
دولار حيث أن المدعي لم يبين طريقة وكيفية احتسابه لمبلغ التعويض ، وقد قامت
المحكمة بتكليف ثلاثة خبراء خبير عن المدعي وخبير عن المدعى عليها وخبير مرجح
مختار من المحكمة وذلك لتقدير نسبة التلفيات او الضرر وبيان سبب الضرر ونسبته وقد اعتمدت المحكمة
تقرير الخبير المرجح المختار من قبلها لاعتماده في تقدير التعويض على فواتير
ومستندات موثوقة تصادق عليها الطرفان قلل.النزاع اضافة الى المعايير الدقيقة التي
اتبعها المحاسب في تقريره حيث قام بتصنيف
أنواع الضرر إلى بسيط ومتوسط وكبير وكبير جداً كما بين الخير في تقريره معدل الضرر
من اجمالي البضاعة وفي ضوء ذلك توصل الخبير إلى تقدير التعويض المستحق للمدعي
بمبلغ تسعمائة وسبعة وثلاثين ألف دولار وقد أعتمد الخبير على فواتير شراء البضاعة
وفواتير المبالغ الأخرى الملحقة بالفواتير كالأجور والتامين وخلافه) وقد ورد ضمن أسباب الحكم الابتدائي (
أما خلاصة ما ورد بتقارير خبراء المعاينة والتقدير الثلاثة وما قدره كل منهم
كتعويض للمدعي فقد اقتنعت المحكمة واطمأنت إلى ما جاء بتقرير الخبيرالمرجح المكلف منها الذي جاء مفصلاً ودقيقاً وشاملاً
لكل المسائل التي تفيد وجود ضرر على الحديد وأسباب ذلك ، ولذلك فان هذا التقرير
يعتبر دليلاً كاملاً في هذه الدعوى عملاً بأحكام المواد (165 و 173 و 175) من
قانون الإثبات كما أن قواعد العدالة تقتضي إضافة مبلغ ثلاثة وتسعين ألف دولار إلى
مبلغ التعويض الذي قدره الخبير المكلف من المحكمة حيث يصير أجمالي التعويض المستحق
للمدعي مليون وثلاثون ألف دولار) فلم تقبل الشركة الناقلة المدعى عليها بالحكم
الابتدائي حيث قامت باستئناف الحكم
الابتدائي ونعت على الحكم الابتدائي انه
احتسب مبالغ اضافية الى المبلغ الذي احتسبه الخبير المرجح المكلف من المحكمة مثل رسم التأمين وأجور النقل
وقد قبلت محكمة الاستئناف عريضة الاستئناف حيث قضت بان يكون مبلغ التعويض هو
المبلغ الذي قدره الخبير واسبعدت
محكمةتعريه مبلغ التعويض واستبعدت المبالغ التي أضافتها المحكمة الابتدائية (ان
الشعبة تطمنت إلى ما ورد في تقرير الخبير المكلف من محكمة أول درجة واطمأنت
النتيجة التي توصل إليها في تقديره للتعويض بالمبلغ المحدد في تقريره المقدم إلى
محكمة أول درجة) فلم يقبل صاحب الشحنة المدعي بالحكم ألاستئنافي فقام بالطعن
بالنقض في الحكم ألاستئنافي إلا ان الدائرة التجارية بالمحكمة العليا رفضت الطعن
وأقرت الحكم ألاستئنافي ، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا (اما ما ورد في
الطعن من النعي بأنه قد اعتمد في قضائه بالتعويض على المبلغ الذي قام بتقديره
الخبير المكلف من محكمة اول درجة فهذا النعي مردود عليه بان الخبير قد قام بالمسح
والمعاينة للبضاعة والاطلاع على كافة المستندات مبتدءاً من سند الشحن مروراً بالفاتورة
وأوراق القضية الخ .. ومن مقتضيات مهمة الخبير أن يقدر الضرر والتعويض ومحكمة
الموضوع تطلع على التقدير وتناقش الخبير فيه فإذا اقتنعت واطمأنت اعتبرت ذلك
دليلاً كاملاً وقد جاء في المادة (351) مدني ( ويكون التقدير على أساس ما لحق صاحب
الحق من ضرر محقق ...الخ) فاحتساب التعويض كان على أساس قيمته من واقع فاتورة
الشراء وخصم نسبة الضرر من القيمة ليس فيه مخالفة لما جاء في القانون من جبر
الضرر) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ما هو مبين في الأوجه الآتية :
الوجه الأول : ضابط تقدير التعويض :
حتى يكون التعويض عادلاً فان الشرع والقانون
لم يتركا تقدير التعويض من غير ضابط حيث أشار الحكم محل تعليقنا إلى المادة (351)
مدني والتي بينت الضابط الذي ينبغي مراعاته عند تقدير أي تعويض باعتبار القانون
المدني هو الشريعة العامة للقوانين كافة حيث نصت هذه المادة على انه (إذا لم يكن متفقاً
على مقدار التعويض في العقد أو بنص القانون فالقاضي هو الذي يقدره ويكون التقدير
على أساس ما لحق صاحب الحق من ضرر محقق بشرط أن يكون هذا نتيجة طبيعية اذا لم يكن
في استطاعة صاحب الحق ان يتوقاه ببذل جهد
معقول واذا كان الحق ناشئاً عن عقد فلا يحكم على الملتزم الذي لم يرتكب غشاً أو
خطأ جسيماً الا بتعويض الضرر الذي يمكن توقعه
وقت العقد) فهذه المادة صرحت بان تقدير التعويض ينبغي ان يكون على قدر
الضرر المحقق الفعلي الذي لحق بالمضرور بمعنى
ان يتم تقدير التعويض بقدر الضرر فلا يزيد
عنه ولا ينقص.
الوجه الثاني : إشكالية تقدير التعويض على أساس التناسب المطلق فيما بين الضرر والتعويض :
تقدير التعويض على أساس الضرر أو التناسب
فيما بين التعويض والضرر أمر يسير من الناحية النظرية لكن في الواقع العملي
فان هذا التقدير صعب للغاية لاسيما ان
الخصوم أو المتقاضون لا يفهموا فكرة التقدير ذاتها ، حيث ان فكرة التقدير للتعويض
تعني أن المبالغ التي يتم احتسابها كتعويض وان كانت على قدر الضرر الا انها عبارة عن أمور تقديرية اي تقريبية فلا ينبغي النظر إليها على أساس أنها
تمثل المبلغ المستحق فعلاً لان الحقيقة بمفهومها
المطلق لله سبحانه وتعالى فغالباً ما يقدر القضاء التعويضات أقل بقليل من
المبالغ المستحقة فعلاً لان التقدير يتم في ضوء معلومات وبيانات ومستندات وتقارير
وافادات ظنية أو تفيد الظن الذي يولد الشك والشك يتم تفسيره لصالح المدين أو
الملتزم وهو الشخص الذي بتم الحكم عليه بالتعويض علاوة على أن تقدير الضرر وقيمته
ظنية أيضاً تسرب الظن والشك إلى التعويض المقابل له (نظرية الالتزام لأستاذنا
المرحوم الأستاذ الدكتور مصطفى إبراهيم
2/131) ولذلك ينبغي على المضرور أن يتوقع ان لا يتم احتساب التعويض المستحق
له بحيث يكون التعويض مساويا تماماللضرر
الذي لحق به الا اذا تم احتساب التعويض على اساس فواتير اومستندات تصادق عليها
الخصوم.
الوجه الثالث : وسائل تقدير التعويض :
هناك وسائل عده لتقدير التعويض تختلف هذه
الوسائل باختلاف الضرر ونوعه ونطاقه ، فإذا كان الضرر بسيطاً وواضحاً فان القاضي
يقوم بنفسه بتقدير الضرر مثل التعويض على إتلاف الشيء الذي قيمته مبلغ ثابت
وأحيانا يتم تقدير التعويض عن طريق الوكيل الحصري أو المتعهد أو المورد للشيء
المتلف لان هولاء هم من يملك ويتعامل بالأشياء التي قد تتلف أو تتعيب ، وأحيان
اخرى يتم تقدير التعويض عن طريق خبراء أو عدول وقد اشرنا مراراً إلى إشكالية عدم
تنظيم أعمال الخبرة لعدم صدور قانون ينظمها ويحدد الخبرة والخبراء وغير ذلك.
الوجه الرابع : المستندات والبيانات التي يتم الاعتماد عليها في تقدير التعويض:
تحديد المستندات والبيانات المعتمدة في تقدير التعويض يكون من قبل الخبير أو القاضي الذي يكلف الخصوم بتقديم المستندات التي تدل على الضرر الذي لحق بهم وقيمته وتكاليف جبره وغير ذلك من الوثائق والمستندات ، كما أن الخصوم يقومون بتقديم المستندات مثلما حصل في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا ، ولا شك ان المستندات المثبتة للضرر أو للتعويض عن الضرر تتفاوت من حيث حجيتها الثبوتية ، ولا شك ان الفواتير عبارة عن سندات إثبات دفع واستلام المبالغ المثبتة فيها التي لا تخضع للتقدير والاجتهاد حيث انها مبالغ مدفوعة فعلاً وثابتة في تلك الفواتير التي جعلها العرف وسيلة ثبوتية قاطعة وان كانت هذه الفواتير سندات عرفية وليست رسمية. ، لذلك فلا تخضع المبالغ الثابتة في الفواتير للتقدير أو الاجتهاد بزيادتها أو نقصانها وكذلك الحال بالنسبة للمستندات التي تصادق عليها الخصوم صراحة، والله اعلم.