اثر التنازل عن دعوى مخاصمة القاضي

 

اثر التنازل عن دعوى مخاصمة القاضي

أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

لا شك أن لدعوى مخاصمة القاضي خصوصية ولكن هذه الخصوصية لا تخرج هذه الدعوى عن طبيعتها المدنية إذ تظل هذه الدعوى خاضعة لاحكام الدعاوى المدنية، ومن ذلك جواز التنازل عن دعوى المخاصمة مثلها في ذلك مثل غيرها من الدعاوى المدنية، ولأهمية هذا الموضوع فقد اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 26/1/2015م في الطعن رقم (56320) وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم أن أحد المحامين رفع دعوى مخاصمة ضد أحد أعضاء النيابة العامة أمام محكمة الاستئناف المختصة مدعياً بانه قد وقع من عضو النيابة المدعى عليه خطأ مهني جسيم وغش في عمله ، وقد رد على تلك الدعوى المدعى عليه بعدم صحة ما ورد في الدعوى، وفي تاريخ لاحق قام المدعي بالتنازل عن دعواه خطياً أمام المحكمة إلا أن المدعى عليه عقب على ذلك بان هذا التنازل لا محل له لان القانون قد نظم دعوى المخاصمة ولم يرد من بينها نص خاص بالتنازل عن الدعوى ، فحكمت محكمة الاستئناف بإعتبار القضية منتهية بالتنازل ومصادرة الكفالة وتحميل المدعي مبلغ مائة الف ريال مخاسير لعضو النيابة المدعى عليه ،وحيث أن الحكم قد قضية على المدعي بدفع المخاسير للمدعى عليه ومصادرة الكفالة المقدمة من المدعي   فقد قام المدعي بالطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي إلا أن الدائرة المدنية رفضت الطعن وأقرت الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا (والدائرة بعد رجوعها إلى أوراق القضية وجدت ان ما  اورده الطاعن من مناع لا سند لها من القانون حيث ان الثابت من الأوراق ان الطاعن قد تنازل عن دعواه حسبما ورد في المحرر ضمن أوراق القضية وقد حضر  معلناً ذلك أمام الشعبة التي كانت تقوم بفحص دعواه وفقاً للقانون بعد الإحالة اليها من رئيس محكمة الاستئناف مما جعل الشعبة تطبق المادتين (210 و 211) مرافعات فيما قضت به من مخاسير وهي مائة الف ريال للمدعى عليه، وهذا إجراء صحيح وسليم من الوجهة القانونية، كما إن الطاعن لم ينكر التنازل الصادر عنه أو يشكك فيه ولهذا فانه صحيح، اما القول بان التنازل لا يقبل في دعاوى المخاصمة وفقاً للمادة (144) مرافعات فهذا القول لا سند له من القانون حيث ان دعوى المخاصة تحكمها قواعد التقاضي المدني وفقاً لقانون المرافعات فالتنازل عنها جائز فضلاً عن ان التنازل يترتب عليه عدم قبول الطعن في الحكم المستند إلى التنازلً وفقاً للمادة (213) مرافعات  ،وهذا هو حال طعن الطاعن هنا حيث إنه بالاستناد إلى المادة (213) مرافعات يكون الحكم غير قابل للطعن ،فالحكم قائم ومستند على تنازل الطاعن نفسه كما انه لامجال للخوض في مدى صحة إجراءات الشعبة التي كانت تفحص القضية من عدمها لان الدعوى ذاتها قد تم التنازل عنها فصارت غير موجودة) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :

الوجه الأول : طبيعة دعوى مخاصمة القاضي :

من المقرر ان دعوى مخاصمة القاضي دعوى مدنية حيث يهدف المدعي في دعوى المخاصمة إلى الحكم له بالتعويض عما لحقه من ضرر بسبب الخطأ المهني الجسيم الصادر من القاضي اوغشه أو غير ذلك من أسباب دعوى المخاصمة،فالمدعي لا يهدف إلى مسأئلة القاضي جزائياً على الغش والغدر أو الخطأ المهني الجسيم الصادر عن القاضي وإنما يهدف إلى الحصول على التعويض المناسب للضرر الذي لحق به جراء خطأ القاضي الجسيم أو غشه أو غدره، وفي هذا المعنى نصت المادة (144) مرافعات على إنه (تجوز مخاصمة القضاة واعضاء النيابة العامة مدنياً عن طريق رفع دعوى المخاصمة للحكم بالتعويض ترفع وتنظر وفقاً للإجراءات المنصوص عليها في هذا القانون) فمن استقراء هذا النص يظهر ان دعوى المخاصمة دعوى مدنية ولذلك فهي تخضع للإجراءات المقررة في قانون المرافعات المدنية والتجارية مثلها في ذلك مثل الدعاوى المدنية التي ينظم قانون المرافعات إجراءاتها، ولذلك فقد قضى الحكم محل تعليقنا بجواز التنازل عن دعوى المخاصمة مثلها في ذلك مثل الدعاوى المدنية التي يجوز التنازل عنها بمقتضى قانون المرافعات.

الوجه الثاني : طبيعة أسباب دعوى مخاصمة القاضي :

عند التأمل في أسباب دعوى مخاصمة القاضي نجد انها في الأصل افعال ذات طابع جنائي إلا أن تحقيقها أو فحصها لدى الشعبة المختصة  لا يجعل القاضي عرضة للمسائلة الجزائية أمامها حيث أن العرض من ذلك التحقق فقط من مدى توفر السبب المدعى به لمخاصمة القاضي فاذا ثبت لديها  توفر السبب قررت الشعبة قبول الدعوى شكلا حيث يكون هذا القرار وليجة لاحالة الدعوى إلى شعبة أخرى للفصل في موضوع الدعوى والحكم بالتعويض إن كان له وجه،   فالقيام بفحص أسباب دعوى المخاصمة من قبل الشعبة ليس تحقيقا جنائيا أو مسائلة جزائية، لان المسائلة التأديبية عن تلك الافعال من اختصاص مجلس القضاء وفقاً لقانون السلطة القضائية، وفي هذا الشان فقد حصرت المادة (145) مرافعات أسباب دعوى المخاصمة في اربعة أسباب نجد انها في الأصل افعال جنائية ومع ذلك فقد صرح القانون على مدنية دعوى المخاصمة لان موضوعها هو التعويض عن الضرر الذي يلحق بالمدعي جراء تلك الافعال حسبما سبق بيانه في الوجه الأول، حيث عرضت المادة (145) أسباب دعوى المخاصة حيث  نصت على أن (تنحصر أسباب دعوى المخاصمة فيما يأتي : 1- اذا وقع من القاضي أو عضو النيابة غش في عمله -2- اذا وقع منه خطأ مهني جسيم -3- اذا امتنع صراحة او ضمناً عن النظر في الدعوى أو الفصل في قضية صالحة للحكم فيها بدون عذر شرعي -4- اذا اعترف القاضي انه تعمد الجور في حكمه أو انه قضى بغير الحق او بناءً على رشوة).

الوجه الثاني : وجوب فحص دعوى المخاصمة قبل الحكم في موضوعها :

من خصوصية دعوى المخاصمة ان الفصل فيها يتم على مرحلتين المرحلة الأولى لقبولها شكلاً والمرحلة الثانية لقبولها موضوعا ويتم ذلكً من قبل هيئتي حكم منفصلتين ،حيث تقوم هيئة الحكم الاولى بفحص الدعوى للتأكد من توفر وثبوت السبب المدعى به لمخاصمة القاضي او بالأصح الفعل المنسوب للقاضي فاذا ثبت لديها ذلك فانها تحكم بقبول الدعوى شكلاً، وبعدئذ تتم إحالة الدعوى المقبولة شكلاً إلى هيئة اخرى للحكم في موضوعها وهو التعويض، وهذا من ضمن خصوصيات  دعوى مخاصمة القاضي،ولاريب ان هدف هذه الاجراءات حماية القاضي من كيد الخصوم، وقد بينت المادة (149) مرافعات إجراءات قبول دعوى المخاصمة والفصل فيها.

الوجه الرابع : مدى جواز التنازل عن دعوى المخاصمة واثره في الحكم والطعن:

سبق القول بان قانون المرافعات نص على مدنية دعوى المخاصمة وإنها تخضع للإجراءات المنصوص عليها في قانون المرافعات على النحو السابق بيانه ويفهم من ذلك جواز التنازل عن دعوى المخاصمة بإعتبارها دعوى مدنية حسبما هو مقرر في المادة (210) مرافعات، ويترتب على التنازل الغاء جميع إجراءات الخصومة حسبما ورد في المادة (211) مرافعات كما ان التنازل عن دعوى المخاصمة يجعل الحكم المستند إلى التنازل نهائياً لا يجوز الطعن فيه حسبما قررت المادة (213) مرافعات، ولذلك لاحظنا ان الحكم محل تعليقنا قد قضى بعدم جواز الطعن في الحكم الذي استند إلى تنازل المدعي المخاصم للقاضي، والله اعلم.



الأسعدي للطباعة ت : 772877717